قبل أن يلتقط العالم أنفاسه من كابوس مرض الإيدز الذي ظهر فجأة في بداية الثمانينات، ليشكل زلزالا في مجال الطب، المرض الأعجوبة الذي ما زال إلى اليوم يحير العالم، وتأتي الصدمة في تقرير البروفيسور الروسي المتقاعد جاكوب سيجال، الذي ينحدر من أصل يهودي ليتواني، أستاذا لعلم الأحياء (البيولوجي) في جامعة هامبولت الألمانية منذ عام 1953 والذي اتهم فيه أمريكا بصناعة سلاح بيولوجي تحول فيما بعد إلى أخطر أمراض العصر. وقد نشر هذا البحث عام 1987 في بعض المجلات الألمانية المعروفة (منها شتيرن ودير شبيجل)، كما نشر كتابا بالألمانية حول الموضوع نفسه عام 1990. يزعم العالم الروسي في هذا البحث أن الفيروس المسبب لمرض نقص المناعة المكتسب، الذي عرفه العالم منذ الثمانينيات باسم مرض – السيدا، ليس من صنع الطبيعة؛ بل تم صنعه في مراكز بحوث الحرب البيولوجية بأمريكا وخصصت له عشرات ملايين الدولار. من الناحية العلمية، يزعم البروفيسور في دراسته بأنه تم خلق فيروس جديد باستخدام نوعين من الفيروسات. كما يؤكد سيجال أنه يستحيل علميا أن يؤدي اجتماع هذين الفيروسين أو اختلاطهما في الظروف الطبيعية إلى ظهور سلالة الفيروس الجديد، ما لم يتدخل مؤثر صناعي أو خارجي لتوفير ظروف معينة تؤدي إلى إحداث الطفرة الضرورية للحصول على فيروس بالخصائص المطلوبة. وفي خضم هذه الحيرة، مرض آخر يظهر فجأة، ويتعلق الأمر بالالتهاب الرئوي الحاد المعروف باسم "سارس"، الذي لم يكد فريق البحث الطبي من عمليات تحديد جينومات الفيروس، حتى استيقظ العالم على نوع آخر من الفيروسات المسمى فيروس "أنفلونزا الطيور"، وبعده "أنفلونزا الخنازير". ويقول خبراء في منظمة الصحة العالمية إن المرض الجديد الذي يضرب العالم الآن قد يكون أشد خطورة من "ما سبقه" من حيث آثاره الصحية والاقتصادية، وشهدت السنوات الأخيرة ظهور مجموعة من الأمراض الخطيرة؛ منها جنون البقر والحمى القلاعية، وحمى غرب النيل، وحمى الوادي المتصدع، وفيروز زيكا... ومن الصعب تحديد نقطة بداية ظاهرة الإرهاب البيولوجي، وكذا زمن ظهور المفهوم ، إذ إن التحاليل تبقى مفتوحة على كل الفرضيات، التي بنيت على أساس علمي محض، وكذا دراسات تاريخية ، ثم إثارتها في كتب تحدثت عن استخدام عمليات حرب بيولوجية، في عدة محطات في تاريخ البشرية. I - الإرهاب البيولوجي عبر التاريخ نستحضر على سبيل المثال لا الحصر حرب اليهود مع الإمبراطورية الرومانية في عام 1346 م، حيث وصلت موجة الطاعون ذروتها وأصابت مناطق واسعة من الإمبراطورية الرومانية؛ وهو ما أدى إلى انخفاض عدد السكان إلى الثلث، وكان الناس يائسين يبحثون عن السبب، إلى أن عرفوا أن اليهود يقومون بتسميم آبار المياه، ومن هنا بدأت إبادة اليهود في ألمانيا، والتي تسمى "مذابح اليهود". كما استخدم التتار المقاليع ليقذفوا بجثث مصابة بالطاعون إلى داخل بلدة كافا بالحبشة، التي كانوا يحاصرونها وكانت ترفض الاستسلام، ويرجع العديد من المؤرخين انتشار الطاعون في أوروبا وفي العالم ووفاة نحو 25 مليون شخص إلى هذه الحادثة. في