في نقد الثقافة السياسية 3 النزعة الاشتراطية التائهة (فيدرالية اليسار) تتميز تجربة فدرالية اليسار بفرادة خاصة، فهي تريد أن تستفيد من مثالية النزعة الاشتراطية المتسمة بقدر من البطولة والطهرانية وبناء الذات على حساب نقد الخصوم، ولكنها لا تريد فقدان مكاسب المشاركة والدخول إلى المؤسسات، رغم التناقض الواضح بين المسارين، ولذلك تتسم هذه التجربة بكثير من التردد والتيه الإيديولوجي والسياسي. كانت النواة الأولى لهذا الخط هي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي ضمت نخبة من مثقفي اليسار الجديد، وانخرطت في العمل السياسي في الثمانينات، وشاركت ضمن تحالف الكتلة الديمقراطية، وكان خطابها يتسم بقدر من الانفتاح تجاه المخالفين، والبحث عن توافقات وتحالفات على أساس المبادئ والمطالب المشتركة. ولذلك كان رموزها يميلون إلى فكرة "الكتلة التاريخية" التي نظر لها المرحوم الجابري، والتي يفترض أن تضم كل الأطياف التي تؤمن بالانتقال الديمقراطي وقضاياه الرئيسية. وقد انضاف إلى هذا التنظيم تنظيم آخر هو حركة الوفاء للديمقراطية التي قادها محمد الساسي عقب الخروج من الاتحاد الاشتراكي في فترة التناوب. وكانت تضم مشارب فكرية مختلفة تجتمع على فكرة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولم يكن أي من هذين المكونين يتصف حينئذ بهذا القدر من التصلب الإيديولوجي الذي تنامي بعد التحاق مجموعات يسارية صغيرة لتكوين الحزب الاشتراكي الموحد ثم فدرالية اليسار بعد التحاق حزب الطليعة والمؤتمر الوطني الاتحادي. عرف هذا الجسم إذن تحولين اثنين هما: خروج النخبة الفكرية الأولى التي أسست الحزب الاشتراكي الديمقراطي والتحاق المجموعات اليسارية الجذرية مثل الديمقراطيين المستقلين، فأصبح هذا التنظيم يميل نحو الإرث الماركسي الكلاسيكي دون مراجعة أو تجديد، وارتفع منسوب الخطاب النضالي المسيس على حساب التنظير الفكري العميق. وضم أطيافا غير متجانسة ومشارب فكرية وسياسية غير موحدة لذلك استمر التحالف في تدبير خلافاته بالتوافقات أكثر من إعمال الديمقراطية. لقد آل مصير التنظيمات اليسارية في العقد الماضي إلى ما يشبه الانسداد التام في الأفق الفكري والنضالي، ولذلك بحث كل طرف عن وظيفة ما تبقي وجوده في المشهد السياسي، فدخل بعضهم إلى الانتخابات بعد أن قاطعها طويلا مثل حزب الطليعة، والتحقت مجموعات بحزب الأصالة والمعاصرة وتحالفت مع الأعيان والإدارة مسخرة خدماتها لمحاربة الإسلاميين، والتحق بهم البعض في إطار تحالف الأحزاب الثمانية مع البام. واستطاعت مكونات فدرالية اليسار أن تنأى عن هذه الورطة التي ابتلعت أطراف أخرى، ولكنها بقيت رهينة لعائقين كبيرين من بقايا نزعة اليسار، أحدهما تلك النزعة الاشتراطية المثالية والحرص على ما يعد نقاء إيديولوجيا. والثاني هو العداء المتأصل للإسلاميين، وإذا كان ممكنا تفسير الأول باعتبارات إيديولوجية، فالثاني يرجع أكثر إلى عوامل نفسية. قدم محمد الساسي في ورقة مذهبية على شكل مشروع تولى بمقتضاه قيادة حزب اليسار الموحد عنونها ب" الديمقراطية هنا والآن " ويلخص هذا العنوان منطق التفكير السياسي الاشتراطي الذي يقفز على كل التعقيدات الثقافية والاجتماعية والمؤسساتية والجيوسياسية التي يفترض النضال من خلالها للوصول إلى الديمقراطية ،فصبح أشبه ما يكون بوجبة سريعة تنضج بدون شروط. راهن