لا يزيد عدد المشتبه فيهم في التخطيط والأمر بإغتيال رئيسة وزراء باكستان بينظير بوتو أصابع راحة اليد، فيما يبلغ المنفذون المحتملون والذين يمكن أن يكونوا قد سخروا لتنفيذ العملية دون معرفتهم بالأمر الحقيقي العشرات. وبوتو تنضاف الى حوالي 800 باكستاني لقوا في العام الحالي مصرعهم نتيجة التفجيرات الانتحارية، زيادة على مئات آخرين سقطوا في الصراع بين الجيش وقبائل المناطق الشمالية. وكادت بوتو أن تلقى حتفها في 18 أكتوبر الماضي بعد ساعات قليلة من عودتها إلى البلاد من المنفى الاختياري الذي استمر 8 سنوات في دبي ولندن. وقد أدى التفجير الانتحاري الذي استهدف موكبها في حينه إلى مقتل 140 شخصا وإصابة 350 آخرين بجروح. اغتيال بوتو البالغة من العمر 54 سنة والمصنفة بالعلمانية في الغرب خلط أوراق اللعبة السياسية في باكستان وفتح الباب على مصراعيه لمختلف الفرقاء السياسيين وخاصة المتخاصمين منهم مع سلطة الرئيس مشرف، لتبادل الإتهامات حول مسؤولية الإغتيال، كما هيأ الأجواء لنشوب حالة عدم استقرار أوسع في هذا البلد المسلم الذي يزيد عدد سكانه على 160 مليون نسمة ويملك السلاح النووي وأدوات أيصاله حتى أهداف تصل الى مسافة 2200 كيلومتر. المستفيدون الحقيقيون من الوضع الناشئ عن إغتيال بوتو كثيرون، ويجب على أي محلل يحاول تشخيص الأوضاع ألا يبعد عن ناظره ان ما قد يدعى بالفوضى الخلاقة في باكستان قد تمكن أطرافا دولية مهيمنة من الوصول الى تحقيق حلمها في إستغلال الأزمة الجديدة لنزع سلاح باكستان النووي، وهو مطلب أمريكي إسرائيلي قديم ومتجدد يدخل في نطاق مخطط الشرق الأوسط الكبير الممتد من باكستان حتى المغرب وموريتانيا. على السطح وفي العلن تقول الأوساط المقربة من إدارة الرئيس بوش ان اغتيال بينظير بوتو وجه ضربة قاسية إلى لجهود واشنطن التي كانت تسعى بصورة مضنية وحثيثة لتأمين ما تسميه استقرار وديمقراطية في باكستان، الحليف القوي للولايات المتحدة في حربها على "الإرهاب"، والتي استثمرت طاقة كبيرة وثقلا سياسيا لتأمين رجوع بوتو وأقنعت مشرف بالتخلي عن قيادته للجيش وقبول انتخابات وترتيب مشاركة في السلطة معها. والواضح ان سياسة إدارة البيت الأبيض ازاء باكستان في الفترة الأخيرة لم تكن تعتمد بالكامل على بوتو، ولكن هذه السياسة ركزت بقوة مؤخرا على اقامة مصالحة بل تحالف بين الزعيمة العلمانية المعارضة والرئيس برويز مشرف لعل ذلك يعوض ما اعتبره مخططو سياسة بوش تراجعا كبيرا في شعبيته وقدرته على مواصلة تحالفه في حروب الولاياتالمتحدة في المنطقة الباكستانية الأفغانية. وكشف صحيفة "واشنطن بوست" تفاصيل مثيرة حول خطة واشنطن لاقتسام السلطة بين مشرف وبوتو وحجم الضغوط التي مارستها، وقالت في هذا الصدد إن اتصالات دبلوماسية سرية، استمرت أزيد من سنة بين الإدارة الأمريكية وجهات باكستانية مهدت للقاء بين مشرف وبوتو ولعودتها إلى باكستان. وذكرت الصحيفة إن مكالمة هاتفية من كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية مع بوتو المترددة التي كانت موجودة في دبي، حسمت الأمر بعد أن قدمت لها واشنطن ضمانات. مشيرة إلى أن تلك المكالمة جرت قبل أسبوع من عودة بوتو إلى باكستان في 18 أكتوبر. وإذا كان المسؤولون الأمريكيون في واشنطن وإسلام أباد قد سارعو بعد الإغتيال إلى حث الباكستانيين على عدم تأجيل انتخابات الثامن من يناير 2008، أو إعادة فرض حالة الطوارئ التي رفعها مشرف قبل اسابيع قلائل فقط. فإن المحللين يشيرون الى تركيز الولاياتالمتحدة على ما تسميه التداعيات المحتملة للاغتيال من استشراء أعمال شغب في الشوارع إلى الاحتمال الذي تصفه بالمفزع وهو ان تتحول باكستان في نهاية الأمر إلى دولة متشددة معارضة لسياسات الغرب ومسلحة نوويا. وفي نطاق التلويح بهذا التهديد تجدد الحديث في واشنطن عن ارسال قوات أمريكية الى باكستان للسيطرة على اسلحتها النووية والتأكد من عدم وقوعها في قبضة أنصار طالبان والقاعدة. وكتب ستيفن كوهين الخبير في شؤون جنوب آسيا في تقرير من معهد بروكينغز يقول عن باكستان ان "تدهورها بدرجة أكبر سيؤثر في جميع جيرانها وعلى أوروبا والولاياتالمتحدة بشكل غير متوقع وغير جيد، وهو ليس بالضرورة سيؤثر سلبا على مشروع الشرق الأوسط الكبير". وشكك محللون آخرون في فلسفة إعتماد واشنطن على مشرف في مكافحة ما يسمى الإرهاب، وأشاروا الى ان الشكوك تحيط منذ سنة 2001 بتوجهاته عندما اجبر تحت التهديد العسكري بالتخلى عن حركة طالبان. ويقول هؤلاء