إمتدت الحركة اليسارية إلى الوطن العربي من الفلسفة الشيوعية التي شهدت عدة دورات للفعل الإجتماعي ذي الطابع الثوري أو الإنقلابي ، و في كل دورة تاريخية لهذا الفعل الثوري كانت القوى الإجتماعية الفاعلة فيه تستظل برؤية ثورية صاغتها طموحات الملايين من المظلومين و المضطهدين و الفقراء و الفلاحين و العمال و الطلبة ، نتيجة تأثير الأفكار الطلائعية للمفكرين و الفلاسفة و المثقفين أمثال François-Marie Arouet المعروف باسم Voltaire فولتير و هو رمز عالمي من رموز الحرية و التنوير و من أعظم المفكرين الذين دافعوا عن حقوق الانسان و كرامته، وJean-Jacques Rousseau جان جاك روسو الفيلسوف السويسري الذي اثرت أفكاره السياسية في الثورة الفرنسية و في تطوير الاشتراكية، و مثلما لم تكن ثورات العبيد أولى هذه التحركات الجماعية والإجتماعية في التاريخ الإنساني ، كذلك لم تكن الثورات البورجوازية في أوربا و أمريكا منذ أواخر القرن الثامن عشر و أوائل القرن التاسع عشر التي بلورت أعظم أطروحاتها النظرية في مفاهيم راية الثورة الفرنسية في الحرية و الإخاء و المساواة بمضامينها واسعة الدلالات سواء بمدلولها السياسي أو مدلولها الإقتصادي الذي عبر عنه شعار : "دعه يعمل دعه يمر" laissez faire laissez passer أو في مجال الفكر و حرية الإعتقاد ، و تأسس عليها الربط الفلسفي بين الوجود الإنساني وحرية التفكير، je pense donc je suis و الحقيقة أن هذا الإنجاز الفكري و السياسي للثورات البورجوازية لم يلبث أن إصطدم بعد أقل من قرن من الزمان بوقائع و أوضاع جديدة فرضت من جديد رؤى نظرية و فلسفية و رcية ثورية جديدة تمثلت في المانيفاست manifeste le الشيوعي عام 1848 و ما عقبه من ثورات عمالية متكررة في فرنسا وانكلترا و ألمانيا و بقية دول أوربا الصناعية و نجحت أخيرا في استيلاء البلاشفة على السلطة في روسيا القيصرية و إقامة أول ديكتاتورية بروليتاريا في التاريخ الحديث تحت راية الماركسية اللينينية و استمرت في الزحف على الصين و بقية دول شرق أوربا و آسيا مهددة كامل النظام الرأسمالي العالمي ، إلا أن تناقضات النموذج الجديد من ناحية و حجم الصراع الضاري الذي دار بينه و بين الحلف الإمبريالي العالمي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية أودى به إلى الانهيار و التفسخ ،و الحقيقة أن مشكلات هذا النموذج كانت محل جدل فكري واسع بين مختلف تيارات الحركة الشيوعية العالمية ، فبينما آمنت به و سايرته دون تحفظ الأحزاب الشيوعية المنضمة إلى (الكومنترن) و تعني الأممية الشيوعية و حتى بعد حل هذه المنظمة الأممية و منها الأحزاب الشيوعية في بعض الدول العربية فإن هناك تنظيمات شيوعية أخرى كان لها بعض الملاحظات النقدية تجاه النموذج السوفياتي وفاعليته الإنسانية و على عكس الحركة التروتسكية العالمية (الأممية الرابعة) التي صاغت منذ كتابات تروتسكي النقدية و حتى( ارنست مندل) رؤية نقدية متكاملة إزاء هذه التجربة التي وصفتها أحيانا بالعمالية أو البيروقراطية الإستبدادية الستالينية و توقعت انهيارها تحت معاول ثورة اشتراكية جديدة. و لم يكن من المتوقع الانهيار المروع لهذه التجربة بمثل هذه الصورة و لصالح إقامة نظام أكثر تخلفا إنسانيا و حضاريا تتسلط فيه أسوأ الفئات البورجوازية (الكمبرادورية) comprador وهي كلمة برتغالية تعني (اشترى) و في المصطلح السياسي تعني الطبقة البورجوازية المتحالفة مع رأس المال الأجنبي قصد الاستيلاء على السوق الوطنية و كذلك المافيا و قيادات المؤسسة