بمصادقة المغرب، بطريقة شبه سرية، على البروتوكول الاختياري لمناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة المرفق باتفاقية سيداو يكون قد استدعى شريط السجال الفكري والسياسي حول مضامين بعض القيم المختلف بشأنها وحول معانيها ومعاييرها ومرجعياتها. السجال حول هذه المضامين سوف يكتسي أهمية قصوى كونه يأتي في لحظة تاريخية متميزة دخل فيها عالمنا العربي إلى الديمقراطية من باب الثورة منذ قرر البوعزيزي إنهاء مسلسل الإهانة المتواصل على مدى نصف قرن. التوقيع على البروتوكول : إلتباسات السياق وريبة التوقيت اتخاذ قرار بالتوقيع على هذا البروتوكول في سياق الحراك الشعبي قد يفهم منه نوعا من التجاوب مع المطالب المشروعة للشباب على خطى الإصلاح الديمقراطي بالبلاد، لكن غير المفهوم هو أن يأتي الحسم في هذه القضية المختلف حولها فكريا بين تيارين لهما دور كبير في ما يجري من تدافع من اجل الكرامة والديمقراطية. فهل الأمر يدخل في إطار الفعل المضاد الذي تقوده جيوب مقاومة التغيير وفقا لإستراتيجية محكمة تدور حول إحداث تناقض بين المكونات غير المتجانسة للحراك الشعبي المطالب بالحرية وإسقاط الفساد والاستبداد. لا يمكن إغفال رهان من هذا الحجم إذا ما استحضرنا المساعي الحثيثة التي تسعى للتحريض بين التيارات المختلفة في الآونة الأخيرة. رهان التفكيك من الداخل انطلق باتهام جهات معينة باستغلال الحراك للأجندات خاصة وحزبية انطلاقا من بعض الممارسات المعزولة وتواصل بمحاولة استرجاع آلية المسؤولية المعنوية ضد التيار الأكثر تضررا من أجل التخويف الشعبي ضد الحراك أولا ولتبرير إيقاف مسلسل الانفراج السياسي وإجراءات الثقة تمهيدا لتسويق نتائج المقاربة الأمنية التي استعادت فعاليتها منذ دخل إرث الأجهزة الأمنية والممارسة المخابراتية في صلب شعارات ولافتات ومطالب الاحتجاجات. قمع النزهة أمام المعتقل السري بتمارة واستدراج معتقلي السلفية إلى ما جرى بسجن الزاكي بسلا والقمع الوحشي الذي تعرض له المحتجون سلميا بمدن عديدة يومي 22 و29 ماي، وقبل ذلك استمرار اعتقال الصحفي رشيد نيني والسعي لإجهاض التجربة الصحفية الأكثر صدقية التي يديرها، كلها معطيات حملت "السلفية الأمنية" إلى واجهت الأحداث ليس لتامين مرور الاحتجاجات السلمية المسؤولة كما جرى في كل محطاتها على نحو استحق الإشادة والتنويه داخل المغرب وخارجه، بل واضحى رهانا للكثيرين لتحقيق نفس أهداف الثورة بدون دماء . هذه المعطيات هي التي تجعلنا متوجسين من التوقيع بطريقة شبه سرية على هذا البروتوكول الذي لا تخفى مكاسبه ذات الطبيعة الديمقراطية لكنه مع ذلك لا يمكن أن بخفي انحياز أصحاب القرار لمفاهيم الأقلية العلمانية المستقوية بالخارج في تحديد القضايا التي تحظى بالأولوية في هذا التوقيت أو ذاك. لكن بصرف النظر عن كل ذلك لا يمكن لأحد أن ينكر اندراج هذه الخطوة في تكتيك سلطوي غايته البحث عن تناقض بين التيار الإسلامي والتيار العلماني وتفكيكا لجبهة الرفض الشعبي وتدشينا لأسلوب انتقائي في التجاوب مع المطالب ذات الأولوية التي يتعين الاستجابة لها في هذا التوقيت او ذاك. التباسات سياق التوقيع على هذا البروتوكول تزكيه الأخبار غير المؤكدة التي جرى تسريبها من مطابخ إعداد الدستور والتي تؤكد أن الاستجابة المقدرة للمطالب ذات المنزع الديمقراطي يقابلها تراجع خطير في المطالب المتعلقة بالمرجعية الإسلامية حيث لم يقف أصحاب الشأن عند رفض مطلب الإقرار بالإسلام مصدرا أولا للتشريع وما يستتبعه من إقرار لحربة واستقلال العلماء، بل تم إفراغ أهم مكتسب إسلامي في الدستور والمتعلق بكون "الإسلام دين الدولة" وذلك بتقديم تنازل مريب لكتائب التبشير بالاستجابة لمطلبهم في ضمان حرية تغير المغاربة لدينهم تحت مبرر إقرار "حرية المعتقد" بدل حربة ممارسة الشعائر الدينية التي كانت مكفولة لغير المسلمين المقيمين أو العابرين