اليساريون على حركة 20 فبراير متوقعين أن تصنع التغيير المفاجئ، لكن تأكد بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان أن الرهان لم يكن بالحجم المطلوب، ولكن بدل أن يشتغل على تحليل تجربة الحراك الشعبي ودوافعها وإمكاناتها وعوائقها ومكوناتها وحدود الانخراط الشعبي وعوامله، وتقديم تقويم حقيقي لإمكانيات النضال الديمقراطي تسمح بمراجعة ذاتية وموضوعية ،فضل بدلا من ذلك الهروب إلى الأمام، واتهام حزب العدالة والتنمية باختطاف هذا النضال وتحويل مساره، وكأن هذا الحراك سائر فعلا نحو تحقيق أهدافه لولا هذا الحزب. رفض الساسي ورفاقه دستور 2011 واعتبروه ممنوحا، والاستفتاء عليه مشوبا بالتزوير ورفضوا تبعا لذلك الانتخابات البرلمانية المنظمة في نونبر 2011 مراهنين ربما على تأزم الوضع السياسي واستئناف الحراك الشعبي، وهو ما لم يحدث مثلما توقعوا، فاكتشف الرفاق أن الامتناع عن المشاركة الانتخابية والنضال اليوم مرادف للموت البطيء. وهذا تراجع لم نسمع إلى حدود الساعة بأنه قدموا تبريرا مقنعا عنه. ولكن في كل الأحوال هو إقرار بأن التغيير السياسي لا يتوقف عند وضع الشروط أمام السلطة الحاكمة وإحراجها في انتظار أن تتنازل وتتحول إلى الديمقراطية، وأن تشكيل وعي المواطنين يبدأ بالانخراط في حياتهم اليومية رغم كل السلبيات، وأن إنضاج شروط الديمقراطية له منطلقات في الدولة كما في المجتمع. ومن تم قرروا المشاركة في الانتخابات المحلية 2015 والتي ينظمها الدستور المرفوض، وشاركوا في تسيير بعض الجماعات المحلية، وترأسوا بعضها رغم ما يعتبرونه وصاية للداخلية. ثم استكملوا هذا المسار بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية الحالية، وتغطية أغلب الدوائر وتقديم برنامج انتخابي مليء بالإجراءات التفصيلية المتعلقة بالتدبير اليومي للقطاعات المختلفة. لا يمل رفاق الساسي ومنيب من الاستمرار في رفع شعارات التغيير الجذري ووضع الشروط ذات السقف العالي، ولكنهم لا يطيقون البقاء خارج اللعبة في مفارقة تعكس حجم التيه السياسي والايديولوجي الناتج عن الاحجام عن أية مراجعة حقيقية لموقع الحزب ودوره. يردد بعض مناضلي اليسار؛ ومنهم السيدة منيب اتهام الحكومة بالخضوع لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووصفها ب"التلميذ النجيب"، ولكنهم لا يصرحون علنا بالبدائل التي يملكونها خارج النظام المالي والنقدي الدولي، وعن إمكانيات بلد كالمغرب في التحرر من هذه الإكراهات بهذه السهولة المتوهمة. خلال الحملة الانتخابية الأخيرة أطلقت نبيلة منيب تصريحات تعكس حجم التناقض الذي تتخبط فيه إلى درجة تثير الاستغراب والشفقة، فقد قالت في مراكش بأن مدخل الاصلاح السياسي هو بناء الملكية البرلمانية، مؤكدة أن ذلك وحده الحل السليم لكل تناقضات المغرب، مما يعني أن أولوية حزبها هو النضال السياسي لإقرار التحول الديمقراطي، ثم تعود لتقول في كلميم بأن برنامج حزبها يتضمن 400 إجراء ملموس في قطاع التعليم والصحة والتشغيل والسكن، وأنه يستحضر مصلحة المواطنين وانشغلاتهم، ولكنها لم توضح كيف استطاعت أن تعد المواطنين ببرنامج إجراءات وتدابير مفصلة يفترض انجازها تكوين حكومة أو المشاركة فيها في ظل الظروف الدستورية والسياسية التي ترفضها، وكيف يستقيم أن تعتبر العمل الحكومي في ظل هذه الشروط نوعا من العبث ثم تسعى جاهدة للوصول إليه. من