الفلسفة الإسلاميّة تفقد أحد أعلامها البارزين في المغرب بعد جمال الدين العلوي ومحمد ألوزاد، جاء دور محمد مساعد الذي رحل عنّا فجأة في زهرة العمر، تماما كسابقيه. إنّه العمر نفسه والشموخ نفسه والرحيل نفسه. وكأنّ الثلاثة كانوا متواطئين على أن يحرمونا منهم في مقتبل العمر. فتكون بذلك الساحة الفلسفيّة المغربيّة قد ودّعت، مرّة أخرى، واحدا من أبرز أساتذة الفلسفة الإسلاميّة. وكأنّ المنية تنتخب مرشّحيها انتخابا؛ تغفو حينا، لكنّها سرعان ما تعود لكي تمارس استبدادها الانتخابيّ. كان الخبر فاجعة بالنسبة إليّ رغم أنّي كنت أتابع، ولو من بعيد، أخبار وضعية الرجل الصحيّة؛ لقد ذهلت أيّما ذهول، لا يعادله سوى ذهولي يوم قرأت خبر نعي أستاذي المرحوم محمد ألوزاد ذات يوم من صيف 2002، تماما كما شكّلت وفاة المرحوم جمال الدين فاجعة كبيرة في أوساط الدارسين والطلبة العام 1992. لم تفارقني صورة الأستاذ محمد مساعد، رحمة الله عليه، منذ قرأت الخبر، بل تناسلت إليّ صور ومواقف وأقوال وأشخاص كثيرة. تذكّرت العلوي وألوزاد والجابري وقافلة الحكماء وغيرهم، واللحظة كلّها ذكرى نفوس عالمة مرّت من هنا، استهواها العلم، والنصّ الفلسفيّ الإسلاميّ تحديدا، لكنّهم في لحظة ما تركوا كلّ شيّ وذهبوا. اشتغلوا بصدق ونكران الذات على المخطوط الفلسفيّ العربيّ ورحلوا جميعهم في مقتبل العمر. كان نشاط سي محمد غير عاد في السنوات الأخيرة، وقد يكون لاحظ ذلك كثير من أصدقائه وزملائه؛ كان واضحا، بالنسبة إليّ، على الأقلّ، أنّه كان يشعر بأنّ الوقت قد حان، فراح يهيّىء نفسه ويجمع حقيبته استعدادا للرحيل. لقد حرص على أن ينشر جلّ أعماله، وشارك في ندوات كثيرة، نسبيّا، في السنوات القليلة الأخيرة، على غير عادته. كانت علاقتي به متميّزة إلى حدّ بعيد. فتح لي بيته ومكتبته بسخاء نادر. جالسته كثيرا وخبرته في مواقف كثيرة، فكريّة وإنسانيّة؛ استرجعت كلّ الشريط اليوم: من أوّل لقائنا في مركز الدراسات الرشديّة في منتصف التسعينات إلى آخر يوم زرته فيه هذا الصيف، رفقة الصديق والزميل امحمد آيت حمو، لعلّنا نلقاه في ركنه المألوف، في مقهى وليد، فما وجدناه! بادر أحد الأصدقاء بالاتّصال بابنه يوسف الذي أخبرنا أنّه "عاد إلى غيبوبته" ولا يمكن زيارته الآن. أوّل مرّة يخونه الموعد ويخوننا! قلت في نفسي لعلّه لم يرد أن يبرح غيبوبته فراح يمعن في تفاصيلها بحثا عن كلمة شاردة في حاشية من مخطوط في خزانة يانعة في سماء بعيدة. لقد أسرع الخطى بحثا عن شيء ما، ربّما نصّ ما، لم يجده في عالم ما تحت فلك القمر! كان الصديق يوسف أشلحي قد أخبرني بوضعيّته الصحيّة قبل بضعة شهور، فكان أوّل من راسلني، وأنا خارج البلد، يخبرني بأنّ الأستاذ محمد مساعد أصيب بوعكة صحّية ألزمته الفراش، وأنّه عاجز عن التدريس. فدبّ إلى نفسي الحزن عن مصير بدا شبه