بالمغرب. في هذا السياق إذن تم تسريب خبر الاستجابة لمطلب إقرار المساواة الكاملة بين الجنسين مقابل إهمال جميع مطالب الشعب المغربي في دسترة الأسرة وحماية الأمومة وما يرتبط بها. وفي هذا الصدد ينبغي النظر إلى هذا التسريب في هذا التوقيت المريب لدسترة المساواة الميكانيكية بين الجنسين والتوقيع ضد ما يمكن أن يفهم منه تمييزا ضد النساء في الإرث ليس على انه استجابة لمطالب حقوقية وديمقراطية بل هو انصياع لضغوط أجنبية سبق أن شنت حملة ضد البلاد على خلفية أزمة المبشرين الأمريكان والأجانب في ما عرف بقضية خيرية عين اللوح، ومحاولة لشق صف الجبهة الوطنية المناهضة للفساد والاستبداد والدفع نحو زرع التناقض بينها بالتسريع في الاستجابة للقضايا الجزئية والخلافية لإلهائهم عن القضايا الجوهرية من قبيل إعادة توزيع السلطة والفصل بين الإمارة والتجارة. أي سند شعبي يمكن أن يستند عليه من ذهب في هذا التوقيت للتوقيع على البرتوكول المذكور. ليس بوسع إجبار الأنظمة على سحب التحفظات أو التوقيع على بروتوكولات أن ينهي واقع التمييز والتهميش ضد النساء وليس الرضوخ للضغوطات الناجمة عن استقواء الأقلية المعزولة بالخارج هو الذي من شأنه أن يجعل الممارسات التمييزية تختفي من دنيا المرأة وواقع الأسرة والمجتمع، بل على العكس من ذلك لا بد من تعزيز هذا المدخل القانوني الصرف بمقاربة ترتكز على المشترك الإنساني وعلى "لاهوت التحرير" و"إجتهاد التنوير" من اجل أنسنة قيم من مثل المساواة واللاتمييز وضمان انفتاحها وتسامحها حتى لا يشعر أصحابها بالاضطهاد أو الإقصاء ولا يتوانوا في التعبئة الجماعية لضمان اختفاء هذه الممارسات وغيرها من دنيا البشرية كلها. إن إرادة الشعوب اليوم هي المحدد لما يجب أن يحظى بالأولوية، وأن المشاركة في صياغة مضامين القيم الكونية هي الضامن لإنحراط الجميع في تنزيلها، وأما الفرض بشكل قسري لأنماط الحياة أو لمضامين القيم فلن يزيد الشعوب سوى تشبثا بمرجعياتها وقيمها ولن يثنيها عن مواصلة كفاحها من أجل التحرر من الهيمنة الأجنبية والاستبداد الداخلي. المساواة الكاملة مكسب إسلامي ومطلب لا احد يجادل في مطلب المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في جميع الحقوق بما في ذلك الحقوق المدنية؛ غير أن الخلاف الذي لا يمكن القفز عليه هو في معنى هذه المساواة ودلالات ومصدر التميز الذي ما زال يمارس ضد المرأة . الأقلية العلمانية تنظر إلى أن الحقوق المدنية للمرأة لن تكتمل ما لم تحصل المرأة على نصف حظ الرجل من الإرث وفي جميع الحالات، بينما الإسلاميون يرون أن المساواة الحقيقية هي تلك التي يقرها مفهوم إسلامي للحقوق المدنية سبق غيره في أعطاء الحقوق على نحو ما رتبه من التزامات وذلك بشكل متساو بين جميع مكونات الأسرة وفق قواعد تتأسس على ثلاثي العدل والتعادل والتكافؤ ولا سيما بين الرجل والمرأة. كما أن ما يعرفه الواقع من تمييز ضد المرأة في حقوقها المدنية إنما مصدره هو الممارسة المنحطة الموروثة من تقاليد وأعراف بعيدة كل البعد عن الإسلام نصا وروحا. وهي ممارسة لم يكن لها أن تستتب لولا الافتراق بين نصوص الوحي وتمثلات الواقع. التمييز ضد المرأة مرفوض والدينات السماوية وفي طليعتها الدين الخاتم لا تخفى إسهاماته في هذا الباب غير أن الخلاف يكمن في ماهية التمييز ومفهوم المساواة الذي يتأسس عليه. فالإسلام الذي سبق غيره من العقائد الدينية والمنظومات التشريعية ساهم بشكل كبير في إنصاف المرأة ووضع اللبنات القيمية والأخلاقية الأولى التي تأسست عليها جهود الإنسانية في تحرير المرأة وإنصافها، فأحكام الإسلام هي التي أبطلت الممارسات البائدة في الاتجار بالنساء واستعبادهن وتوارثهن من جملة الأمتعة الأخرى وحرمانهن من ابسط الحقوق المرتبطة بآدميتهن وإنسانيتهن. وأحكام الإسلام هي أول من اعترف بالذمة المالية المستقلة والشخصية الاعتبارية المستقلة