" إن السلوك الإجرامي عمل نسبي لا يقبل التعريف المطلق، حيث أن نِسْبِيَته تعيق إيجاد تعريف محدد له وثابت "،العالم ماكسويل. لا مراء أن النزعة الإجرامية هي وليدة بيئة اجتماعية ووضعية اقتصادية متردية وتكوين ثقافي ضعيف أحيانا. فموضوع المرأة والجريمة موضوع أكثر اتساعا وشمولا، لذا يجب أن تجرى دراسات وبحوث تتناول كافة أشكال العلاقات بين المرأة والجريمة سواء كانت علاقة مباشرة أو غير مباشرة وإلا فان دراسة الجريمة النسوية بشكل خاص والبحث في عواملها ودوافعها فضلا عن التنبؤ بما ستكون عليه في المستقبل سواء من حيث الكم أو الكيف سيظل ناقصا ومعيبا. ومن هنا فإن رصد الظاهرة الإجرامية عند المرأة، ودراستها من منطلق معطيات الواقع الاجتماعي، سيبعدنا - دون شك - عن التأويلات النظرية الفلسفية التخمينية والتعميمات غير الإمبريقية التي كانت سائدة في مجال تفسير ظاهرة من أكثر الظواهر السوسيولوجية تعقيدا من حيث تعدد عواملها وأبعادها وآثارها ... فظاهرة تنامي الإجرام بالمغرب من المؤشرات الدالة على حيوية وحركية المجتمع، كما أن هذه الظاهرة تعبر في نفس الوقت عن "إفلاس" المشروع المجتمعي الذي يستوجب أكثر من وقفة تأمل لمداواة الخلل، والتي لها اتصالا وثيقا بالتفقير والتهميش والإقصاء، وان معظم الدراسات والأبحاث التي أتى بها العلماء في ميدان الجريمة تصب في قوالب مختلفة حينا ومتضاربة أحيانا أخرى، فهي في عمومها تحاول أن تبرز حيثيات الفعل الإجرامي والعوامل الكامنة خلفه، أو البحث واقتراح حلول للوقاية منه، لكن هذه الدراسات كانت تهمل جانبا مهما وهو مرتكب الفعل الإجرامي بصفته رجلا أم امرأة. كثيرا ما تناول الباحثون عن مختلف مشاربهم الجريمة ومرتكبيها مع التركيز على الرجل، لأن القوالب الثقافية والاجتماعية كثيرا ما تعمل على بلورة فكرة أن ينظر لمرتكب الفعل الإجرامي على أنه خارج عن القانون، وهو الأقدر على ارتكاب الجريمة في مختلف أشكالها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجود اختلاف بين الرجل والمرأة سواء من حيث التكوين العضوي أو النفسي أو من حيث الدور الاجتماعي المفروض على كل منهما. فلما كانت الجريمة التي يقترفها الرجال لها حظ الأسد من جل الدراسات، فان تناولها عند المرأة لازال يحاط بكثير من الحيطة والحذر، السرية والغموض، فهي تشكل شكلا من أشكال الطابوهات التي لا يحق للباحث إماطة اللثام عنها، أو الكشف عن ماهيتها وأسرارها. إن مقارنة ظاهرة الإجرام النسوي تقتضي منا رصد تطور هذه الظاهرة في الزمان والمكان، وذلك بعد أن نقوم بإجرام مقارنة بين إجرام المرأة وإجرام الرجل. قد يبدو أن تحديد نوع الجرائم التي ترتكبها المرأة ومقارنتها بما يرتكبه الرجل عملية سهلة، لا تحتاج إلا إلى مراجعة البيانات الإحصائية الخاصة التي ترتكب سنويا لتحديد نوع مرتكبيها أي كونهم ذكورا أو إناثاً وما ترجح فيه نسبة الإناث على الذكور أو العكس، لكن الأمر أصعب من ذلك بكثير وأشد تعقيدا على الأقل من وجهة نظر علماء الجريمة الذين لا يثقون في الإحصائيات الجنائية ولا يسلمون بصدقها لا بسبب ما قد يلحقها من تعديل على يد الجهات التي تصدرها وهي غالبا الأجهزة المسؤولة عن الأمن التي تفعل ذلك لسببين : أحدهما طمأنة الناس عن أحوالهم، وثانيها الظهور أمام المسؤولين أي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بمظهر الذين قاموا