محمد السادس رجل إفريقيا بامتياز اتسم الخطاب بشموليته ووضوح رؤيته في شرح عقيدة المغرب المتعلقة بالشأن الإفريقي، فمن جهة جاء ليكسر مقولة أن المملكة مرتبطة بالجزء الغربي فقط للقارة الإفريقية؛ وهو ما أكدته جولة الملك محمد السادس الأخيرة في شرق إفريقيا بما يشمل رواندا وتنزانيا، ثم إثيوبيا - (التي تمت برمجتها ضمن الجزء الثاني من هذه الجولة في مرحلة لاحقة من هذا العام).. ويبدو هذا واضحا في قول جلالته: "إن السياسة الإفريقية للمغرب لن تقتصر فقط على إفريقيا الغربية والوسطى، وإنما سنحرص على أن يكون لها بعد قاري، وأن تشمل كل مناطق إفريقيا. وفي هذا الإطار قمنا بزيارات إلى كل من رواندا وتنزانيا، رغم أن العلاقات مع دول إفريقيا الشرقية لم تكن كافية، ليس بسبب الإهمال أو التقصير، وإنما لمبررات موضوعية، كاللغة والبعد الجغرافي، واختلاف الموروث التاريخي. وبإرادة مشتركة مع القيادات القوية لهذه الدول قررنا أن نضفي دينامية جديدة على العلاقات الاقتصادية والسياسية بين بلداننا، لما تمثله هذه المنطقة من وزن سياسي وما تتوفر عليه من طاقات اقتصادية، ومؤهلات إستراتيجية". صحيح أن القرب الجغرافي ميز علاقات المغرب مع دول إفريقيا الغربية، لاعتبارات متعددة تاريخية وسياسية وجغرافية واقتصادية. فالمغرب يتقاطع مع غرب إفريقيا في التاريخ المشترك للاستعمار الفرنسي ومخلفاته، ولكن قبل كل هذا يتقاسم معها تاريخا طويلا من التلاقح الحضاري الثقافي والديني والمذهبي والتجاري. الملك يتواصل مع شعبه عن نتائج جولته لشرق إفريقيا: إعادة هندسة المغرب لعلاقته مع دول الجنوب، وعزمه على ترسيخ قيم التضامن القاري، جعلته منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش يوسع روابطه القارية، بغض النظر عن القرب الجغرافي، ولذا لم تكن زيارة الملك محمد السادس إلى شرق القارة مجرد جولة بروتوكولية، بل وكما وصفها الملك في خطابه التواصلي مع شعبه مكنته زيارته إلى رواندا "من ترسيخ هذا التوجه، بوضع أسس شراكة واعدة، في مختلف المجالات، وجعلها محورا أساسيا، لتطوير علاقاتنا مع هذه المنطقة". كما جاءت زيارته إلى تنزانيا "تقديرا لمكانتها الإقليمية، ولثقلها الجغرافي والبشري، وحرصا على التنسيق معها في القضايا الإقليمية والدولية" - يقول جلالته-. والملك محمد السادس عازم على القيام بجولة ثانية بزيارة إثيوبيا، وربما دول أخرى من دول إفريقيا جنوب الصحراء. وطبعا إلى جانب الحب العميق الذي يحمله الملك محمد السادس للقارة السمراء، لا يخفي جلالته الحرص الكبير على مصالح وحدة المغرب وسيادته، وفي مقدمتها الدفاع عن صحرائه التي انتزعها المغرب من المستعمر الإسباني بعد تنظيم المسيرة الخضراء قبل واحد وأربعين سنة؛ غير أن دولا وقوى معادية للمغرب تآمرت عليه، وقامت بتمويل ودعم حركة البوليساريو الانفصالية. العودة إلى الاتحاد الإفريقي خيار إستراتيجي: في هذا السياق، يقرر المغرب العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي. عودة يصفها الملك محمد السادس بأنها "قرار منطقي، جاء بعد تفكير عميق"، و"ليست قرارا تكتيكيا"، ولا "لحسابات ظرفية". والمغرب، الذي