العصر الحديث، أدرك العالم خطورة هذه الأسلحة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فتم توقيع أول اتفاقية تحظر استخدام المواد السامة عام 1925، وعُرفت هذه الاتفاقية ببروتوكول جنيف، وعندما احتلت اليابان منطقة منشوريا بالصين في الفترة التي سبقت وتخللت الحرب العالمية الثانية، ضربت عرض الحائط بهذه الاتفاقية، فاستخدمت الوحدة 731 في الجيش الياباني الحرب الجرثومية في محاولة للنيل من بلدٍ يتفوق عليها في تعداد السكان. إلا أن الأغرب من ذلك هو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد انتهاء الحرب، واستسلام اليابان قامت بمنح العديد من ضباط الوحدة 731 اليابانيين حصانة قضائية كي لا يُحاكموا كمجرمي حرب (مع علمها بما فعلوه بالأسرى الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قامت الوحدة 731 في الجيش الياباني باستخدام ميكروبات فتاكة في تجارب على الأسرى الأميركيين) مقابل أن يزودوها بمعلوماتهم والنتائج التي حصلوا عليها من تجاربهم. II - تختلف الأسلحة البيولوجية، باختلاف استهدافاتها: إن ما يُميز الأسلحة البيولوجية عن النووية دقتها المتناهية، حيث إنها تتعامل مع الكائنات الحية باختلافها؛ فالحروب البيولوجية لا تقتصر على نشر الأمراض والأوبئة بصورة مباشرة ضد العدو، لكن قد يستخدمها البعض لإلحاق الضرر بمصادر الغذاء، وقطع الإمدادات الغذائية الأساسية للعدو مما يؤدي إلى نشر المجاعات. المخدرات: تعتبر المخدرات من أخطر الأسلحة البيولوجية، إذ إن هناك مآس مؤلمة قد وقعت وأحدثت خراباً لا تستطيع الأسلحة البيولوجية الأخرى فعله، فقد تصدعت البنية الشبابية للمجتمع وتم تحطيم إمكاناتهم الإبداعية والإنتاجية وتسخيرهم لأعمال التخريب والجريمة والإرهاب؛ فهناك من انتحر ومن اغتصب ومن قتل. وهكذا تتكرر المشاهد المؤلمة والموجعة التي يتفطر لها الفؤاد، فأي سلاح بمقدوره أن يحيل الأمة لهذا الواقع غير المخدرات؟ المواد الكيميائية: معظم الأسلحة الكيميائية تقوم علي تكنولوجيا بسيطة؛ ولكنها تحتاج إلى كميات كبيرة لإصابة عدد كبير من الضحايا، لذلك فهي أقل فتكا من الأسلحة النووية والبيولوجية. ويرجع تاريخ استخدام المواد الكيميائية كسلاح في الحرب في الفترة من 1914-1918م عندما هاجم الألمان في الحرب العالمية الأولى الحلفاء بغاز الكلورين، فتسبب الغاز في وفاة 1.3 مليون وإصابة 100 ألف شخص، وفي عام 1936 اكتشف الألمان غاز السارين الأكثر فتكا كسلاح كيميائي، وفي عام 1988 قتل خمسة آلاف كردي بغاز السارين، وفي عام 1995 أطلقت احدي الطوائف الدينية غاز الأعصاب في مترو الأنفاق في طوكيو مما تسبب في مقتل اثنتي عشرة ضحية وأهم تلك الأسلحة الكيميائية هي الغازات، حيث إن استنشاق غاز الأعصاب السارين يتفاعل هذا الأخير مع أنزيم الأستيل كولين مثيريز وهو الأنزيم الذي يقوم بتكسير مادة الأستيل كولين، وهي التي تقوم بنقل الإشارات بين الأعصاب والعضلات لذلك سمي بغاز الأعصاب، وعند توقف تكسير مادة الأستيل كولين بفعل الغاز تتراكم نسبتها في الجهاز العصبي