الأخ والزميل رشيد، أحييك بتحية أهل السجون الأحرار، عجل الله فرَجك، وأذكرك بدعوة أهل النبوة والرسالة والدعاة إلى الحق والعدل والشرفاء المجاهدين المقاومين والمناضلين في العالم أجمع ضد الظلم والاستبداد، منذ بداية الخليقة حتى عصرنا هذا، عصر الجور والطغيان، دعوة تركها نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام صادعة تُتلى في كتاب الله الكريم إلى يوم القيامة، لما ساومته امرأة عزيز مصر، إذ قال "ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه". بهذه الكلمات السامية سطر نبي الله يوسف لكل سجناء المبدأ والأخلاق والقيم خط الاستقامة كما أمر الله سبحانه، "فاستقم كما أمرت"، وأكد بأن الصبر في أداء الرسالة والجهر بالحق هو شرط الانتصار، مصداقا لقوله سبحانه، "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون". وها هو شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، حجة زمانه والعلامة الفارقة في تاريخ مواجهة العالِم للفسَاد بكل أشكاله، قد أعلنها مُدوية وهو يخوض معارك عديدة في مجتمعه، مع الأعداء الغزاة ومع علماء السلطان المتخاذلين، حين تم اعتقاله وسجنه ومحاكمته بتهمة "إشاعة الفساد بين العباد"، فقال كلمته الخالدة: "مايفعل بي أعدائي، إن سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة". إنها نفس التهمة التي وجهت إليك اليوم، مع تكييفها حسب مصطلحات دولة الحداثة اقتضتها ضرورة العصر، "تحقير مقرر قضائي ومحاولة التأثير على القضاء، والتبليغ بوقائع إجرامية غير صحيحة"، لا ينقص إلا أن يتهموك ب "التخابر مع جهات أجنبية ومحاولة قلب النظام بطريقة غير شرعية وامتلاك أسلحة غير مرخص بها" أو ربما اتهامك بالانتماء إلى خلية "بلعيرج" أو جريمة مقهى "أركانة". اعلم أخي رشيد أن في اعتقالك وسجنك ظلما سنة نافذة، رغم جوانبه المؤلمة واللاإنسانية وحرمانك من أهلك وحريتك وقلمك وواجبك الوطني وأصدقائك وقرائك، فيه حكمة إلهية، إذ في هذه الأوقات التي يزعم فيها النظام السياسي وأزلامه من بائعي الهوى السياسي، أن زمن التضييق على الحريات قد ولى وأن فجرا حقوقيا قد بزغ، فجر الإصلاحات الدستورية والسياسية، وفجر دولة المؤسسات واستقلالية القضاء وتقييد عمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بالقوانين والتشريعات، تشاء الأقدار أن يكون سجنك دليلا على هذا الفجر الكاذب وأن تكون شاهدا على عصر الزيف والانفصام السياسي في خطاب النظام الإصلاحي ولدى العديد من الأحزاب، التي لا ترى في التنديد باعتقالك ومحاكمتك إلا ابتزازا للنظام وخوض حملة انتخابية مبكرة. لقد أسقط اعتقالك ومحاكمتك أيضا القناع عن بعض "الإخوة الأعداء" الصحفيين، الذين لا يرتفع منسوب الشماتة عندهم إلا عند المصيبة، بدل أن يُعربوا عن دماثة الأخلاق والتضامن مع زميل تتنافس النيابة العامة والقاضي من أجل حرمانه حقا دستوريا، الأولى طالبت بأقصى العقوبة والمنع من الكتابة نهائيا في المغرب، والثاني أصدر حكما جنائيا وسياسيا ظالما، وليس مدنيا صحفيا، وهو سنة نافذة مع الحرمان من الكتابة خلال هذه السنة، بدل ذلك