أي عقل هذا الذي يسلب الشخص حق التعبير عن رأيه؟ لستَ تجدنا نبالغ إذا ما نحن قلنا إن المغرب قد عرف غداة الانتخابات التشريعية الأخيرة لغطا كبيرا، ولا يتعلق الأمر بتشكيل الحكومة فقط، و لا بحيثيات التحالفات الصورية، بل يتعلق الأمر بظهور أصوات تنادي بحرمان المقاطعين للانتخابات من الإدلاء برأيهم حول الممارسة السياسة بالبلاد. هذه الأصوات تستمد شرعيتها من التوجهات الفكرية الأحادية، توجهات يجب أن تفكر، و لو قليلا، في مقتضيات الديمقراطية كما ظهرت باليونان أول الأمر، قبل أن تُترجم هذه الأصوات تصوراتها الفكرية على أرض الواقع. إذا كان ثمة فهم مغلوط للديمقراطية لدى أولئك، فانتظر اغتيال حقوق الإنسان واقعا.. لنتأمل قليلا، تنامي صرخة بعض الفئات في الآونة الأخيرة، و إعلانها الهجوم على كل من قاطع العملية الانتخابية، لنكتشف أن أغلبهم من الأحزاب التي تمارس نوعا من الخداع و المكر بطرق مختلفة، الأحزاب التي تضم أشخاصا يتقنون فن إخفاء تلك الصفات اللاأخلاقية، في الوقت الذي يتخذون الأخلاق شعارا لهم في الحياة، شعارا نظريا و ليس عمليا طبعا. هؤلاء يتوجسون خيفة من الأصوات الحرة التي تتبنى الوضوح مع الجميع، الأصوات التي وفرت صوتها لتصرخ به في وجه الاستبداد، كيفما كان نوعه، و لم تمنحه لأحد من الدمى السياسية لحظة الانتخابات. الأصوات التي أرادت كشف أكاذيب مختلف الأحزاب السياسية و تناقضات خطابها، الأصوات التي تتشرب من منبع الفكر الحر، وتستمد منه قوتها لتمارس نقدا عقلانيا، و ليس اتباعا وخضوعا لتسلط الزعيم، أو نزولا عند رغبة الأمين العام. الهدف إذن من الهجوم على المقاطعين، ليس خدمة للديمقراطية، بل إسكاتهم و إبعادهم عن دائرة التفكير في الممارسة السياسية للأحزاب المشاركة: حكومة و برلمانا، أغلبية و معارضة. مثل هذه الممارسات اللاديمقراطية، تحمل في طياتها تعطشا للتسلط و الإقصاء، تنبئ بأشياء خطيرة، ستؤدي بالبلد إلى الدمار !!! في الوقت الذي ينتظر فيه الجميع(المشاركون، و المقاطعون) تثبيت أسس الديمقراطية، نجد بعض العقول المتحجرة تدعو إلى إسكات كل الأصوات الحرة. على هذه العقول المتحجرة، الوعي بأن الانتخابات ليست غاية، بقدر ما هي وسيلة من وسائل بناء الدولة الحديثة، دولة الحق و القانون، دولة المؤسسات و ليست دولة الأحزاب أو الأشخاص، دولة للجميع و ليس لأحد بعينه، أو لحزب أو لطائفة معينة .. هل المقاطعة جرم؟ الجواب بالنفي طبعا، و بالتالي لا تستوجب العقاب. بل المقاطعة تجسيد للحرية، باعتبار الأخيرة: استقلال الذات فكرا و ممارسة، وقدرة على القيام بالفعل أو الامتناع عنه. الأساس ليس القيام بفعل التصويت فقط، بل حتى الامتناع عنه، كتكتيك في ظل شروط سياسية معينة. إذا لم تكن المقاطعة جريمة، فلا يمكن حرمان المواطن من التعبير عن حقه. إذ أن مهمة الحكومة المنتخبة في الأنظمة الديمقراطية هي ضمان حقوق الجميع بغض النظر عن لونهم السياسي و فصيلتهم الفكرية. و إذا اعتبر أحد المدافعين عن "سلب المواطن حقه من التعبير عن الرأي"، فوجب تذكيره بأن الديمقراطية تقتضي أيضا حماية "الأقلية" مع العلم أن الاستثناء المغربي يعرف حقيقة مرة، تتجلى في كون الأقلية هي الفئة المشاركة في الانتخابات للسابع من أكتوبر الجاري !!! مرة أخرى يتضح أن الجهود يجب أن تتجه نحو تحديث الوعي قبل تحديث المؤسسات... هل عدم المشاركة في الانتخابات، يسقط عن المواطن مشروعية المطالبة بحقوقه، أو الاستفادة من خيرات الوطن؟ التصور الذي يقر بأن المُقاطع يجب ألا يستفيد من خدمات الدولة، تصور هش لا يميز بين الدولة كمؤسسات وُجدت لخدمة المواطن، وبين الحكومة كسلطة سياسية قد تتخذ هذا اللون أو ذاك. الدولة غايتها ضمان الأمن للفرد، و حماية ممتلكاته، وضمان حريته، و تحقيق شروط العيش الكريم... حسب ما يؤكد عليه رواد الفكر السياسي منذ عصر النهضة. و إلا فقدت الدولة مشروعية وجودها بشكل مطلق. نتحدث طبعا عن الدولة الحديثة التعاقدية، أما الدولة الثيوقراطية فلا غرابة أن تسلب منك كل الحقوق و تجردك من إنسانيتك !!! لابد من التفكير في سبل التأسيس للعيش المشترك، و الإيمان بالاختلاف على جميع الأصعدة( ثقافيا، سياسيا، دينيا..) تجسيدا لمبادئ الديمقراطية الحقة، التي على ضوئها نقول للجميع: سنكتب يا سادة، عن السياسة كما عن الحب، عن الحرب كما عن السلم، عن الثورة كما عن الإصلاح.. سواء كنا منخرطين مشاركين، أو مقاطعين رافضين. عدم المشاركة في الانتخابات هو شكل من أشكال ممارسة السياسة.