أن المؤسسة العسكرية الباكستانية تتعامل على مسارين متضاربين مع واشنطن فهي من جانب تقول أنها لم تعد متحالفة مع طالبان وتقوم من حين الى آخر بتوجيه ضربات الى حلفاء الحركة في شمال البلاد في حين تواصل المخابرات الباكستانية دعم طالبان عسكريا وماديا وتنتظر عودتها الى كابول وبالتالي يتم إحلال توازن لصالح باكستان طالما سعت اليه في هذه المنطقة الإستراتيجية من العالم. وفي اطار التشكيك في تحالف باكستان مع الغرب تساءل وين ثين محلل العملات البارز في مؤسسة براون براذرز هاريمان "إذا لم يكن باستطاعة مشرف حماية شخصية سياسية بارزة في مدينة يسيطر عليها الجيش، فكيف يتسنى له معالجة مشكلات في مناطق قبلية نائية حيث يتردد أن أفراد القاعدة وطالبان يعيشون؟". ويلاحظ انه رغم إغتيال بوتو تواصل واشنطن خططها لفرض وجود أقوى في باكستان حيث ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" النافذة وحسنة الاطلاع أنه من المتوقع ان توسع القوات الخاصة الأمريكية قاعدة وجودها في باكستان وذلك مع بداية العام الجديد. ونقل الكاتب في الصحيفة ويليام أركين عن مسؤولين دفاعيين على علاقة ببرامج التخطيط ان "هذه العمليات المركزية ستعتبر قفزة في العلاقات بالنسبة للجيش الأمريكي وبالنسبة للعلاقات الأمريكيةالباكستانية". وأضاف أركين ان الولاياتالمتحدة استخدمت القواعد الباكستانية لانطلاق عملياتها في أفغانستان غير انها تخلت عنها بعد الإطاحة بنظام الطالبان، لكن في الفترة الأخيرة شعر الجيش الأمريكي بالإحباط وشكك في رغبة القوات الباكستانية التعاون معه". محاولات واشنطن لإستغلال الإغتيال لتنفيذ مخططاتها اتبعت نفس التكتيك الذي نفذ بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 16 مارس 2005، حيث وجهت الإتهامات الى الطرف الذي تعتقد انه يعاديها او يخادعها فيما يخص الحرب ضد طالبان. ففي العديد من أوساط المحافظين الجدد تم توجيه أصبع الإتهام الى الاستخبارات الباكستانية، ويعزز هؤلاء رأيهم بأن بينظير بوتو قد تجاوزت الخط الأحمر في التعامل مع بعض الملفات الأمنية، والوعود التي كانت تقطعها على نفسها لأمريكا، ومن هذه الملفات الملف النووي الباكستاني، وخاصة وعدها بالسماح للأمريكيين بإستجواب أب القنبلة النووية الدكتور عبد القدير خان، والسماح للقوات الأمريكية بالقيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي الباكستانية، ويدعي هؤلاء أن الاستخبارات الباكستانية كانت تخاف من مجيئها على رأس الحكومة في المرحلة القادمة لأنها ستكون خطرا على الأمن القومي الباكستاني. وتقول أوساط أمريكية مقربة من رايس أن بوتو وعدت بالسماح بعمليات تفتيش أوسع على منشآتها النووية. ويذكر أن مشرف رفض كل مطالب واشنطن في هذا الإتجاه سنة 2004 حتى بعد ان اعترف مهندس القنبلة الذرية الباكستانية عبد القدير خان بأنه كشف بعض الاسرار الى ليبيا وايران وكوريا الشمالية، بل أن مشرف عفى عن خان وفرض حراسة ضخمة عليه لمنع اغتياله أو خطفه. ويسجل ان مخاوف حلف شمال الأطلسي من أن يؤثر اغتيال بوتو سلبا على حربه في أفغانستان برز بقوة في نهاية السنة حيث اعلن ان الحلف لا يفكر في تغيير سياسته في افغانستان لكنه يأمل في الا يتأثر "تعاونه الجيد" مع باكستان لضبط الحدود المشتركة بين البلدين بذلك. وقال مسؤول في الحلف ردا على سؤال حول نتائج الاعتداء على انتشار القوة الدولية للمساعدة على ارساء الامن "ايساف" في افغانستان والتي تعد نحو 50 الف جندي من 39 بلدا "ان الوضع في باكستان غير مستقر ومن المستحيل توقع ما سيحصل". واعلنت بولندا انها ستعزز قوتها بنسبة الثلث في افغانستان ليرتفع عديدها الى 1600 جندي بسبب "عدم استقرار الوضع" في باكستان. واكد المسؤول الاطلسي انه "لا توجد اي محادثات ذات طبييعة استراتيجية بين الحلفاء بشأن تغيير الاساليب العملانية ومستوى القوات او مهمة" ايساف موضحا انه "اذا قررت بعض الدول تعزيز قواتها فانه قرار وطني". واضاف "لكن في ما يتعلق بنا في الحلف الاطلسي وبالرغم من الوضع الصعب جدا الذي تمر به باكستان نود ان يستمر الجانب الباكستاني ببذل اقصى الجهود للتعاون معنا ومع الافغان لمنع" وصول اي مساعدة لطالبان "عبر الحدود". باكستان دولة قوية وشعبها المثقف والواعي مر بتجارب مرة وخطيرة كثيرا ولكنه استطاع دائما ان يخرج من الأزمات اقوى، واليوم كذلك سيثبت مرة أخرى هذه المقدرة ولن يتمكن خصومه مهما كانوا من وقف مسيرته او السيطرة على مقدراته.