كانت واقعة الحسيمة الأخيرة، التي سحق فيها مواطن يمتهن بيع السمك بطريقة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها وحشية ولا تمت للإنسانية بصلة، نتيجة سوء تقدير للإدارة في التعاطي مع تجارة ألفها الناس، واعتادوا عليها حتى أصبحت مستأنسة ولا يرفضها المجتمع. واقعة ارتبطت أيضا بعقلية سائدة في الإدارة المغربية، تدوس على القانون والأعراف وتتسلط على الضعفاء، دونما احترام لتشريعات الأمة ولتنظيماتها التنفيذية، ولا تراعي استشارة القضاء بشأن تبعاتها. هذه القصة المؤلمة أغضبت المغاربة بجميع تلاوينهم وأطيافهم، وأخرجتهم للاحتجاج والشجب في الشارع العام، وفتحت ذكريات قديمة في منطقة الريف ونقاشات حول قضايا كان الجميع يظن أنها أصبحت من الماضي، وأن المصالحة مع العهد الجديد فعلت فعلها الإيجابي فطويت بغير رجعة. غير أن سحق الشاب محسن فكري بتلك الطريقة التي شاهدها الناس على مواقع التواصل الاجتماعي أحيت ذاكرة الوجع القديم. من هنا نتساءل هل لهذه الواقعة أسباب عادية ويمكن للعقل أن يتقبلها، أم أن هناك من وجه مجريات الأحداث لاصطياد الخصوم أو اصطياد البلد ككل؟.. فرضيات خمس قد تقود إلى وضع سيناريو لخلفيات الحادثة، وقد تفسر لنا العناصر السياسية المحيطة بالحادث المؤلم. الفرضية الأولى، وهي الطبيعية، والتي يفترض فيها حسن النية، وبالتالي تقود إلى كون الواقعة حادثا عرضيا لا دخل لأي عامل إجرامي فيه؛ بل نتجت عن سوء تقدير وإهمال مفض إلى الموت بدون النية في إحداثه، وتدخل في باب أخطاء الإدارة المادية التي تجيز تحميلها المسؤولية الناجمة عن أخطائها المادية وأخطاء أعوانها، وبالتالي تقام المتابعات والدعاوى القضائية الجنائية والمدنية التابعة طبقا للقانون والمساطر الواضحة في هذا الشأن. الفرضية الثانية تحتمل سوء النية من قبل العناصر المتواجدة في مسرح الحادثة، وتقود إلى وجود عناصر لفعل إجرامي مقصود، سواء من مأموري مهمة الحجز أو من أشخاص آخرين لهم عداوة مع المجني عليه أو مع محيطه في إطار المنافسة وغيرها. الفرضية الثالثة تتمحور حول سياق الصراع السياسي الحزبي بالمغرب، ومحاولة طرف إضعاف طرف آخر عشية انتخاب عزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري، رئيسا لحزب "الأحرار"، وبالتالي الصعود للواجهة بشكل سريع وقوي واختياره كبديل ل"البام" لمعايشة الصراع مع العدالة والتنمية. أخنوش هو الوزير المعني بقطاع السمك والصيد في البحار، وما إلى ذلك من تسليم الرخص ومراقبة الأسواق وجودة السلع ومدى احترامها للضوابط القانونية؛ وبالتالي ربما كان من المفترض خلق نوع من الاحتجاج ضد طرق تدبيره للثروة السمكية بالريف، يمتد إلى مناطق أخرى. هذا السيناريو سبق أن تم استعماله مع واقعة فواتير الماء والكهرباء بطنجة ضد الشركة الفرنسية أمانديس، والتي كان إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، أحد متزعميها آنذاك. غير أن الأمور لم تتم كما تم التخطيط لها، وخرجت عن سيناريو الاحتجاج المحرج ضد أخنوش، ربما بسبب تدخل طرف ثالث مترصد بكليهما، ليقلب الطاولة على الجميع ولتبقى التهمة مفصلة على مقاس لإلياس العماري، ابن الريف والزعيم الحزبي المسيطر سياسيا على الحسيمة، لإظهار فشله في السيطرة والتأطير. الفرضية الرابعة متمحورة حول خلق نوع من الاحتقان الاجتماعي القوي، والتشكيك في قدرة الدولة والمؤسسات الرسمية على كسب ثقة الناس غداة الانتخابات، من أجل دفع جميع الفاعلين إلى خلق توافق سياسي جديد والدخول في حكومة وحدة وطنية موسعة بين جميع الأحزاب الكبرى، بما في ذلك الغريمان الرئيسيان العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة. الفرضية الخامسة تتمثل في تدخل أجندة خارجية عارفة جيدا بالجغرافيا السياسية والاحتجاجية للمغرب، ولتاريخ التوترات الثقافية الجغرافية بين الدولة المركزية وبين الأطراف، فخططت لزعزعة الاستقرار من هذا المنطلق، لتضرب بهذه الواقعة عصافير بحجر واحد، وتسقط أوراق جميع الفاعلين السياسيين، بما في ذلك الملكية. هذه الفرضية سبق أن تحدث عنها الملك في خطاب القمة الخليجية، متناولا قضية تقسيم الدول العربية والفوضى الخلاقة. هذه مجرد فرضيات لتوسيع النقاش الجاد حول هذه الأزمة، التي يتعين على الدولة النظر فيها بجدية من أجل استرجاع الثقة باتخاذ القرارات القوية اللازمة وربط المسؤولية بالمحاسبة، خصوصا بالنسبة للمسؤولين الكبار؛ بالإضافة إلى إجراء التعديلات الضرورية العاجلة على البناء الإداري السياسي. وفي مقدمتها إعادة النظر في اختصاصات وزارة الداخلية في شقها الترابي، باعتبارها الوصي الرئيسي على جميع المصالح الخارجية باستثناء القضاء؛ ما أضعف القطاعات الأخرى، وذلك بضرورة وضع حدود معقولة لاختصاصات الولاة والعمال لعدم قدرتهم الفعلية على مواكبة تطورات الذهنية المغربية والجيل الجديد، وفشلهم في تأطير المواطن والإحاطة برغباته الجديدة، مع وجوب القطع مع تبعيتهم الإدارية والسياسية الثنائية للملك وللحكومة، وتحديدها في جهة واحدة مسؤولة سياسيا وإداريا، مع تبني نظام إدارة لا ممركزة واضحة الهياكل والمسؤوليات. *باحث في العلوم السياسية