قوة الرئيس في ضعفه السياسي: "هناك اتجاه عام ينحو صوب التصويت ضد ESTABLISHMENT (يستعمل هذا المصطلح الانجليزي للدلالة على الأقلية المحتكرة لِصالحها سلطةَ القرار في الدولة: المترجم)، سواء استحضرنا "البريكْسِت" الانجليزي، أو انتخابات "جيمي مورال" في غواتيمالا، و"بينينيو أكينو" بالفيليبين، فإننا نقف على نفور مُعَمَّم من النُّخب السياسية العالمية"، (Bertrand Pinon, de l'AFP). أصبح جليا الآن، بعد هذا البيغ بونغ الانتخابي لدونالد ترامب، وهو المرشح الجمهوري الذي أثار ما يكفي من السخرية والغضب، والخوف في حملته الانتخابية-وقد انتهت حتى بانقلاب بعض أنصاره، من كبار الجمهوريين على نهجه الفظ – أن الرجل عرف كيف يُحول نقط ضعفه السياسية، التي انفضحت في مواجهاته مع منافسته الدبلوماسية المخضرمة الشرسة، إلى قوة انتخابية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الانتخابات الأمريكية. لقد استثمر في هذا الضعفِ، بالضبط، ليقول للطبقة الوسطى، وهي الهيئةُ الناخبة الضاغطة، التي عانت طويلا –بفعل تداعيات الأزمة المالية-اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، مع الديمقراطيين والجمهوريين، على السواء: ها أنتم، مع منافستي رفيعة التكوين، إزاء الدليل القاطع على كون المستفردين بقمة السلطة، من التماثيل الشمعية الراسخة في السياسة والدبلوماسية والتدبير، هم سبب الأوضاع الصعبة التي تعيشونها، إضافة إلى كونهم سبب ما يعاني منه العالم من مشاكل. وبقدر ما اطمأنت التوقعاتُ والتحليلات–داخليا وخارجيا-إلى فوز سهل لمن ظلت سيدة أمريكا الأولى لمدة ثمان سنوات، وكاتبة للدولة في الخارجية لأربع سنوات، إضافة إلى تجاربها الانتخابية الأخرى، كان دونالد ترامب يجتهد في النيل من منافسته، بناء على التوقعات إياها، باعتبارها حجة على أن أوضاع الأمريكيين لن تتغير، مع رئيسة مريضة لا يمكن أن تعطي أكثر مما أعطت، وهي في كامل قوتها. رئيسة لا يمكن أن تتحرر من الإرث الثقيل للبيت الأبيض، وهي من صُناعه ومُوثقيه، يُضاف إلى هذا تكلس المؤسسات العامة والخاصة، لأنها مُبرمجة لخدمة مصالح النخبة فقط. ولإحداث الرجة المطلوبة، ليتمرد الناخب الأمريكي الشعبي على المعايير الانتخابية التي رسخها الجمهوريون والديمقراطيون على السواء، ولدفعه صوب الانقلاب على قناعاته، وثقافته السياسية السطحية أصلا، كان لا بد من توابل تتجاوز تطييب الطعام إلى جعله لاذعا، منها: *الالتزام ببناء جدار يفصل المكسيك عن التراب الأمريكي، ليضع حدا للهجرة. *منع المسلمين من الدخول إلى البلاد. *تسهيل التسلح الفردي. *الاعتراض على الإجهاض. *الانقلاب على التزامات الدولة المناخية إزاء العالم (كوب 21). * نقض الاتفاقيات النووية مع إيران. هذه الوعود بالغة الإثارة والاستفزاز جعلت الحافر يقع على الحافر، اعتبارا لكراهية الأمريكيين البيض للمهاجرين، من المكسيك وغيرهم من دول أمريكا اللاتينية، وهي كراهية اقتصادية أكثر منها عرقية. واعتبارا لكون الأمريكيين اليوم يُدلون بأكثر من دليل لاعتبار كل المسلمين إرهابيين، ناشطين أو نائمين، ولو في الأرحام. واعتبارا لثقافة وقِيم الأمريكيين القتالية، منذ وطئوا تراب العالم الجديد، ثقافة جعلت حمل السلاح الفردي ليس دليل رجولة