هذا العام كان مليئا بالتشويق والإثارة ولحظات الشك والخوف على مصير الأمة، وفي تقدير البعض، مصير العالم حتى. دونالد ترامب وفريقه هندسوا حملة انتخابية تفتح متخيل الأمريكي على تلك الأحداث التي يراها في قاعات السينما، وبجانبها حل من الحلول التي يبتكرها المخرجون عادة لفك تلك الأحداث، بناء جدران، إخلاء ولايات من سكانها، إرسال "الدخلاء" في سفن إلى ما وراء البحار، أو لِمَ لا إلى المريخ…! ترامب يعلم أكثر من غيره أن أمريكا دولة مؤسسات وتوازن القوى وفصل السلط (checks-and-balances)، وفيها قضاء حر ونزيه لن يسمح ببناء جداره العنصري، ولا بطرد أمريكيين من أصول مهاجرة، ولا تشريع قوانين معادية للمسلمين، أو أي فئة على أساس العرق أو الدين أو غيرهما… لكنها الانتخابات، والخطاب الشعبوي، بالنسبة إلى ثري أمريكي لا طاقة له بحفظ الكلام المنمق وترديد الأحاديث المملة، طريق سريع لجذب الأصوات واهتمام الإعلام. كلينتون في المقابل وجدت نفسها أمام أزمة سياسية سببها الرسائل الإلكترونية، والفضائح التي تضمنتها، من تلقي هبات وتبرعات مشبوهة أو تقديم استشارات وتمرير مواقف وغيرها. والناخب الأمريكي بين أفكار ترامب العنصرية، وسيرة كلينتون السياسية المشبوهة. في بعض اللحظات اشتدت المعركة الانتخابية بقوة بين المتنافسيَن واتضحت تلك العلاقات المعقدة بين المؤسسات الأمريكية. كما حصل لحظة أعلن مدير "إف بي آي"، "جيمس كومي"، في آخر أسبوع من الحملة، أنه قرر إعادة فتح التحقيق في قضية رسائل كلينتون بناء على معطيات جديدة (كان سبق أن أُغلق الملف). ذاع الخبر في الإعلام، وصارت شعبية ترامب قاب قوسين أو أدنى من كلينتون في استطلاعات الرأي، وعمّت حالة استنفار في البيت الديمقراطي، وكثرت التساؤلات عن توقيت هذا الإعلان المريب ل"كومي". مدير "إف بي آي" برّر قراره بالخوف من أن يؤول صمته على معطيات جديدة انحيازا لكلينتون وأن يُلام بعد نتائج الاقتراع، ففضل أن يبوح بما لديه الآن ويريح ضميره. لكن الإعلان صبّ في صالح ترامب بشكل مباشر في حقيقة أكدتها الاستطلاعات المتواصلة، بل من المؤسسات الاستطلاعية من كانت ترى أن هذه الشعبية الصاعدة بفعل تصريح "كومي"، ستصل ذروتها يوم الاقتراع، أي بفوز ترامب. هنا مرة أخرى يفاجئك النظام الأمريكي. عملاء "إف بي آي" حلّلوا مضمون 650 ألف رسالة في ظرف ثمانية أيام!، ليخرج "كومي" بتصريح جديد في آخر أنفاس الحملة المستعرة، قبل يومين بالضبط، ويقول إن: "هيلاري بريئة والمكتب يؤكد موقفه السابق بعدم وجود داع لملاحقتها". من جديد، ظهر أثر الإعلان على استطلاعات الرأي، واستشاط الملياردير غضبا، شعر ب"الضربة"، إعلان البراءة في هذا التوقيت أقوى أثرا من إعلان الشبهة قبل أسبوع.. المشوار إلى رئاسة أمريكا مشوار طويل وشاق وحقيقي، ويحتاج إلى كثير من التواصل، وإلى مواقف واضحة وصريحة، والقدرة على المناظرة واحترام ذكاء الناخبين، وتقديم وعود والبرّ بها، والاختلافات بين المرشحين اختلافات حقيقية وجذرية تساعد على الاختيار ووضوح الرؤية: ترامب ضد أي قيود على حمل السلاح، هيلاري مع تقنين ملكية السلاح، ترامب ضد برنامج الرعاية الصحية لأوباما، هيلاري كلينتون مع توسيع المستفيدين منه، ترامب مع بقاء بشار الأسد، هيلاري مع إسقاط الأسد.. ورغم ذلك، قد تسمع عزيزي القارئ من يقول لك إنه لا فرق بين كلينتون وترامب، وأن الانتخابات في أمريكا لا تؤخر ولا تقدم، وأن النظام العميق (The establishment) يتحكم في كل شيء، وما الرئيس إلا دمية طيعة في يد ذلك النظام ولوبياته، والديمقراطية وهمٌ ولا وجود لها إطلاقا، وهذا كلام تبسيطي، هو في الغالب نتاج لتلقي الخبر والمعلومات حول النظام السياسي الأمريكي بشكل محرّف أو مُؤدلج أو مسيّس، من أشخاص يلائمهم ويواتيهم أن تظهر الديمقراطية بلبوس الوهم البعيد المنال، وأمريكا في صورة تشبه أنظمتهم الاستبدادية الرديئة، فإذا كان التشبه بديمقراطية أمريكا مكلّفا، فمماثلة استبدادها الموهوم رخيص..