ذاق مرارة الظلم مُذ كان طفلا؛ ما أورثه سخطًا وتبرمًا بجميع أشكال الخنوع، دفعه إلى المشاركة في صياغة مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ورغم نشأته وسط العادات والتقاليد اليهوديَّة القديمة القائمة على حق إقامة وطن قومي لليهود، خاصة بعد نجاته من "المحرقة النازية"، دافع كثيرًا عن القضية الفلسطينيَّة، كما أصبح لسان حال المستضعفين في فرنسا. إنه الدبلوماسي الفرنسي "ستيفان هيسيل"، المولود في 20 أكتوبر 1917، ببرلين لأب يهودي من أصل بولندي، وهو سليل عائلة من الأدباء والمثقفين والفنانين، كما كرّس والده، فرانز هيسيل فترة شبابه في ترجمة الرسائل واللغات اليونانيَّة القديمة. حصل على البكالوريا وهو دون الخامسة عشرة، ثم شهادة المدرسة العليا للأساتذة، وانتقل إلى فرنسا مع أسرته التي هاجرت سنة 1925 ليتابع دراسته بضاحية باريس. نضال وفي أثناء الحرب العالميَّة الثانية، انضمَّ للجيش الفرنسي، لكنه فرَّ منه عقب الاحتلال سنة 1940 ليلتحق بالجنرال دوجول والمقاومة بلندن عام 1941، حيث تدرَّب على القتال الجوي، إلى أن اعتقلته السلطات النازية خلال قيامه بأحد المهام الاستخباراتيَّة، وتم إرساله إلى المحرقة، لكنه تمكن من الفرار ليصل هذه المرة إلى هانوفر ومنها إلى باريس. لا يخشى ستيفان أن يفاجئ الجميع بموقف مختلف، أو أن يعبر عن استهجانه صراحةً لما لا يراه، وقد ترك بصمة واضحة في مجال إرساء القوانين المتعلقة بالحقوق الإنسانيَّة، حيث ناضل كثيرًا من أجل المهاجرين المحرومين من تصريحات الإقامة بفرنسا، ومهمَّشي النظام الليبرالي، وضحايا العنف المؤسَّساتي وعنف الدولة، بل إنه آخر المتبقين على قيد الحياة من الشخصيات الستة الذين تدخلوا بشكلٍ حاسم لتحرير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في ديسمبر 1948، بالإضافة لكونه شاعرًا وكاتبًا. فلسطين يقول ستيفان في إحدى مؤلفاته: "كنت أقف دائمًا إلى جانب المنشقِّين"؛ والمنشقون الذين ساندهم هيسيل كثيرون، لكن تظل فلسطين أم القضايا التي دافع عنها بشجاعته المعتادة، دون تردُّد أو خوف، وهو ما أكَّده صراحةً خلال حوار مع مجلة "بوليتيس" الأسبوعيَّة حين قال: "إن غزةوفلسطين تهمّانني". فالرجل، وهو نصف يهودي كما يقول ضاحكاً: إنه "النصف السيئ" أحد أبرز مؤيدي النضال الفلسطيني، وممن أدانوا العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، كما أيَّد تشكيل محكمة "راسل" حول فلسطين، ودعا إلى قيام دولة فلسطينيَّة ذات سيادة في ظلِّ إدارة أوباما، وقام كذلك بعدة زيارات إلى قطاع غزة والتقى إسماعيل هنية. ويشير هيسيل إلى أن أهم شيء لفت انتباهه خلال زيارته للأراضي المحتلة هو: قدرة الفلسطينيين على التأقلم مع كل الأوضاع الصعبة، بروح من الدعابة والخفة، وامتلاكهم قدرة مذهلة على تحدي الأوضاع الكارثيَّة، والظلم الإسرائيلي الذي لا يزال مستمرًّا منذ أكثر من 60 عامًا بدعم من الولاياتالمتحدة الأمريكيَّة. ويرى هيسيل أن "الباعث إلى المقاومة هو التعبير عن الاحتجاج"، مستشهدًا بمقولة الفيلسوف جان بول سارتر: "إن رجلا لا يعبأ بالأشياء ليس رجلا حقيقيًّا"، ويعقب: "حين يبدأ الإنسان بالاحتجاج يصبح أكثر جمالا، أي مناضلا شجاعًا، ومواطنًا مسئولا؛ فالإرهاب شيء مقيت، لكن يجب الاعتراف بأن حماس، وهي أمام الترسانة الجهنمية الإسرائيليَّة، لا يمكنها أن تركن إلى السلم، وعلى الرغم من أن القذائف التي تطلقها لا تخدم قضيتها، لكن اليأس هو الذي يفسر هذه الممارسة؛ وعليه يمكن القول بأن الإرهاب هو شكل من أشكال اليأس". مكرٌ وبسبب مواقفه هذه، لم تتورعْ إسرائيل والمنظمات الصهيونيَّة في شنّ حملة إعلاميَّة بذيئة ضده، والتضييق عليه إعلاميًّا، واتهامه بالخَرَف؛ لكبر سنِّه، والمطالبة بسحق لسانه، باعتباره "أفعى سامَّة"، كما فعل الكاتب الفرنسي أندريه تاجييف، مدير أبحاث في المركز القومي للبحث العلمي بفرنسا وأحد المتعصبين لإسرائيل. وقد جرَّ ضميره الحي، الذي تبنى الدفاع القضية الفلسطينيَّة، الكثير من المشكلات، وأدخله في قلب معركة شرسة ضدّ إسرائيل، بعد أن كان أحد المصفقين لقيام دولتها، ووضعه في المواجهة مع الإعلام الغربي الذي لم يتورعْ عن أن يفرض حوله سياجًا سميكًا لبناتُه مكونة من تهم "معاداة السامية"، ليجد نفسه في النهاية متهمًا بحاجة إلى الدفاع عن نفسه! مؤلفات للدبلوماسي الفرنسي العديد من المؤلفات والمقالات السياسيَّة، التي تحثّ في معظمها على الغضب والثورة ضد المجتمع، ككتاب وداعًا للشجاعة (Courage et au revoir !)، ومواطن بلا حدود (Citoyen sans frontières ) وعبروا عن استنكاركم ( (Indignez - vous الذي حقق نجاحًا غير مسبوق رغم تجاهل كبريات وسائل الإعلام الفرنسية له في البداية، نظرًا لموقفه المساند لحق الشعب الفلسطيني. وهذا الكتاب لا يقتصر دفاعه على فلسطين، التي تعتبر أحد المواضيع الأساسيَّة له، بل يستنكر كل ما تقوم به الحكومة الفرنسيَّة من ردَّة عن مكتسبات ما بعد الحرب الكبرى، من تقاعد وضمان اجتماعي وحرية إعلاميَّة أصبحت اليوم تحت رحمة كبريات الشركات الفرنسيَّة، محرضًا كل فرنسي على الغضب ضد ما لا يعجبه في مجتمعه، ومن أهم الأشياء التي يدعو إليها المؤلف الشعبَ الفرنسي للغضب ضدها "الفجوة الحادة بين الأغنياء والفقراء، وغياب الصحافة الحرَّة، وطريقة للتعامل مع المهاجرين غير الشرعيين".