غادر منظمة الوحدة الإفريقية بعد خرق ميثاقها التأسيسي بقبول ضم دولة وهمية ممثلة في كيان "الجمهورية الصحراوية"، يدرك أن الشروط باتت اليوم ناضجة لعودته الكاملة. ويشرح جلالته اكتمال هذه الشروط بقوله إن "المغرب راجع إلى مكانه الطبيعي"، علاوة على توفره "على الأغلبية الساحقة لشغل مقعده داخل الأسرة المؤسسية الإفريقية." وفي نقد لاذع من الملك محمد السادس للدول التي لا تحترم سيادة الدول، ووحدتها، بل وتعطل كل شعارات التضامن الإفريقي، قال جلالته إن "المغرب، الذي لا يتدخل في السياسة الداخلية للدول، ولا ينهج سياسة التفرقة، يأمل أن تتعامل كل الأطراف مع هذا القرار، بكل حكمة ومسؤولية، لتغليب وحدة إفريقيا، ومصلحة شعوبها." في مقابل كل هذا، أوضح الملك محمد السادس أن قرار عودته إلى الاتحاد الإفريقي لن يكون مشروطا بأي تنازل أيا كان، مؤكدا أنها "لن تغير شيئا من مواقفنا الثابتة، بخصوص مغربية الصحراء". ولقطع التأويلات المغلوطة التي تحاول بعض الجهات تسميم الرأي العام الدولي بها، أوضح الملك محمد السادس أن عودة المغرب "ستمكننا من الدفاع عن حقوقنا المشروعة، وتصحيح المغالطات التي يروج لها خصوم وحدتنا الترابية، خاصة داخل المنظمة الإفريقية". الأمر لا يقتصر عند هذا، بل إن هناك مؤامرات ومناورات قد تحاك داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، من أجل توريط المنتظم الإفريقي والدولي في تبني قرارات تتنافى مع مواثيق وتقاليد وآليات العمل المعتمدة من لدن الأممالمتحدة، ولذا أكد العاهل المغربي عزمه "على منع مناوراتهم، لإقحامها في قرارات تتنافى مع الأسس التي تعتمدها الأممالمتحدة لحل هذا النزاع الإقليمي المفتعل، وتتناقض مع مواقف أغلبية دول القارة". وطبعا لم يكن للمغرب أن يقدم على قرار العودة، ما لم يكن هناك عمل وجهد جباران لسنوات طويلة من الأداء الدبلوماسي تجاه إفريقيا، "بدأت تعطي ثمارها، سواء على مستوى المواقف السياسية بشأن قضية وحدتنا الترابية، أو من خلال تعزيز الحضور الاقتصادي للمغرب، وتطوير علاقاته مع مختلف دول القارة"، يقول جلالته. القيمة المضافة للمغرب في تعزيز التضامن الإفريقي: قام المغرب بجهود رائدة في تدبير أدائه الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، أسس لها الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش بفتح ورشات متعددة ومتقاطعة شملت محاربة الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وإصلاح وترشيد الأداء الحقوقي، وخلق لبنات للرفع من الأداء الاقتصادي للمغرب قاريا ودوليا، وترسيم دولة القانون من خلال دستور عام 2011، علاوة على انفتاح المغرب على شركاء من كل القارات. هذه كلها جهود يقطف المغرب اليوم بعض ثمارها، وهو ما مكنه اليوم كما يقول جلالته من أن "يعد قوة إقليمية وازنة، ويحظى بالتقدير والمصداقية، ليس فقط لدى قادة الدول الإفريقية، وإنما أيضا عند شعوبها". وهي رسالة قوية للرأي العام الإفريقي، الذي سيستقبل عودة بلد-أخ، وهو متأكد من أنها ستزيد من تضامن القارة وشعوبها، سواء بما راكمه المغرب على المستوى العالمي من حيث الخبرة السياسية