بواجبهم على الوجه الأكمل وأدوا دورهم بالشكل الأمثل، ولكن لسبب آخر لا يرجع إلى رجال الأمن وإنما إلى طبيعة بعض الجرائم التي ترتكبها المرأة، أو ما يحيط بها من ظروف تحول دون علم رجال الشرطة بها ولا تدرج في إحصاءاتهم الجنائية وتبقى في دائرة الظل، ورغم هذا لا تنتفي عنها تهمة الجريمة، بالإضافة إلى أن هناك عجزا مزمنا في الدراسات التي اهتمت بدراسة ظاهرة الإجرام ككل، حيث لاحظنا إغفال شبه تام لموقع المرأة من هذه الظاهرة والبعض من العلماء الذين اهتموا بدراسة ظاهرة إجرام المرأة أو أشاروا إليها ضمن دراساتهم لإجرام الرجل، يلاحظ أن سبب هذه الظاهرة راجع إلى التحرر المباغت الذي تعرضت له المرأة دون أن تكون مستعدة تمام الاستعداد لقبوله والانسجام معه هذا التحرر الذي عرض المرأة إلى مشاكل وصراعات المجتمع الذكوري، وقد أوقع هذا التحرر المرأة العربية عموما والمغربية خصوصا أيضا في فخ الجريمة. وكان من الطبيعي ونحن نتكلم على إجرام المرأة أن نتساءل عما إذا كان هناك اختلاف بينها وبين إجرام الرجل، ثم عن الأسباب الكامنة وراء هذا الاختلاف. ومن المحتمل أن يكون الاختلاف في حجم الجريمة بين الذكور والإناث راجعا إلى أن الإناث يخضعن لإشراف أكثر دقة مما يخضع له الأولاد، ويشكلن طبقا لأنماط سلوكية تنفر من الجريمة يتم تعليمها لهن بعناية كبرى وإصرار أكثر مما في حالة الأولاد، فمنذ الطفولة تتعلم البنات أنهن يجب أن يكن جميلات رقيقات، بينما يتعلم الأولاد أنهم يجب أن يكون خشينين وأقوياء، وتقول الأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار: إن الرجال لا يولدون رجالاً وكذلك النساء لا يولدن نساءً وإنما يصيرون كذلك أثناء عملية التنشئة الاجتماعية، فالنظم الثقافية والقيم الحضارية في المجتمع تؤثر في النساء، وهي التي تحدد الأوضاع النفسية للجنسين، كما أنها هي التي ترسم أنماط السلوك لكل منهما، فإذا كانت هناك نقيصة في النساء فالمجتمع هو المسؤول عنها وليس تكوينهن البيولوجي. وحديثا ذهب بعض الباحثين في علم الإجرام إلى الادعاء بأنه إذا أخذنا في الاعتبار فترة زمنية طويلة نسبيا، فسوف نجد تقاربا بين معدل إجرام النساء والرجال، يرجع أساسا إلى التزايد المطرد لمساهمة المرأة في الحياة العامة، وذهب آخرون إلى أن ما تظهره الإحصائيات من نقص ظاهري في كم إجرام الرجل عن معدل إجرام المرأة وذلك لسببين : - الأول : أن الكثير من جرائم النساء ترتكب في الخفاء ولا تسجل في الإحصائيات مثلها جرائم السرقات من المحلات التجارية، وجرائم الإجهاض، في حين لا تتيح ظروف الرجل إخفاء ما يرتكب من جرائم، فالرقم المطموس أو الأسود في جرائم النساء يزيد عنه في جرائم الرجال. ويرد على هذا الرأي الجرائم التي ترتكبها النساء في الخفاء، فإنها لا تشكل إلا جزءا محدودا من مجموع الجرائم، ولو أضفيت إلى جرائم النساء المعلنة، فإنها لا تساوي في مجموعها إجرام الرجل، نظرا للفرق بين إجرام كل منهما، ولذلك ينبغي عدم المبالغة في تقدير الجرائم المطموسة للنساء. - الثاني : أن المرأة توحي إلى الرجل بارتكاب الجريمة دون أن تقدم هي عليها، فكثير من جرائم الرجال ترتكب استجلابا لرضا المرأة، ويعني ذلك أن الإحصاءات المتعلقة بأحكام الإدانة وسلب الحرية بالنسبة للمرأة تعد قناعا تخفي خلفه حقيقة إجرامها، فبالنسبة لهؤلاء الباحثين لن يكون إجرام المرأة أقل في حقيقته