واضح. وعلامات الإنهاك كانت بادية على حركاته منذ سنوات. كنت أحرص أحيانا، في لقاءاتي معه أن أشير عليه ببعض المشي والمرح بعيدا عن مخطوطات ابن رشد وعن ذلك الحزن الدفين في نفسه الذي لا يريد أن يشاركه أحد سرّه! جمعني بمحمد مساعد خيط رفيع منذ بداية تعارفنا. كان ثمّة تواطؤ مكشوف على صداقتنا. جمعنا النصّ الفلسفيّ الإسلاميّ أوّلا؛ فقد كنت أقدّر الرجل، أستمع إليه، وأهرع إليه عندما تستغلق عليّ قضية من قضايا لها علاقة بالنصوص الإسلاميّة سائلا مستفسرا، فأجده دائما السراج المنير. كان نعم الرجل علما وأخلاقا، يحترم الجميع ويشجّع الطلبة على خوض مغامرة البحث والكتابة قريبا من النصوص والمصادر، لا بعيدا عنها كما يفعل القوم اليوم. لقد جمعنا المرحوم ألوزاد الذي كان يكنّ تقديرا خاصّا لمحمد مساعد. جمعنا فضاء مركز الدراسات الرشديّة حضورا وغيابا، كنّا نحمل المركز وأخباره وهمومه أينما حللنا. لا تختلف جلساتنا في المقهى عن جلساتنا في المركز. وكان أمين سرّ تقليد ورثه عن المرحومين جمال الدين العلوي ومحمد ألوزاد. وكان جامع شمل فريق بأكمله. كان المرحوم محمد مساعد يكنّ احتراما كبيرا لأساتذته وزملائه، قنوع وخلوق تكاد لا تسمع له صوتا، وإذا نطق أضفى سحرا على الفضاء بكلماته الهادئة المنتقاة بعناية. حكيم في فكره، لا يدخل رحاب الفكر إلا للصلاة؛ فلا تكاد تميّز الرجل أهو في لحظة عبادة أم في لحظة تفكير. هو الخشوع نفسه والأخلاق نفسها والعشق نفسه. كان يجلّ الشيوخ، وكنّا نؤاخذه على ذلك أحيانا؛ ولم يكن يردّ أبدا. لم يجد مكتبا يحتضنه في الجامعة، لكنّه جعل من مقهى وليد قبلة زمرة من أصدقائه وزملائه وطلبته ومحبّي الحكمة التي تؤخذ من أفواه الرجال. ندرت مواسم قطف الحكمة وتشتّتت بنا السبل فيما بعد، لكنّه ظلّ وفيّا لرهبة المكان والتقليد والتواضع، المبالغ فيه أحيانا. ولعلّ هذا الأمر الأخير قد فوّت عليه فرصا كثيرة أبرزها فرصة الحصول على منصب رسميّ في الجامعة المغربيّة. إنّ قصّة سي محمد مع الجامعة قصّة أخرى حزينة، وطويلة ليس هنا مربط حكايتها. ولابدّ أن أشير إلى أنّه كانت لي علاقة خاصّة به، لا علاقة لها بالعلم، لقد كنت أشعر به، حين يخلو لنا الجوّ، يسألني كثيرا عن الريف ويحرص في كلّ فرصة أن يتذكّر بعض الذكريات التي علقت في ذهنه عن منطقة امطالسا (عين زورة أو عين الزهرة) التي ينحدر منها. وقد انتقلت أسرته إلى فاس (في إطار حركة الهجرة الضخمة الثانية التي شهدتها منطقة الريف بسبب المجاعة، بعد الهجرة الأولى نحو الشرق (وهران ومناطق أخرى في الجزائر في عهد الاستعمار)، إلى "الغرب" (فاس ومولاي ادريس زرهون وتطوان وطنجة) قبل الهجرة الكبرى نحو أوربا). رغم أنّه ولد بفاس ولم يزر الريف إلا لماما، ربّما مرّة واحدة، فقد حافظ في روحه على علاقة متينة جدّا بالريف كيانا وثقافة. ترعرع محمد