تعتبر حادة مقتل الأستاذ عبد الله بها، رحمه الله( نقول مَقْتَل سواء قتله القطارأو غيره)، تعتبر هذه الفاجعة، بما بما للمرحوم من وزن سياسي كبير على المستوى الوطني، و من مكانة كبيرة في المشهد السياسي الوطني، سواء كفاعل سياسي، أو كقائد دعوي، أو كمسؤول حكومي، و بحكم الظروف و السياق و المكان الذي وقعت فيه، تعتبر لغزا مُحَيِّرا للجميع، و بالتالي من الطبيعي جدّا أن تطرح الكثير من التساؤلات وأن تثير العديد من الشكوك، وأن تخضع لمختلف التحليلات، و أن تختلف مسارات مقاربة هذه الحادثة المُفْجِعَة. و هذا يفرض ضرورة انجاز تحقيق نزيه و موضوعي من طرف الأجهزة المختصّة حولها، حتى تتطابق نتائج التحقيقات الأمنية مع خُلاصات التحليلات السياسية العلمية، و تزيل كلّ الشّكوك المثارة . و الذي يجب أن يعرفه الكثيرون و يستوعبوه جيّدا، هو أنّ المحللّ السياسي أو صحافة التحقيق المهنية لا ينتظران بالضرورة إعلان نتائج تحريّات المحقّق الأمني، حول أي حادثة أمنية ذات أبعاد سياسية، لكي يقوما بعد ذلك و بناء عليها بانجاز مهمتهما المعرفية و الإعلامية بالتحليل العلمي لسياق الحادثة و انعكاساتها السياسية و نتائجها المرتقبة، و بنشر المعلومة الصحيحة حول تلك الحادثة. و من الممكن أن تتناقض خلاصات التحقيق الصحافي و التحليل السياسي مع نتائج التحقيق الأمني، مهما كانت نزاهة هذا الأخير و استقلاليته. وبالتّالي فمن يقدّم تحليلا سياسيا منطقيا بناء على وقائع صحيحة و ملموسة، تجمع بينها خيوط واضحة، و يخرج بخلاصات منطقية، و يضع سيناريوهات محتملةُ الوقوعِ حول هذه الحادثة المُؤلِمة قد تخالف الرواية الرسمية أو مواقف بعض الأطراف السياسية ، لا يمكن أن نعته بسوء النيّة أو أنّه يرجم بالغيب، أو أنّه يخوض في دماء زكية، أو أنّه من أنصار نظرية المؤامرة ، فكفى وصاية على عقول النّاس، و كفى حجرا على حرية التّحليل و الرأي. الشكّ و التّشكيك من المعلوم أن التحقيقات الأمنية حول جميع الحوادث تنطلق دائما في مبدأ الشكّ و عليه تقوم ببناء فرضياتها و منها تنطلق لرسم الاتجاهات المتعدّدة التي تسير فيها العمليات التقنية للتحقيق. الشكّ عملية عقلية مرتبطة بعملية التفكير التي تعتبر جزءا منها، وبما أن العقل لا يمكنه بتاتا، أن يستشير صاحبه في التفكير، و لا يمكن أن يأخذ منه الإذن للممارسة عملية الشك في أمر ما، وحيث جعلت المواثيق الدولية والدساتير الوطنية من التفكير (والتشكيك جزء منه) حق من حقوق الإنسان، فالشك والتشكيك بدوره حق من الحقوق التي يجب صيانتها والدفاع عنها، خاصة في ظل أنظمة سياسية مغلقة ميزتها الأساسية الاستبداد بالمعلومة و احتكارها كجزء أساسي من الاستبداد بالسلطة و الثروة، و بالتّالي تمارس التّعتيم و التّمويه عن الرأي العام، بل و تمنع وتصادر كل ما من شأن أن يطعن في ما تقدّمه هي من معلومات، لتصادر بذلك حق الشك التشكيك والارتياب في روايتها للأخبار والوقائع، التي تراها مقدسة، لا يجب المساس بها. كما أن الشك كذلك أداة منهجية تقود إلى نسبية الحقيقة العلمية والمعرفة البشرية، التي تجعل سُلوكات الإنسان وأقواله تحتمل الخطأ والصواب، مؤسسة بذلك للقاعدة الأساسية لكل فكر ديمقراطي، والمتمثلة في الإيمان بالاختلاف، وعدم امتلاك الإنسان الفرد للحقيقة المطلقة. و من هذا المنطلق يمكن فهم العداء الشديد للأنظمة الاستبدادية القمعية لكل من يشك في ممارساتها و خطاباتها. والشك بما يعنيه، إعلاميا وسياسيا واجتماعيا، من فقدان للثقة والمصداقية في المسؤولين وسلوكاتهم وتصريحاتهم، لم يأتي عبثا أو أمطرت به السماء صدفة، و إنما كان نتيجة تراكمات كبيرة للممارسات والخطابات، وبشكل مستمر ومتواتر ، ممارسات وخطابات المسؤولين التي تفتقد لأبسط شروط الأمانة والصدق. ومشكلة المسؤولين بالمغرب هي أنهم مازالوا يتعاملون مع المواطنين المغاربة و كأنهم لا يملكون أية مصادر للمعلومات حول قضايا المغرب، إلا ما يتفضلون به، وما يصرحون به في بياناتهم أو ما تقدمه وسائلنا الإعلامية العمومية ( وكالة المغرب العربي للأنباء - قنوات تلفزية وإذاعية..) وبالتالي