العسكرية و ناهبو الشركات . إن مراجعة سريعة للأحداث التي عصفت بدول أوربا الشرقية و جمهوريات الإتحاد السوفياتي في أعقاب طرح( غورباتشوف) لفكرة (البيروسترويكا) تشير إلى أن المستفيد الأول من كل ما جرى و يجري هي الصهيونية العالمية و(إسرائيل) بشكل مباشر إضافة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ، أما الخاسر الأول فهي الأحزاب اليسارية في الدول العربية. إن انهيار الاتحاد السوفياتي و تفكك الكتلة الشرقية أسقط معادلة التوازن الدولي التي كانت قائمة على مدى السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي و بالتالي بين الحلف الأطلسي و حلف وارسو من حيث تقاسم النفوذ في كل أنحاء العالم و في العالم الثالث بشكل خاص مما أفرد أمريكا بلعب الدور الأول في مجمل السياسات و القضايا الدولية و على كل صعيد. يقول الكاتب( اولينغ غورد ييفسكي) الذي كان عضوا في المخابرات السوفياتية "kgb" برتبة كولونيل في كتابه (خفايا العمل الجاسوسي وراء الستار الحديدي ) ان (غورباتشوف) ليس الا طبخة امريكية معدة منذ زمن للقيام بهذه المهمة و لعب هذا الدور و ان الاستخبارات السوفياتية "kgb" هي التي صنعت (غورباتشوف ) و هيأته لهذا الدور فكان مجيء( غورباتشوف ) إلى الحكم حدثا قلب الموازين الدولية و رسم على شخصيته و دوره علامات استفهام عريضة و بدأ عهده بخطوات مثيرة و جريئة على طريق التقارب مع الغرب عموما و مع الولاياتالمتحدةالامريكية بوجه خاص و أصبح الاتحاد السوفياتي الصديق الحميم بعد أن كان العدو اللذوذ. إن النتائج المترتبة على هذا الوضع انعكست سلبا على الأحزاب اليسارية في الدول العربية عامة وفي المغرب خاصة، و هناك عوامل عدة تقف وراء فشل هذه الأحزاب اليسارية في المغرب في تطبيق سياستها إذ برزت نظرية جديدة شعارها (التغيير من الداخل) و تعني قبول المشاركة في اللعبة الديمقراطية وبالتالي التخلي عن المبادئ الثورية الاشتراكية وإعادة بناء هياكل هذه الأحزاب من جديد و مراجعة فلسفتها و نظرياتها و مناهجها حتى تساير التحولات التي جرت، و كان أهمها البيروستريكا. و في معرض الكلام عن المهمة الأساسية لهذه النظرية قال غورباتشوف ( أما مهمتنا الأهم في الوقت الراهن أن ننهض بالإنسان روحيا محترمين عالمه الداخلي ) و بهذا أسقط غورباتشوف الجدران المادية والإديولوجية وأنهى الصراع مع الكنيسة خاصة عندما ظهر وهو يتبع البابا يوحنا بولس الثاني يبارك الجمهور وإحدى يديه على صدره والأخرى على معدته و كلام غورباتشوف و تصرفاته تعتبر خروجا كليا على النظرية المادية للشيوعية. و بدأ الحزب الشيوعي يخرج على المبادئ الأساسية للماركسية فظهر مشروع إلغاء النهج الثوري الذي تعتمده الشيوعية في هدم الكيان الرأسمالي. و في المغرب بدأ التقارب واضحا بين الأحزاب اليسارية والنظام الحاكم، فمن محاولة قلب النظام إلى العيش في قلب النظام. و بهذا الإنهيار المتسارع و المتوالي للمنظومة الإشتراكية في الاتحاد السوفياتي و في بقية دول أوربا الشرقية بدا و كان التاريخ الإنساني قد توقف عند الرأسمالية كنموذج وحيد قادر على الصمود و الإستمرار فيما وصف بأنه نهاية التاريخ . و بزخم اللحظة التاريخية الفريدة اندفع المنظرون في الغرب و الشرق لصياغة أفكارهم حول النظام العالمي الجديد و العولمة أو الكوكبة Globalisation وكأنها راية العالم المعاصر الآن و مستقبلا و إلى الأبد وبرزت في النظام العالمي ظاهرة جديدة و فريدة هي هيمنة و سيطرة و تربع قوة سياسية وحيدة على شؤون العالم و مقدراته