والفنية داخل المنتديات والمنظمات الدولية، ما سيتيح له بعودته "الانخراط في إستراتيجيات التنمية القطاعية بإفريقيا، والمساهمة الفعالة فيها، وإغناءها بالتجربة التي راكمها في العديد من المجالات"، إلى جانب الدور الذي يمكنه الاضطلاع به من أجل "إسماع صوت القارة في المحافل الدولية"، أو من خلال عمله "الميداني التضامني، الذي يقوم به، مع العديد من دول القارة، على مستوى النهوض بالتنمية الاقتصادية والبشرية، في سبيل خدمة المواطن الإفريقي". "لقد لعب المغرب عدة أدوار رائدة في عمليات توطيد الأمن والاستقرار بمختلف المناطق التي تعرف التوتر والحروب، والعمل على حل الخلافات بالطرق السلمية"، وهو ما تشهد عليه مثلا – لا حصرا- المساهمات ذات الطابع الإنساني التي اضطلعت بها المشاركة المغربية في عمليات حفظ السلام والمساعدة على إعمار المناطق المتضررة من الحروب، وفي بعض بؤر التوتر الإفريقية، مثل مشاركته في أنغولا خلال السبعينيات، وبالزايير(سابقا) في نهاية السبعينيات، والمشاركة المغربية في حرب الصومال، ثم في مراحل متأخرة بعدة عمليات كانت آخرها بإفريقيا الوسطى وكوت ديفوار والكونغو الديمقراطية. هذا طبعا بغض النظر عن عمليات التعاون الأمني والاستخباراتي ضد الإرهاب في عدة دول إفريقية، خاصة مالي وليبيا وتونس وكوت ديفوار وغيرها. وإذا كان المغرب يعتبر من الدول الآمنة عالميا بفضل سياسته الناجعة في مكافحة التطرف والإرهاب، فإن الملك يعي القيمة المضافة التي يمكن أن يساهم بها من داخل منظمة الاتحاد الإفريقي، إذ ستمكنه العودة "من تقوية انخراطه في الجهود القارية لمحاربة التطرف والإرهاب، الذي يرهن مستقبل إفريقيا" – يشرح جلالته. ولعل من أعقد المعضلات التي تعيشها إفريقيا مشكلة الهجرة. وكان المغرب قد قام بجهود جبارة في تدبير مشكلة اللاجئين الأفارقة الذي يختارون من المغرب مرتعا لهم أو نقطة عبور نحو أوروبا. سواء بإصلاح منظمته القانونية المتعلقة بتدبير شؤون الهجرة والإقامة غير الشرعية، أو من خلال تسوية وضعية أعداد هائلة من المهاجرين الأفارقة عام 2014، شملت طالبي اللجوء المعترف بهم من قبل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالمغرب، وعديمي الجنسية، والذين قدرت أعدادهم ب850 شخصا، من بينهم عدد كبير من الأطفال. وفي سياق تعاطي المغرب التضامني مع دول القارة، أكد العاهل المغربي في خطابه أن البلاد "ستواصل جهودها من أجل معالجة الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، وربطها بالتنمية واعتماد مقاربة إنسانية وتضامنية، تحفظ حقوق المهاجرين وتصون كرامتهم". ولم يفت الملك محمد السادس الوقوف على أهمية القضايا المناخية والبيئية، خاصة أن مراكش تحتضن مؤتمر "كوب 22" للمناخ، إذ أكد أنها ستحتضن على هامش المؤتمر قمة إفريقية حول المناخ، "بهدف بلورة رؤية موحدة للدفاع عن مطالب قارتنا، وخاصة في ما يتعلق بالتمويل ونقل التكنولوجيا." إفريقيا في قلب السياسة الحكومية المغربية: في ربط حكيم، دعا الملك محمد السادس الحكومة التي ستتشكل قريبا إلى بناء "سياسة مستقبلية شاملة ومتكاملة تجاه إفريقيا، وأن تنظر إليها