يظنون أنه من السهولة التمويه والتعتيم على المواطنين ، في وقت لم يعد المغاربة يلتفتون فيه لهذه المصادر بالمطلق ، لشكهم الكبير في مصداقيتها ، ولوفرة المعلومة حول المغرب من مصادر كثيرة ومتنوعة (قنوات فضائية وإذاعية أجنبية + الانترنيت + المواقع الاجتماعية..) بمعنى أن لا تأثير لتصريحات المسؤولين المغاربة و وسائل إعلامنا العمومي في تشكيل الرأي العام بالمغرب ، لعدم الثقة فيها ، وعدم مصداقيتها و عدم استقلاليتها وعدم نزاهتها. التحقيق و التحليل : هذه الفاجعة تطرحُ العديد من التساؤلات، التي تقود بالضرورة الى اختلاف الخلاصات، التي من الممكن أن يستنتجها كل باحث متتبع للأحداث والوقائع بالمغرب ، ومن ثمة اختلاف المواقف المبنية على تلك الخلاصات. فإذا كانت كلّ حادثة أو كلّ فعل إجرامي أو عمل إرهابي لابد له من منفذين ومخططين ومستفيدين، و بما أن عمل المحققين الأمنيين ينطلق من الحادثة في حد ذاتها و أدوات تنفيذها (العناصر المادية للحادثة أوالجريمة)، سواء من خلال تحديد طبيعة الوسائل التقنية و المواد المستعملة فيها، و تركّز على مكان الحادثة ، وجميع الحيثيات الأمنية والمادية للحادثة، من أجل الوصول أولا إلى مُرْتَكِب الحادثة (إن كان هناك فاعل)، و عن طريقه يمكن الوصول مثلا إلى المخططين (إن كان هناك مُخَطِط للحادثة أو الجريمة) ، و أخيرا تحديد المستفيدين منها ، فان عمل الباحث و المحلّل السياسي ينطلق في اتجاه معاكس لاتجاه المحقق الأمني، حيث ينطلق من السّياقات السياسية و الاجتماعية، الوطنية و الإقليمية و الدولية، من خلال تحديد المستفيدين المحتملين من الحادثة أولا، من أطراف سياسية وطنية و تكتلات اقتصادية، و جهات خارجية، كما يسعى إلى معرفة المتضررين من الحادث، سواء كانوا أطراف سياسية أو اقتصادية، ليطرح الأسئلة حول المواقع المُفْترَضَة للمخططين للحادثة، فيتساءل عن هويّة المُنفِّذين المحتملين لها،ثم يضع لذلك العديد من الافتراضات. ويكون تركيزه على الجهات المستفيدة من الحادثة أكثر من التركيز على المُنفذين و وسائل التنفيذ، لذلك يعمل على وضع الحادثة في السياقات الزمنية و السياسية والاجتماعية والدولية، فيقوم ببناء فرضياته المختلفة و يضع سيناريوهاته المتنوعة، و لذلك تكون خلاصات الباحث و المحلّل السياسي، أو حتّى المواطن العادي حول الحادثة أو الجريمة متقاطعة مع نتائج عمل الأجهزة الأمنية ، بل من المحتمل أن تتناقض استنتاجات المحلّل السياسي مع نتائج تحقيقات الأجهزة الأمنية ، و هذا ما لا يروق المسؤولين السياسيين و الأجهزة الأمنية، وخاصة في البلدان غير الديمقراطية ، إذ غالبا ما يتم اللجوء إلى تكميم الأفواه ، وتكسير الأقلام التي تفتح عليهم الباب للشكوك والظنون. وموت الأستاذ عبد الله بها ، رحمه الله، كشخصية عامّة، لا يعني أسرته الصغيرة و لا أسرته السياسية الكبيرة وحدهما ، بل يهمّ الشعب المغربي برمّته باعتبار مسؤولا حكوميا و فاعلا في تدبير الشأن العام، و بالتالي فسكوت أسرته الصغيرة أو الكبيرة لا يُلزم و لا يمنع الرأي العام المغربي و مختلف مكونات المجتمع المدني و الصحافة و الفعاليات السياسية و الحقوقية و الثقافية من متابعة الملف و الحفر فيه بالتحليل و الدراسة و المتابعة و التحقيق ، لان المرحوم، كفاعل سياسي و دعوي، ليس ملكا لأسرته أو حزبه فقط ، بل مِلْكُ للمغاربة قاطبة. و لا داعي للتسرّع في هذه اللحظة ، فالجميع لازال تحت هول الصدمة، و قد تتغيّر المواقف و الأراء بعد ما تهدأ الخواطر، و قد تظهر معطيات جديدة يمكن أن تقلب كل الحسابات والتقديرات، و إذا كان لقيادة حزب البيجيدي تقدير معيّن للمرحلة واعتبار لمصلحة معيّنة، ترى أنّه لا ينبغي عدم التفريط فيها، أو لمفسدة كبرى يجب تفويتها في الظرف الراهن، و لعدم توفُّرها على المعطيات الكافية لاتخاذ موقف واضح، لذلك لجأت الى السكوت، فلا ينبغي أن تُرْتَهَنَ أراء الباحثين و المحلّلين السياسيين و مواقف الحقوقيين ومهمّة صحافة التحقيق في البحث عن الحقيقة في هذه الفاجعة، بموقف قيادة حزب البيجيدي و أسرة بها الصغيرة .