قصة "ليا" المثيرة...تشبه إلى حد بعيد قصة "دياس" و"سايلا" ابنا بلدتي الصغيرة...فالأولى تمردت، أخذت من الصليب طريقا...والثاني فضل الرحيل على أن يبقى في البلدة غريبا...والثالث فضل التآمر...تحالف وخالف أوامر الأب وفضل المناصب..الآخرون اعتزلوا الواقع اتخذوا من "أوريانا" رفيقة، تنير لهم الطريق وتزرع في قلوبهم الأمل...في حين اعتلت "ثرلي" عرش الجنون...غير التبجيل ملامح "ليا" حتى أصبحت إنسانا...وغيرت الغربة "دياس" حتى أصبح شاعرا...بينما غيرت الماركات المسجلة ملامح "سايلا" كثيرا...حتى كادت المرآة ألا تعرفه...وكاد الكبرياء أن يسقط انحناء أمامه... حاولت "ثرلي" تذكير "سايلا" المغرور بنفسه: العبرة ليست في البدايات وإنما العبر في الخواتم...وليس كل فوز نصرا وإنما في بعض الانتصار وهم ومذلة... قصص قد تختلف عناوينها وبناؤها الدرامي، شخوصها وأحداثها، إلا أنها تبقى متشابهة في تفاصيلها ونتائجها... كان عليها أن تختار بين صكوك الولاء مقابل نيل تأشيرة البقاء بجوار "سايلا" السعيد...وإما التغيير ونيل العقاب العسير مثل "ليا" و"دياس" الحزين... المصير محسوم...والطريق مسدود...هكذا قالت لها العرافة "أوريانا"...إنها الوجه الآخر الخفي لمملكة الجنون...كانت تقطن في إحدى أزقة المدينة العتيقة المسيجة بأسوارها الحمراء...قرب ممر "ديابلو" الشهير...كان يقصدها العامة والأعيان كلما ساءت الأحوال أو اختلطت عليهم الأمور...ليستفسروا عن حلم ضائع...أو زوج خائن...عن ابن عاق أو حظ غائب...وفي أحيان كثيرة كان يقصدها الفقير لتجلب له الحظ الوافر...وتتزوج البنت أميرا خليجيا...لتتحقق معه الأحلام المؤجلة...وتشبع بطون الإخوة الجائعة... وتأخذ الثأر من رب العمل الجائر...بل لتنال الإعجاب وتصبح في المدينة أميرة... بينما الأمير كان يقصدها ليلا متنكرا...لكي تقرأ له الطالع وتنير له الطريق...ويتمكن من تملك القلوب والعقول حتى يكون أكثر قبولا...ويستمر على العرش قرونا... يبدو من الوهلة الأولى ان ذكاء وسلطة "أوريانا" العرافة لا حدود لها...تفوق توقعات وذكاء كل الحكومات المتعاقبة...فبتسخيرها للقوى الغيبية للتغلب على المستبد...وتحقيق أحلام المستضعفين...هكذا استطاعت "أوريانا" أن تعمر طويلا...وكيف لا؟ وهي من يفك العزلة والقيود...ويزرع الأمل ويجلب الغائب...إنها قادرة باسم القوى الغيبية أن تحمل أجوبة يعجز الحاكمون والعقلانيون والمقدس أن يحملها...فنزولا عند رغبة الملايين المتشبثين بتمائمها...ألا تستحق "أوريانا" أن ينصب لها تمثالا في المدينة'؟...ومنصبا في الحكومة؟...ويخصص لها يوما وطنيا اعترافا للتوازن الذي تحققه؟...وامتنانا لحماية النظام من الانهيار...والسيطرة على الوضع من اليأس؟... فبالرغم من قدرتها وتحكمها في عالم الأرواح والجن، تبقى "أوريانا" عاجزة من الإفلات من قبضة الفساد الذي تشكو منه كل المدينة...وسالت له دموع "أوريانا" العرافة بسبب جور القائد المتسلط...ومن القوانين المجحفة في حقها التي تجاهلت كيانها ووجودها بالفعل.. رغم قوة الطلب وضرورة الخدمة الاجتماعية...تختزل أوريانا أحلامها في أن تحمل بطاقتها الوطنية رقما وعنوانا لهويتها "كعرافة".... وقبول خزينة الدولة أداء واجبها الضريبي على المداخيل كأية مواطنة ... إن معاناة أوريانا لا تنتهي، إذ لا أحد يتمنى أن تكون الزوجة المصونة أو البنت الكريمة مكان "أوريانا" العرافة... (إنها مفارقة غريبة) ...تقول "أوريانا" بكل حرقة: (أنا "أوريانا" العرافة...أنا من يقصدها الإنس ويركع لها الجن...أنا من تتنبأ بالأحداث قبل وقوعها للسلاطين وتحقق أحلام الملايين...كيف يتجاهلني المسؤولون ولا يرى وضعي الحقوقيون؟). إن مرارة "أوريانا" دفعتها للترافع عن حالات متشابهة لحالتها...تحدثت عن النفاق الاجتماعي وعن قصر نظر الحكماء...وعرجت بكل طواعية على قصة الراقصة "فريدة" التي أحبتها الجماهير، حدثتني كيف عانت "فريدة" المسكينة من الوحدة ومن النفس اللئيمة...كيف لها وهي من آمنت بالله وأدخلت السرور على عباده المؤمنين بصوتها الشجي وبهز خصرها النحيف، ألا تدفن بجوار من أسدت لهم خدمات جليلة؟...فبدونها ما كانت الأعراس أن تسمى كذلك...جعلتني "أوريانا" أنسى هم "ثرلي" وهمي... بل زادتني هما على همي...وتشبثا بالمطالبة بحقها في التواجد وبالوضوح في المواقف...بفصل السلط بل وبفصل الثنائية عن القول والفعل...معها تبدو الأشياء غير التي أعرفها...معها يبدو الانفصام والتناقض العدو الأساسي،.. فإما الاعتراف الصريح بأقدم المهن...وإما منعهما منعا كليا من التواجد...(يتبع).