كمجموعة". ولعل لهذا الربط أسبابه الموضوعية، إذ إن مخرجات مئات الاتفاقيات التي وقعها المغرب مع عدد كبير من دول إفريقيا تشمل الاستثمارات والتبادل المالي والتجاري والتعاون القطاعي، والتنسيق الأمني والضريبي والقنصلي والجمركي. وهي كلها قطاعات تشكل اختصاصات وزارية، وتتفاعل تأثيراتها على الميزانية كما على سوق الشغل، علاوة على العمل الدبلوماسي. كما من الطبيعي أن تكون مخططات الحكومة متناسبة مع هذا الخيار القاري الذي أصبح يحظى اليوم بأهمية خاصة في سياسات المغرب. لكن هذا الخيار سيزداد تأثيره أكثر على السياسات العمومية للملكة بعد عودتها إلى المؤسسة القارية الإفريقية، التي ستكون بمقتضاها الحكومة المغربية ملزمة بالتعاطي مع تشريعات وهياكل التنسيق القطاعي التابعة للاتحاد الإفريقي. الأقاليم الجنوبية محور التعاون المغربي وعمقه الإفريقي: بهذه العبارة وصف الملك محمد السادس الأقاليم الجنوبية، بموقعها الجغرافي، وبما أصبحت تتوفر عليه من "الإمكانات، من أمن واستقرار، وبنيات تحتية، تؤهلها لتكون قطبا تنمويا مندمجا، فاعلا في محيطه الجهوي والقاري، ومحورا للتعاون الاقتصادي بين المغرب وعمقه الإفريقي". ووفق نظرة ديناميكية، يربط الملك بين "ترسيخ المسار الديمقراطي والتنموي وتعزيز سياستنا الإفريقية"، باعتبارها صمام الأمان في تحصين الوحدة الوطنية والترابية. علاوة على قيمة الاندماج الرائع لسكان الأقاليم و"تعلق أبنائها بمغربيتهم وبالنظام السياسي لوطنهم"، وهو – يضيف الملك محمد السادس- "ما تعكسه مشاركتهم المكثفة، في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، وانخراطهم بكل حرية ومسؤولية في تدبير شؤونهم المحلية". لماذا من دكار.. الأرض الطيبة؟ بكل تأكيد أن قرار الملك محمد السادس إلقاء خطابه بمناسبة الذكرى الحادية والأربعين للمسيرة الخضراء من مدينة دكار لم يفاجئ المغاربة لمعرفتهم جميعا بقوة العلاقات التاريخية المتميزة التي تربط المملكة بالسنغال. ولكن الخيار هو - يشرح جلالة الملك - لأن السنغال "كانت من بين الدول التي شاركت في هذه الملحمة الوطنية، إلى جانب دول إفريقية وعربية أخرى"؛ كما أنها "كانت دائما في طليعة المدافعين عن الوحدة الترابية للمملكة، ومصالحها العليا". بل أكثر من ذلك – يضيف جلالته-"فقد أبانت قولا وفعلا، في عدة مناسبات أنها تعتبر مسألة الصحراء المغربية بمثابة قضيتها الوطنية". " ولن ينسى المغاربة موقفها التضامني الشجاع أثناء خروج المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية، سنة 1984، إذ اعتبر الرئيس السابق، السيد عبدو ضيوف، أنه لا يمكن تصور هذه المنظمة بدون المغرب. وهو الموقف نفسه الذي عبرت عنه آنذاك العديد من الدول الإفريقية، مثل غينيا والغابون والزايير سابقا"، يضيف جلالته. كما كان اختيار الملك إلقاء خطابه من دكار بمناسبة زيارته الرسمية إلى السنغال نابع من قناعة جلالته بمكانة هذا البلد "المتميزة في إفريقيا، بفضل نموذجه، الديمقراطي التاريخي، واستقراره السياسي والاجتماعي، وديناميته الاقتصادية". * باحث مختص في إدارة الأزمات، ومدير المركز الإفريقي للدراسات الأسيوية.