قد تَستغل سذاجة شعب لكسب منصب أو ملء جيب ببضع دريهمات، فهذا موقف مفهوم، وقد تُعادي حزبا لأنه ينافسك أو يزاحمك على مصلحة من المصالح أو مكسب من المكاسب، وهو أمر وارد وقابل للنقاش، أما أن تفسد التعليم، وتشرد الأطر والطلبة الكادحين، فذلك موقف لا يسوغه لك الشرع ولا العقل. لقد دخلنا على ما يبدو مرحلة اللاستقرار بحيث إن الطبقة المثقفة في البلاد أضحت كمن يسبح في محيط من اللايقين لا يوجد فيها إلا جزر صغيرة من المعنى واليقين، فئة مثقفة لعبت دور المتفرج الذي يرتشف قهوة سوداء وينتشي بسيجارة حرقت فيه آخر شِريان من شرايين النخوة والعروبة، فئة سُلَّ من تحتها البساط وهي تدري أن اعتراضا واحدا منها سيكلفها مشاهدة فلم رعب لا تُحمد نهايته، طبقة فضَّلت ترك قطار التعليم المحترق، وركبت قطار الصمت المقيت. إن إصلاح التعليم لا يعني بالضرورة خوصصته، وتوظيف الأطر من الطلبة لا يعني استغلال عطالتها والتعاقد معها، والمدرسة العمومية لن تكون متميزة إلا في ظل احترام حرية الرأي واستقلاليته، كما لا يمكن للأستاذ أن يكون معطاء إلا في ظل حد أدنى من العيش الكريم والعدالة الاجتماعية. وللنهوض بالتعليم وتحسين جودته دون السقوط في إغراق المدرسة العمومية بالارتجالية، ينبغي الترسيخ العميق في الوعي المغربي لحقيقة أن التعليم هو وطن للجميع، وإصلاحه ينبغي أن يتم من داخل القطاع، وأن رأس مال المدرسة وثروتها هم طلابها، وهذا هو السبيل للحد من المشاكل المتشابكة والمعقدة التي تواجه التعليم. لعل أصغر خلية في مجتمعنا تبكي تعليمها ومدرستها العمومية، وفي قرارة نفسها تقول: أحتجُّ من أجل تعليم ديموقراطي نزيه، وفي نفسي حزن عميق على لقمة عيش أحرقها الزمن. أحتجُّ لأقول لا وجود لتعليم عمومي بعُقد كالأصفاد، تأسر عنق الطلبة وتقطع أنفاسهم. أحتجُّ لأقول لأولئك الذين يسرقون رغيف الأطر والمعطلين، اسرقوا ما تشاؤون، فطعامنا لا يشاركنا فيه غير الأنقياء. إن الهواء الذي يستنشقه المخزن لا يصلح أن يقتسمه مع الطبقة المثقفة، لأنه هواء منبعث عن غازات سامة، متعطش للنتائج المدمرة، أما هواء الأعالي فهو للنخبة وللضمائر الحية التي تحيي العقول بعد موتها. ربما أنا الذَّرة الصغيرة التي تحتاج لقلبِ كل القيم التي فُرضت عليها، معادية للسياسة والسياسيين، تحتاج لأن تسبح في الأعالي ولا ترضى بالمستنقعات. ذرَّة تستطيع أن تُروض الحيوانات، وتستطيع أن تجعل حتى الحمقى يتصرفون تصرفا حسنا. ذرَّة في نفس كل إطار شاب، قلِّبوا حياتها كما تشاؤون فلن تجدوا فيها أثرا لنيات سيئة. ذرَّة تحتاج لِكِيسٍ من الحلوى لكي تتخلص من الطعم المر الذي ابتلعته بسببكم. سيشهد التاريخ أن للوطن جيلا مثقفا، نزع قناع المبادئ الحرة وارتدى أقنعة مخزنية مخزية. سيشهد التاريخ أن من كانوا بالأمس القريب يدافعون عن استقلال المغرب وحريته، ها هم اليوم قد اعتقلوا تعليمهم واستعمروه. سيشهد التاريخ أن للوطن طلبة وأطراً قالوا كلمة فجَّة ورسالة خشنة لأنها تظل أكثر شرفا من الصمت.