و هي الولاياتالمتحدةالأمريكية ، و منذ سنة 1991 والنظام السياسي العالمي يشهد ظاهرة أمركة المؤسسات الدولية ( أمم متحدة- نظم إقليمية) و تؤدي اللاأخلاقية الأمريكية أو ما يسميه البعض المعايير المزدوجة (deux poids deux mesures ) واستناد الشرعية الدولية في المرحلة الراهنة إلى الرغبة الأمريكية والرؤية الأمريكية و المصالح الأمريكية وحدها و في تحالف ظاهر لا لبس فيه مع الكيان الصهيوني العنصري الاستيطاني إلى خلق بؤر توترات ساخنة في العالم بحيث ستظل المنطقة العربية لسنوات طويلة بؤرة دامية لصراع سياسي و عسكري غير مسبوق من أجل اجتثا ث روح المقاومة الوطنية و القومية في فلسطين و باقي دول المنطقة . و يؤدي ضعف و تواطؤ بعض الأنظمة العربية مع هذا السلوك الأمريكي المدعم للسلوك الإجرامي الإسرائيلي إلى خلق حالة من الإحتقان السياسي الشعبي العربي ينتظر لحظة الإنفجار خاصة أن الأنظمة السياسية العربية فشلت فشلا ذريعا في إدارة الأزمات الداخلية و الإقليمية ( الإهمال - الفساد المالي و السياسي و القضائي - الرشوة - الكساد- سوء استخدام الموارد - البطالة - نكبات - هزائم متتالية عسكرية و سياسية ...) كل هذه التراكمات و العوامل خلقت نوعا من الإحباط في نفوس المواطنين العرب الذين ينشدون التغيير . إن التجارب السياسية تؤكد أن أي تغيير سياسي بصوره المختلفة الثورية أو الديمقراطية ينبغي أن يتوافر لها ثلاثة عوامل أساسية متكاملة هي : 1/ وجود مناخ سياسي اجتماعي محتقن يدفع إلى التغيير و يلح عليه أو ما يطلق عليه في الأدبيات الثورية (الظرف الموضوعي) . 2/ قوى سياسية راغبة في التغيير و قادرة عليه سواء في صورة حزب سياسي أو جبهة أحزاب وطنية و هو ما يطلق عليه ( الظرف الذاتي لقوى التغيير) 3/ برنامج وطني أو ثوري يحوز القبول العام و يشكل أساسا لتكتل إجتماعي و سياسي واسع النطاق . إن جوهر الأزمة في الدول العربية هو غياب العنصرين الأخيرين. لقد أصبحت الفجوة كبيرة بين الأحزاب السياسية على اختلاف اتجاهاتها و بين المواطنين فنفضت الجماهير يدها منها فأصبح الشغل الشاغل لهذه الأحزاب هو الوصول إلى قبة البرلمان و الحكومة بأية وسيلة كانت حتى و لو كانت على حساب المبادئ ، فأصبحت الأحزاب (الاشتراكية و الشيوعية ) و ( الأحزاب الإسلامية ) يشكلون حكومة ائتلاف واحدة منبثقة عن انتخابات يحكمها المال الحرام و الفساد والرشوة لا ينتظر منها الشعب سوى نهب و سلب المال العام و الفقر و الحرمان ، هذه الوضعية المزرية يحاولون تغطيتها بإعطاء الصدقات (الزيت والسكر والدقيق ) بينما يسرق المسؤولون ملايير الدراهم ، و بمساهمة اليسار في هذا المسلسل ضاعت جهود المناضلين الحقيقيين الأوائل فأصبح من المستحيل على ما تبقى من مناضلي الأحزاب اليسارية في الوقت الراهن ، خاصة في المغرب ، القيام بدورهم النضالي التقدمي الطلائعي الذي من أجله خلق اليسار و هو الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة و الفقيرة و محاربة الفساد و الاستغلال و التفاوت الطبقي ، فأصبح المواطن لا يستطيع الفرز بين اليسار و اليمين و لا بين الاشتراكيين و الإسلاميين و الرأسماليين ، فهم يأكلون جميعا على مائدة واحدة، فتحول زعماء اليسار إلى وزراء و مدراء و سفراء و رؤساء برلمان و حكومات مهمتهم السمع و الطاعة و تنفيذ التعليمات ، و استطاعت الأحزاب الإسلامية و الليبرالية تحقيق انتصارات انتخابية نتيجة وجود فراغ في الساحة السياسية و تخلي اليسار عن قواعده الاجتماعية و النضالية . *المحامي بهيئة وجدة