للمرأة وهو الأول الذي أقر لها حقوقا مدنية كاملة بما في ذلك الحق في التركة يساوي في المحصلة النهائية وفي المنطق حقوق الرجل ويناظرها في أغلب الحالات بل ويفضل عليها في حالات أخرى كثيرة حسب ما يوضحه المتخصصين. والإسلاميون هم الأكثر فاعلية اليوم في مناهضة التمييز الحقيقي ضد النساء ومظاهر تعنيفهن والمتاجرة بهن في سوق النخاسة الجديد والحط من كرامتهن وتشيئهن والترويج لصور نمطية لهن في وسائل الإعلام والفن . المفهوم الإسلامي للمساواة ولعدم التمييز ضد النساء يمتح إذن من قيم كونية سامية هي العدل والتعادل والإنصاف والتكافؤ والكرامة والتكريم . والإسلام يرفض أي تمييز ضد المرأة حتى في الإرث ويقر بالمساواة الكاملة بين النساء والرجال وفقا للقاعدة الفقهية المشهورة " النساء شقائق الرجال" . المرأة التي أعفاها الشرع الإسلامي من جميع الالتزامات المالية اتجاه أسرتها أصولا وفروعا إلا ما كان منها على سبيل التطوع والفضل لا يمكن النظر إلى سهمها الذي يعادل 50 % من التركة على أنه تمييز ضدها إذا علمنا إن أخاها تحمل جميع الالتزامات المالية للأسرة بما في ذلك الأصول عند العجز والحاجة مقابل الحصة التي تفاضل بها حسابيا فقط وإلا عند التحقيق فإن المرأة في هذه الحالة هي التي حازت على الحصة الأكبر بحصولها على 50 % مقابل إعفاء كلي بنسبة 100 % من الالتزامات. وهنا تبرز قيمة العدل بين الجنسين الذي يجسد المساواة الفعلية وليس الميكانيكية ويبرز مبدأ التكافؤ الذي يرمز إلى اللاتمييز في بعده الحقيقي وليس الصوري. والخلاف اليوم بين الإسلاميين والعلمانيين يقوم حول معنى خاص وإديلوجي لقيم المساواة واللاتمييز؛ فبينما يسعى المتضايقون من الانتشار السريع للإسلام في الخريطة العالمية وتوسع صحوته في البلاد الإسلامية إلى تشويه صورته وإثارة مثل هذه الشبهات حوله، في محاولة يائسة لمنع تمدده ليصل على وجه الخصوص إلى فئات معينة، يسعى الإسلاميون إلى مواكبة التطورات المعاصرة بإنتاج اجتهادات شرعية وأفكار تجديدية قادرة على منافسة هذه الأطروحات في ساحة التدافع القيمي والفكري . المفهوم الإسلامي للمساواة يقتضي مقاربة تجديدية لمناهضة التمييز ضد المرأة لم يعد بوسع القوى التقليدية أن تواجه هذا النوع من الفهم ومن التشويه للإسلام ومنظومته القيمية عبر آلية التحفظ والتصاريح في مواجهة ما تعتبره منافيا لأحكام إسلامية أو لمقتضيات سيادية وفقا لما تتيحه اتفاقية فيينا المنظمة للتشريعات الدولية، بل على الحركة الإسلامية أن تتولى المهمة وفقا لخيارها في الممانعة والمقاومة للغطرسة الغربية وتبعا للمسلكية النضالية لدمقرطة طرق إعداد هذه التشريعات الدولية وضمان تعدديتها وانفتاحها وتمثيليتها لقيم مجموع الشعوب بمختلف مشاربهم الدينية والثقافية والعرقية وإنهاء حالة التمركز على نمط قيمي غربي أحادي وإقصائي وإمبريالي يمارس التمييز في أبشع صوره ليس على النساء وحسب ولكن على شعوب بكاملها برجالها ونسائها بدياناتها وبثقافاتها. الخطاب الإسلامي مطالب اليوم بتغيير جدري في مقاربته وتجديد كلي لمقولاته المؤسسة لمفهومه المجدد للمساواة بين الجنسين ولطرحه المتقدم في مناهضة التمييز ضد المرأة. إننا بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى نقاش عمومي هادئ حول المشروع المجتمعي المؤمن للعيش المشترك والضامن للتدافع السلمي بين جميع المكونات وأظن أن اللحظة التاريخية التي تشهدها امتنا لم تعد تسمح بأي نوع من الممارية الإكراهية أو الفرض من فوق لأي شيء بما في ذلك الالتزامات التي تقطع باسم الشعوب وفي معاكسة لإرادتها. من المؤكد أن جميع المغاربة معنيون باحتفاء الممارسة التميزية ضد النساء ويتطلعون إلى مساواة كاملة بين الرجال والنساء غير أنهم غير مستعدين أن يتم ذلك وفقا لمرجعية مخالفة لمرجعيتهم أو وفق تفسير ضيق اختزالي ومنغلق يتساوق مع أغراض إديلوجية متجاوزة.