فقط، بل حقا دستوريا لا يمكن نقضه، كما يحاول الديمقراطيون، وخصوصا باراك أوباما. واعتبارا لكون اتفاقيات المناخ–حسب ترامب-مجرد تَجاوب للعالم مع خُدع صينية تستهدف ردع النمو الصناعي الأمريكي، مما سيزيد من حدة البطالة. وفي هذا الإطار، نوه بإعادة الاستثمار الطاقي في الفحم الحجري، وزيادة الاستثمار في النفط الصخري، لتحقيق الاكتفاء الذاتي. ولم يفُته إبراز أضرار الطاقة الريحية على صحة الأفراد. (يعرف دونالد ترامب، جيدا، أن هذا الخطاب المتطرف، في مجال البيئة والمناخ، يلقي عرض الحائط بكل الدراسات العلمية المعتمدة أمميا ودوليا لإنقاذ العالم من أخطار بيئية حقيقية، لكنه يصر على توظيفه انتخابيا، تجاوبا مع شعبوية أمريكية لا ترى في كل هذا غير ألاعيب ل ESTABLISHMENT، لزيادة الاستفراد بالسلطة، والثروة المتأتية من الاستثمار في الطاقات المتجددة). أما الاتفاق النووي مع إيران فلم ير فيه سوى تمكين هذه الدولة من التفرغ لإنتاجها الحربي المهدد لإسرائيل، إضافة إلى دعمها للإرهاب الديني في الشرق الأوسط والعالم. درس البريكست الانجليزي: لعل ترامب أفضل من فهم واستثمر درس الاستفتاء الذي أخرج–فجأة–المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي رغم حرص حكومة كاميرون، وأقطابِ السياسة والاقتصاد، الانجليز والأوروبيين، على الدفع صوب تجنب "حماقات" الناخب البريطاني الشعبي المنتفض ضد النظام القائم، ولو بتدمير المعبد عليه وعلى أعدائه. إن الثقافة التي أنتجت فورة الناخب البريطاني ضد الركود الاقتصادي، والتحنيط السياسي، تشتغل أمريكيا أيضا، للروابط التاريخية المعروفة، والمصير المشترك، سِلما وحربا. وما حرب العراق التي دخلتها بريطانيا، وهي غير مقتنعة بها، ببعيدة عنا. لقد تحسس دونالد ترامب، بجوارح متطورة صَقلها "الماركيتينغ"، هبوبَ الرياح، ووجهَتها، فعرف أنها شعبية كاسحة، لا تقرأ ُكتابا ولا تعتد بتجربة، ولا تراعي مصلحة. ومن هنا كانت نكبة هيلاري كلينتون التي ظلت وفية لمدرسة الديمقراطيين، وزوجها بالخصوص، في إدارة الحملات الانتخابية. اجتهدت في إبراز نقائص منافسها دون أن تنتبه إلى كونها تُقيم الحجة على أن هذا المنافس يختلف تماما عن كل الرؤساء الأمريكيين. وهذا، بالضبط، ما أصبح مطلبا للناخب الأمريكي الذي سئِم جمودَ النظام، والتضييق على الحريات وتفاقم البطالة. أجهدت نفسها في الإقناع بأفضلية الاستقرار، الداخلي والخارجي، دون أن تعرف من أين أصبحت الرياح تهب، في العالم بأسره. ناضلت من أجل الإدلاء برصيدها في تدبير الدولة، أمام شعبوية تكره الأرصدةَ المجمدة، في كل شيء (خصوصا وأرصدة منافسها منتشرة في كل العالم). وبقدر ما حرصت كلينتون على تلميع البروتوكول، حرص ترامب على توزيع قبعات "البيزبول. وحتى حينما نقب الديمقراطيون في أرشيف الرجل الجنسي، وُجد من الحشود الشعبية، من يرد عليهم بقوله: Lui, au moins, il a des couilles. وباختصار، صنعت من تكوينها وتجاربها هزيمة، وصنع بضعفه السياسي، وبشعبويته وثعلبيته، ومعرفة اتجاهات الرياح-كما في عالم المال-نصرا ساحقا. طبعا ستمضي الرئاسة الأمريكية الخامسة والأربعون مختلفة، غالبا، عن كل سابقاتها، دون أن يعني هذا الانقلاب على مصالحها الاستراتيجية عبر العالم. وقد بدأ فريق