مظاهر الطفولة السياسية (بتعبير لينين) قول السيدة منيب هناك بدائل لسياسة التقشف الحالية التي تروم إصلاح المالية العمومية، وصرحت بأن حزبها يستطيع تقديم مصادر تمويل بديلة أهمها محاربة الريع والتهرب الضريبي واسترجاع الأموال المهربة، وهي تعرف أن هذا نوع من بيع الوهم لأن مراكز القوة والنفوذ الحالية لن تتنازل مرة واحدة عن كل امتيازاتها. وأن استرجاع الأموال المهربة لم تستطع إنجازه تونس وليبيا ومصر التي قامت فيها ثورات شعبية، فهل سوف تعلق منح رواتب الموظفين آخر كل شهر على عودة الأموال التي ستنجزها حكومة مكونة من عدة أحزاب يشارك فيها حزبها بوزارة أو أكثر ، إن هذا أشبه بخطاب حزب سيريزا اليساري اليوناني الذي نجح في الانتخابات بشعارات محاربة الامبريالية ثم اضطر للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي والأبناك العالمية على الإصلاحات المالية والهيكلية. تحدد فدرالية اليسار موقعها الإيديولوجي والسياسي بأنها خط ثالث بين البام واليجيدي، وإذا كان من المقبول التموقع في الوسط بين اتجاهين فكريين واقتصاديين كما هو الأمر بالنسبة لاختيار الديمقراطية الاجتماعية بين الليبرالية والاشتراكية مثلا، فإنه من الغريب أن يحدد حزب موقعه إلى الوسط بين حزبين آخرين، وكأنه يعرف لا وجوده إلا بوجود النقيضين، وليست له هوية مستقلة متفردة، ولا يقوم خطابه إلا على محاولة التمييز هذه. من مظاهر قصور الوعي السياسي ،العجز عن تحديد الأولويات وترتيب التحالفات بالشكل الضروري المناسب للغايات الكبرى للحزب بما يعنيه ذلك من امتلاك المرونة اللازمة فكريا وسياسيا. ومن حق أي حزب سياسي أن يرفض التحالفات لا تنسجم واختياراته، ولكن هل من المجدي سياسيا وضع خطوط حمراء للتحالف في تكوين المجالس المحلية التي يغلب عليها التدبير اليومي مقارنة مع البرلمانات والحكومات التي يفترض أن تحضر فيها هذه الاعتبارات. لقد اضطر بعض مستشاري اليسار إلى دعم مجموعات فاسدة في بعض الجماعات استجابة لتعليمات السيدة منيب بعدم التحالف مع البجيدي واعتباره خطا أحمرا. تقول السيدة منيب في أحد حواراتها "لو كان الحكم بيدنا لكانت محاربة الفساد أكبر من شعار" ولا أحد بالضبط يعرف كيف يفترض أن يكون الحكم بيد حزبها في ظل الشروط الحالية ، ولماذا يقبل حزبها بعض التقنيات المخزنية في بلقنة المشهد الانتخابي مثل تخفيض عتبة المشاركة فقط من اجل ضمان وصول الاحزاب الصغيرة الى البرلمان . ان مشكلة النزعات الاشتراطية البنيوي هو كونها تمارس السياسة بمنطق غير سياسي ، وحينما تضطرها طبيعة هذه الممارسة الى التنازل عن مسلماتها ، تستمر في الانكار الخطابي بينما تخضع عمليا لاكراهات الواقع ،مما يجعلها باستمرار تتكيف بشكل متأخر ، وبدل ان تستبق الواقع و تحاول النفاذ اليه لتغييره ، يغيرها الواقع بعد فوات الاوان لتصبح مجرد رقم في المعادلة ، صوته اعلى من حجمه ،وهذا ما يفسر هذا الاصرار المستمر على تشويه صورة المنافسين والركوب على نقائصهم للظهور بمظهر القوة البديلة ، في حين ان البديل يعتمد اساسا على اضافته النوعية الذاتية . أخيرا هل كانت السيدة منيب محتاجة إلى تبرير امتلاكها السيارة بدعوى كونها تعرضت لمحاولة اغتيال، وإلى مدى ستمتد هذه التبريرات حينما ينخرط حزبها في الشأن العام ويفقد طهره الإيديولوجي ويحاول باسماتة الجمع بين بطولة المثال وتواضع الواقع.