راحوا يشحذون أقلامهم الرخيصة ليُسَوِقوا الحكم الجائر على صفحات جرائدهم الأولى بالبند العريض وبلاحياء. اعتقالك يعزز موقف شباب التغيير الذين أحيوا أمة من موات، وكشف عن حقيقة خطاب النظام السياسي اللاديمقراطي واللاحقوقي، ورفع عاليا مطالبهم الحقة الداعية إلى إعادة السيادة للشعب، ابتداء من وضع الدستور إلى اختبار نوايا الحكم أسابيع فقط بعد خطاب 9 مارس، كما أفسد فرحة دعاة "العام زين"، الذين اعتبروا لجنة المنوني والأوراش الاحتفائية التي دشنتها السلطة فتحا مبينا وحلا لكل مشاكل ومأساة الشعب المغربي، هللوا للإصلاحات الدستورية قبل انتهاء لجنة المنوني من هندسة دستور بمقاسات موحدة وتصاميم جذابة ولغة هيروغليفية لن يقوى أحد على فك شفراتها إلا بعد عقود. أنت الحر وهم السجناء، مهما يكن الأمر حولك، اتفقنا أو اختلفنا بشأن خطك التحريري في بعض منعطفاته، تبقى قلما عصيا على الساسة وجهابذة المخزن، لذلك فوضوا أمرك للأجهزة الأمنية والاستخباراتية فأعدوا لك ملفا يفتقر للمهنية ويتميز بالارتباك والاستعجال، ثم أحالوه على قضاء لا يتردد في تطبيق القانون الجنائي في قضايا الصحافة وحرية التعبير وإصدار أحكام تحت الطلب. إنه مجرد أداة طائعة بين يدي السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية. أنت الحر لأنهم لم يسلبوك فكرك ورأيك ومواقفك وإنما حرموك من حقوقك، حقك في الكتابة وحقك في التجول. إن الحرية لا تطالها يد الطغاة والظلمة، لأنها تسكن الضمير والوجدان والروح والقلب. لقد منعوك من الكتابة ولن يقدروا على منعك من التفكير، منعوك من التجول ولن يقدروا على منعك من التأمل عبر الزمان والمكان وأنت في زنزانتك. الأخ والزميل رشيد، "اخترتُ السجن لكي أَصُون أحد مبادئ الصحافة"، بهذه الكلمات سطرت الصحافية الأمريكية جوديث ميلر بجريدة "نيويورك تايمز" موقفها وسُجنت 85 يوما منتصف العقد الماضي، لأنها رفضت الكشف عن مصادرها أمام مُدع كان يحقق في تسريب معلومات تتعلّق بكشف هوية عميلة لوكالة الاستخبارات الأمريكية فاليري بليم، زوجة السفير الأمريكي السابق جوزيف ويلسون. لقد قالت ميلر خلال محاكمتها "إنه جميل أن يكون المرء حرا"، وكأنني أسمعك تقولها وترددها لأنك أنت الحر وهم السجناء، "فاصبر، وما صبرك إلا بالله"، واجعل الأيام التي قدر لك العليم الخبير أن تقضيها في سجن العهد الجديد وقفة تأمل لهذا المشهد السريالي الذي يريد شهود الزور أن يجعلوه عهدا إصلاحيا بدون مضامين حقيقية. لقد ألفنا وتعودنا على أسلوبهم في سلب الحريات وإصدار الأحكام القضائية الجائرة، التي أدانها الملك عدة مرات، آخرها قضية معتقلي خلية "بلعيرج" والسلفية الجهادية، تحت ضغط جهات نافذة ومقربة من دوائر الحكم، وبآليات أمنية معهودة وقضاء جاهز للتنفيذ، ثم يصدر العفو الملكي ليحصد المخزن عائده السياسي والاجتماعي والحقوقي على حساب حرية المواطن، رغم ما يشكل ذلك من طعن في ذمة القضاء ومصداقية الحكومة واستخفاف بالبرلمان، ويجعل اللعبة السياسية، التي يديرها النظام عبر وسطاء ووكلاء وأحزاب ومؤسسات، مجرد لعبة بدون سياسية ولا أفق. [email protected]