دونالد ترامب الإعلامي، فعلا، في تشطيب موقعه على "تويتر" من كل الشوائب التي من شأنها أن تضر بهذه المصالح. لكن يخطئ كثيرا من يعتقد أنها كانت مجرد فقاعات انتخابية، كما يحصل عندنا، لأن الحس المالي المقاولاتي لدى الرئيس الجديد لا يتحمل الخسارة، مما سيجعله من الآن يفكر في كسب الرئاسيات المقبلة، بالاعتماد على هيئة ناخبة شعبية أكثر اتساعا. ولن يتحقق هذا بالانقلاب الكلي على البرنامج المعلن. أية دروس لنا في المغرب من كل هذا؟ إن الفورة الانتخابية الشعبية التي عرف ترامب كيف يُحدثها، خصوصا وهو الملياردير الناجح، في عالم براغماتي يؤله المال، وجدت متنفسا لها في انتخابات نزيهة، تشرف عليها دولة المؤسسات القوية، ومن هنا انحصار فورتها في التوجه بكثافة إلى مكاتب التصويت لإسقاط "النظام" (على طريقة منازلات الكوبوي). في دولة الولاياتالمتحدة، الراسخة في الديمقراطية، لا يمكن تصور ربيع أمريكي يطالب بإسقاط الفساد، أو النظام، في الشوارع، وتحت الخيام في ميادين التحرير. هم لا يؤمنون سوى بصناديق التحرير، وإن كانوا هبوا لها، كما لم يفعلوا من قبل، متأثرين بواقع الحال في العالم؛ حيث كل شيء ينحو نحو الجِدة: نظام عالمي جديد، خرائط جديدة، تعامل مناخي جديد... من هنا ضرورة الإصغاء الجيد إلى وضعنا السياسي والانتخابي، والدولتي، الذي لم يعد يُغري إلا الفئة المستفيدة منه. إن نسبة 70 في المائة من المواطنين، المؤهلين للمشاركة في الانتخابات والحياة السياسية، توجد خارج التغطية، لأسباب ذاتية وموضوعية. ومن هنا ضرورة اعتبار هذه النسبة جزيرة خوف، كما عبرت سابقا. لا متنفس لهذه النسبة–مادامت لا تطمئن لحياتنا السياسية ومخرجاتها-سوى في الشارع، تعبر فيه عن رغبتها في إسقاط ESTABLISHMENT. حتى وإن كان ترامب الشعبوي ذكرنا ببنكيران؛ إذ واجه حركة 20 فبراير بوعود تبين أنها كانت خارج النوايا الحقيقية، وأكثر من هامش الحركة المسموح به في دولة غير راسخة في الديمقراطية، فإن هذا الأخير–وإن انتصر انتخابيا-دخل مرحلة الخفوت والتلاشي سياسيا، حتى عروضه الحكومية لم تعد تغري كثيرا. أين البديل؟ أراه في إحداث رجة سياسية وطنية، تَخُضُّ المواطنين خَضا لينتبهوا إلى أن شيئا ما في جسد الوطن يؤلمه. لا أقوى من شهادات ملكية تطعن في الإدارة، التدافع الانتخابي، والمنهج الغنائمي في تشكيل الحكومة. هي ثورة للملك، فهل ننتظر "ليوطي" آخر لنعلن ثورة للشعب على الفساد بالتزام الأخلاق، وعلى اللامبالاة بالمشاركة، وعلى العزوف السياسي بالانخراط الحزبي، النضالي وليس النفعي، وإسقاط الأمناء المتكلسين والريعيين، وعلى الجهل بالإقبال على التعلم... إنها جبهات عِدة يمكن أن تُفتح–بنظام وانتظام-ليدِب العنفوان من جديد في الجسد الوطني المُنهك. لِنرقَ، دولة وشعبا، إلى مستوى الفورة الانتخابية الأمريكية التي رجت العالم رجا، لكن ليس اعتمادا فقط على ميادين التحرير التي يسهل على الغربان أن تُحلق فوقها. من السهل جدا أن نردد كل الشعارات، لكن ما أصعب أن نبدع أساليب تنفيذ الوجيه منها. هل الحكومة التي تتشكل حاليا في مستوى الرجة المطلوبة؟ لا أعتقد، لأن كل الأحزاب، المشاركة في الحوار، تؤمن بالتحكم، ولا تؤمن بمحاربة الفساد. وما بهذا تشفى العلل. Sidizekri.blogvie.com