من إجرام الرجل، وإنما سيكون فقط أقل ظهورا منه. وتَرَتُّباً على ذلك قد قيل – مع بعض التحفظ – بأن خلف كل مجرم تقبع امرأة، ومن الأقوال المشهورة أن المرأة لا تقذف الحجر بيدها، وإنما بيد الرجل أو يقذفه الرجل بسببها إلا أن أغلبية الباحثين في علم الإجرام يرفضون الادعاء بتقارب معدل الرجل والمرأة، وينتقدون الحجج التي يسوقها أنصار هذا الادعاء. ويلاحظ أن الجريمة "الأخلاقية" بالمعنى الفقهي، أي ما يصطلح عليه ب"العمالة الجنسية"، الدعارة، أو البغاء سوسيولوجياً، هي الجريمة الأولى والسائدة عند النساء المرتبكات للفعل الإجرامي،(العمالة الجنسية كامْتِهَان) وهذا موافقا لمعظم نتائج الدراسات التي طبقت على النساء المرتكبات للجريمة في كل مكان، والتي بينت أن الجرائم الأخلاقية هي الجريمة الأولى والسائدة عند النساء. لكن هذه النسبة العالية من الجرائم "الأخلاقية" عند النساء يجب أن نقف معها وقفتين: الأولى: وقفة تأمل وتفحص وتفسير للفرق الشاسع بين الجريمة الأخلاقية المرتبكة من طرف النساء، وبقية الجرائم. والوقفة الثانية: كون نسبة كبيرة من الجرائم الأخلاقية تحدث في مجتمع متمسك بالقيم والتقاليد، وتَبَنِّي تعاليم الدين الإسلامي، وأما بقية الجرائم فقد جاءت نسبها طبيعية ومتقاربة. إن أول الضوابط غير الرسمية والمؤثرة على الفرد في بداية حياته هي الأسرة، فهي تقوم بدور مهم وفعال في ضبط ومراقبة تصرفات الابن أو الابنة أثناء عملية تفاعله واندماجه مع الأوساط الاجتماعية التي تحيط به، بدءا بأفراد الأسرة ثم الانتقال للأوساط الأخرى في المجتمع من المدرسة والحي وجماعة الرفاق وغيرها من المحيطين به. لذا فالفرد في سنواته الأولى سهل التطبيع،وسهل التوجيه وهاته المرحلة هي من أهم وأخطر مراحل العمر، حيث أنها تكون حاسمة في تكوين شخصيته، وما يغرس فيها من عادات واتجاهات وعواطف وقيم، وكيف يتعامل معها، مع نفسه ومع الآخرين والتي يصعب استئصالها فيما بعد. إن تحديد الفقر عند الأفراد أمرا نسبيا، حيث أن حالة الفقر تختلف من شخص لآخر حسب احتياجات كل فرد ومدى رغبته في إشباعها، فهناك فرق في تحديد الحاجيات والمتطلبات الرئيسية في حياة الفرد وما تخضع له من عادات وتقاليد وضغوط اجتماعية. لكن نجد أن هناك أفراد من الطبقات الغنية ترتكب السلوك الإجرامي، لذا قد يُعتبر الفقر من المؤشرات التي قد لا تقيس معدل الجريمة بشكل جليّ و واضح. التصدع المادي وتدني الدخل يؤدي إلى سوء التغذية، سوء السكن، والسكن في أحياء غير منظمة ينتشر فيها الانحراف، وإلى انشغال الآباء في البحث عن لقمة العيش فيُهمل الأبناء ويتركون المدرسة ... وغيرها من العوامل التي تهيئ وتدفع الفرد تحت ظروف طارئة إلى ارتكاب السلوك الإجرامي. وكاستنتاج أخير، لا يمكن أن يغزو السلوك الإجرامي عند المرأة العامل الواحد، لأنه ليس وليد العوامل الداخلية وحدها ولا العوامل الخارجية، وإنما هو تفاعل عدة عوامل، هكذا فإجرام النساء ظاهرة معقدة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال حيث أنها ظاهرة تمس كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.... _ نقطة: في المقال القادم إن تيسّر الأمر سنقدم نتائج الدراسة الميدانية حول الفعل الإجرامي لدى نزيلات مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء باعتباره مركزا للمصاحبة والإدماج ، بفاس حي الدكارات كنموذج.