مساعد في حيّ باب الفتوح، وهو حيّ شعبيّ مشهور جدّا في فاس، لكنّه لم ينس أبدا أصوله، على عكس الكثيرين الذين ابتلعتهم المدن الكبيرة، وله حنين غريب إلى المنطقة وحبّ دفين للريف وأهله، غير أنّها علاقة حبّ مستحيل، بعد أن فقد جلّ الأواصر التي تربطه ببلدته. وقد كان في برنامجنا، هو وأنا، تنظيم زيارة مشتركة إلى منطقة عين الزهرة لم نتوفّق في ترجمتها إلى أرض الواقع أبدا. أمّا علاقته بوالده فقد كانت أعمق من ذلك بكثير؛ وأنا أتذكّر جيّدا كيف كان سي محمد قبل وفاة والده، وكيف صار بعدها. وكنت أقول دائما لأصدقائي إنّ سي محمد توفيّ يوم توفيّ والده! فصار الرجل يميل أكثر فأكثر إلى التصوّف والزهد، صار لا يفارق المسجد ويحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وهذا جيّد طبعا؛ لكنّه لم يبد أنّه فارق حزنه الدفين الذي حمل معه قصّته على ما يبدو. عندما التقيته بعد وفاة والده، وجدته منهكا وما تحسّنت حاله بعد ذلك أبدا، تراكمت عليه الأمراض من كلّ جهة، وأفترض أنّها وجدت في حزنه تربة خصبة، تراجع بصره ووهنت آلاته الجسمانيّة إلى حدّ كبير. بل صار أحيانا ينفعل على غير عادته؛ شيء واحد لم يتبدّل فيه قيد أنملة: حبّه للعلم وأهل العلم وحرصه على ذلك. ولد محمد مساعد بفاس عام 1957، حصل على الإجازة في الفلسفة عام 1982 بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، وعلى دبلوم الدراسات العليا عام 1992 في موضوع "مكانة الغزالي في فلسفة ابن رشد، حضور ومساهمة" تحت اشراف جمال الدين العلوي؛ وهي إحدى أولى الأعمال المتميّزة التي نبّهت على أهمّية فلسفة الغزالي وأثرها في فلسفة ابن رشد بعيدا عن التصوّر التقليديّ الذي ينسب إلى الغزالي جريمة القضاء على الفلسفة وغير ذلك من خرافات العصر. فهو أحد الدارسين المغاربة القلائل العارفين بخبايا النصّ الفلسفيّ الإسلاميّ، وخاصّة الرشديّ منه. وقد توّج مساره الأكاديميّ بمناقشة أطروحة لنيل شهادة دكتوراه الدولة عام 2005 في موضوع "العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد" تحت اشراف الأستاذين محمد ألوزاد وأحمد علمي حمدان. وتجدر الإشارة أيضا إلى أنّ المرحوم اشتغل أستاذا للفلسفة في التعليم الثانوي، ثمّ أستاذا للتعليم العالي مساعدا في المدرسة العليا للأساتذة بمكناس لمدة تفوق 33 سنة؛ درّس جميع الأسلاك بدءا بسلك الباكالوريا، والمدرسة العليا للأساتذة، وسلك التبريز، وانتهاء بسلك الماستر بجامعتي فاس ومكناس. درس على يده جيل كامل من أطر ورجال التعليم، وغيرهم، موادّ المنطق، وديداكتيك الفلسفة، وتاريخ الفلسفة اليونانيّة والإسلاميّة، والمنطق الأرسطيّ، والمؤلّف الفلسفيّ الاسلاميّ، وفلسفة التربيّة، وفلسفة الجمال. وقد شارك في ندوات كثيرة، وطنيّة ودوليّة، أذكر منها فقط ما كان لي شرف تنظيمه مع ثلّة من الزملاء في وجدة؛ حيث حرص المرحوم على أن ينتقل إلى وجدة من أجل المشاركة رغم ظروفه الصحّية الصعبة أحيانا وهي: ندوة آليات الاستدلال في الفكر الاسلامي الوسيط، عام 2010، وقدّم مداخلة بعنوان "ابن رشد والبيان على جهة الاستظهار. وهي منشورة ضمن الكتاب نفسه. كما شارك في ندوة قضايا في التصوّف، بعنوان "منزلة التصوّف لدى ابن رشد" عام 2013، والكتاب قيد الإعداد للنشر. كما حرص أن يشارك في ندوة الكندي ومدرسته التي عرفت تكريم الأستاذ محمد المصباحي، بمقالة بعنوان "حضور الكندي في الثقافة الاسلاميّة" في العام نفسه. وأبى أخيرا إلا أن يشارك في ندوة أعلام مغمورون ونصوص نادرة، سيرة وفهرسة وتحقيق، أعمال مهداة إلى روح المرحوم ألوزاد عام 2014. ومن أهمّ أعماله المنشورة: كتاب العالم بين التناهي واللاتناهي لدى ابن رشد، بيروت: دار الفارابي، 2013؛ وكتاب منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد، الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2014. وله كتاب قيد النشر، فيما أعلم، يحتوي على استدراكات على كتاب المتن الرشدي. كان محمد مساعد محقّقا مقتدرا خبر النصّ الرشديّ والباجيّ في تفاصيله الدقيقة ومخطوطاته المتنوّعة، حقّق كتاب شرح الآثار العلوية لابن باجة(1999)، وساهم في تحقيق جماعي لمقالة "القوة الناطقة" لابن باجة؛ ساهم في ترقيم وترميز وتهميش تحقيق الأستاذ محمد قشيقش لشرح الفارابي على صدري المقالتين الأولى والخامسة من كتاب الأصول لأقليدس (2003)؛ كما ساهم في تحقيق كتاب ابن باجة ارتياض في كتاب التحليل (2006)؛ وكتاب كلام في القياس لابن باجة (2009). ولا ينبغي أن نغفل أنّه نشر سلسلة مقالات مفيدة في مجلّة الصورة "(ابن رشد والضروريّ في البلاغة لدى حازم القرطاجني" (1، 1998)؛ "الغزالي والضروريّ في مراتب التصديق عند ابن رشد" (12، 2000). وقد ساهم في نشر بعض أعمال جمال الدين العلوي غير المنشورة في المجلّة نفسها(1-2، 1998-1999). ونشر سلسلة أخرى في مجلة وليلي (ابن رشد والملل المخالفة، 13، 89-99)؛ "متوحد ابن باجة عنف وعنف مضاد"، 14، 125-140)؛ "فلسفة التربيّة بين ابن خلدون وابن رشد"،16، 35-40)؛ "مفهوم الدولة في الثقافة الإسلاميّة"، 19، 50-58)؛ "الغير في الثقافة الإسلاميّة"، 17، 54-67)؛ "هوامش سياسة ابن رشد"، 18، 76-95). ونشر سلسلة أخرى ضمن دفاتر مجموعة البحث في الفلسفة الإسلاميّة، بمركز الدراسات الرشديّة (منها "ابن رشد ومنطق الغزالي"، ع1، 1998)، علاوة على دراسات أخرى كثيرة موزّعة على مجلّات فكر ونقد وأقواس والمدرّس وغيرها. أتمنّى أن تتاح فرصة جمعها ونشرها في كتاب واحد، جنبا إلى جنب مع جمع ونشر ما يكون قد ترك من دراسات وتحقيقات غير منشورة. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه، ورزق أهله وأصدقاءه الصبر والسلوان. آمين يا ربّ العالمين.