فتؤدي إلى تقلص العضلات، فيتألم المصاب، ويضيق تنفسه، ثم يبدأ الغثيان واضطراب القلب وتوقف الرئة ثم الموت. غاز الخردل: غاز بني أو قد يكون معدوم اللون له رائحة الثوم عند استنشاقه، ويصيب العين بالاحتقان والدموع، ويسبب احتراق الجلد والتهاب الرئتين وفشل التنفس والموت، ففي الحرب العالمية الأولى، استعمل غاز الخردل بشكل واسع النطاق ضد آلاف الجنود المحصنين في الخنادق، التي كانت من السمات الأساسية لهذه الحرب، وكان غاز الخردل السلاح الكيميائي المفضل، فأدى إلى إزهاق أرواح آلاف الجنود، ومن لم يمت من جرائه، أصيب بالعمى أو بحروق حمل الكثير منهم ندباتها إلى آخر يوم من حياته، وتشير الإحصائيات إلى أن مليوناً من أصل عشرين مليون وفاة أو إصابة في الحرب العالمية الأولى تعزى إلى غاز الخردل.. غاز الفوسيجين: غاز لا لون له وله رائحة القش يسبب احتقان الأوعية الهوائية واستسقاء الرئة والاختناق. كما يتم أيضا استخدام الأسلحة البيولوجية على شكل سوائل، كمادة سيانيد الهيدروجين والتوبال وسم الريسين... III - الأسلحة البيولوجية الجرثومية: تنقسم الكائنات الدقيقة المستخدمة لأغراض الإرهاب البيولوجي إلى أصناف ثلاثة: 1 البكتيريا: وأشهرها ال Bacillus anthracis المسببة لمرض الجمرة الخبيثة أو ما يطلق عليه بالأنثراكس، وال (Yersinia pestis) المسببة للطاعون، وال (Vibrio cholera) المسببة للكوليرا. 2 الفيروسات: وأشهرها فيروس الإبولا Ebola الفتاك والذي يسبب نزفاً شديداً من أماكن مختلفة، وغالباً ما تنتهي الإصابة بالوفاة. وفيروس الهنتا (Hanta Virus) والذي يسبب اضطرابات في الجهاز التنفسي، وفيروس ال (Venezuelan Equine Encephalitis) والذي يعرف اختصاراً VEE والذي يسبب ضرراً شديداً للجهاز العصبي قد ينتهي بوفاة المصاب، وطبعا فيروس داء فقدان المناعة المكتسبة (السيدا). 3 الريكتسيات (Rickettsias) التي تعيش داخل الخلية بشكل طفيلي وتنتقل عن طريق الحشرات وأشهرها ال (Rickettsia prowazekii) المسببة لحمى التيفوس، التي أدى انتشارها خلال الحرب العالمية الأولى بشكل غامض إلى وفاة ثلاثة ملايين شخص في شرق أوروبا، وال Coxiellaburnetii والتي تتمتع بقدرة كبيرة على العدوى مسببة حمى وخلل في أنسجة عضلات القلب، وعلى الرغم من عدم خطورتها البالغة على الحياة إلا أن بإمكانها شل جيش كامل. ومما يزيد في خطورة الأصناف الثلاثة المذكورة أعلاه هو إمكانية إضافة صفات وراثية جديدة لها عن طريق الهندسة الوراثية، حيث تصبح أكثر فتكاً أو أكثر مقاومةً للمضادات الحيوية. أما بخصوص المواد السامة المستخلصة من الميكروبات فأشهرها وأكثرها فتكاً على الإطلاق هو سُم البوتولينم، والذي يقدر الخبراء بأن بضعة غرامات منه قادرة على إبادة مدينة كاملة إذا ما تم نشره بشكل جيد. نستشف مما سبق أن الإرهاب البيولوجي سلاح مدمر غير مرئي، وسيشكل تهديدا للبشرية جمعاء. وفي عز اندلاع الصراعات، تبرز حلقة جديدة من حلقات هدم البيئة، لتكريس الهدم القيمي نحو امتلاك مناطق المصالح المادية وفتك رموز المعاني الإنسانية.