رفض تأجيل مناقشة "قانون الإضراب"    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    طنجة المتوسط يعزز ريادته في البحر الأبيض ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    ضبط شحنة كوكايين بمعبر الكركارات    جهود استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد بإقليم العرائش    وزارة الداخلية تكشف عن إحباط أزيد من 78 ألف محاولة للهجرة غير السرية خلال سنة 2024    "جبهة" تنقل شكر المقاومة الفلسطينية للمغاربة وتدعو لمواصلة الإسناد ومناهضة التطبيع    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    رغم محاولات الإنقاذ المستمرة.. مصير 3 بحّارة مفقودين قرب الداخلة يظل مجهولًا    دولة بنما تقدم شكوى للأمم المتحدة بشأن تهديدات ترامب لها    رسميا.. مسرح محمد الخامس يحتضن قرعة الكان 2025    توقيع اتفاقية مغربية-يابانية لتطوير قرية الصيادين بالصويرية القديمة    القضاء يبرء طلبة كلية الطب من التهم المنسوبة اليهم    ترامب يعاقب أكبر داعم "للبوليساريو"    هلال يدين تواطؤ الانفصال والإرهاب    منتخب "U17" يواجه غينيا بيساو وديا    القضاء الفرنسي يصدر مذكرة توقيف بحق بشار الأسد    الشيخات داخل قبة البرلمان    المحكمة الدستورية تجرد بودريقة من مقعده البرلماني    اعتقال المؤثرين .. الأزمة بين فرنسا والجزائر تتأجج من جديد    غموض يكتنف عيد الأضحى وسط تحركات لاستيراد المواشي    بنعلي: المغرب يرفع نسبة الطاقات المتجددة إلى 45.3% من إجمالي إنتاج الكهرباء    وهبي يعرض مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد    طلبة المعهد الوطني للإحصاء يفضحون ضعف إجراءات السلامة بالإقامة الداخلية    الغموض يلف العثور على جثة رضيعة بتاهلة    عزيز غالي ينجو من محكمة الرباط بدعوى عدم الاختصاص    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء في مهرجان الطفل    120 وفاة و25 ألف إصابة.. مسؤول: الحصبة في المغرب أصبحت وباء    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    حضور جماهيري مميز وتكريم عدد من الرياضيين ببطولة الناظور للملاكمة    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    محكمة الحسيمة تدين متهماً بالتشهير بالسجن والغرامة    الدوري السعودي لكرة القدم يقفز إلى المرتبة 21 عالميا والمغربي ثانيا في إفريقيا    "أزياء عنصرية" تحرج شركة رحلات بحرية في أستراليا    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    عادل هالا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ديمقراطية الاستبداد
نشر في هسبريس يوم 30 - 09 - 2016


(1)
إن الانخراط في مسلسل ديمقراطي مزيف يطيل عمر الاستبداد ويغريه، ويوفر للمستبد فرصة الاستمرار في الحكم دون أن يخضع لسلطة القانون وإرادة الشعب، ودون أن يقدم أدنى تنازل حقيقي حتى عبر آليات ديمقراطيته المجازية، تنازل يطال بنية السلطة السياسية والاستحواذ على المال العام، سلطة ومال يحتكرهما النظام من أجل التفوق على باقي القوى السياسية والاجتماعية المنافسة له، دون أي إمكانية لمساءلته ومراقبته ومحاسبته. إن مشاركة النخب السياسية والحزبية في هذه اللعبة المزيفة وغير المتكافئة هو استدامة للاستبداد ومخالفة شرعية وقانونية صريحة وسافرة للحكم الراشد ولإرادة الشعب، وبالتالي هي إفساد للديمقراطية نفسها وتواطؤ وتعايش مفضوح مع الاستبداد.
ما هي الفائدة من العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات، كمظهر من مظاهر الديمقراطية وآلية من آليات تداول السلطة بين القوى السياسية، في ظل نظام سياسي لا يحترم قوانين لعبة سياسية ودستورية هو من وضعها، فضلا عن الامتثال لإرادة الشعب وقواه السياسية المعبر عن اختيارها عبر صناديق الاقتراع؟ كيف يكون المرء ديمقراطيا مع نظام قائم على حكم يدور وجودا وعدما حول فرد لا تخضع قراراته الداخلية والخارجية لأي رقابة تشريعية أو متابعة قضائية أو استفتاء شعبي حر ونزيه؟ فرد استحكم قبضته على كل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية والشأن الأمني والديني والعسكري والدبلوماسي، فضلا عن استحواذه على مقدرات البلاد الاقتصادية والمالية، ليصبح أغنى رجل أعمال وسط شعب فقير في سياق ثورات خيمت على المشهد العربي ولازالت منذ 2011؟ كيف يمكن الحديث عن الديمقراطية في غياب تداول منتظم وطبيعي للسلطة يقوم على أساس البرامج السياسية والالتزام بها، وليس على أساس الخضوع لمزاج حاكم لا يعبأ بمستقبل الدولة والمجتمع وليس له أي برنامج سياسي مباشر ومسؤول، إلا أحزابا يصنعها في الصباح، ثم إذا جاع في المساء أكلها؟
(2)
لقد ضاعت الحركات الإسلامية المغربية، باستثناء جماعة العدل والإحسان لكونها خارج لعبة النظام السياسية ولها موقف شرعي وسياسي يضعها في تناقض وتباين تام مع نظام الحكم، كما ضاعت قيادات من الحركة الوطنية، بقطبيها اليساري والليبرالي المحافظ، منتصف خمسينيات القرن الماضي حتى العشرية الأولى من الألفية الثالثة، ضاعت في متاهات النظام اللامتناهية والعبثية، وابتعدت عن جوهر دعوتها الأصلية ومشروعها المجتمعي، إقامة نظام إسلامي في جميع مناحي الحياة تتحمل فيه قياداتها مسؤولية الشأن العام وتحقق طموحات المغاربة في حياة كريمة ومواطنة حقة وتوزيع عادل للثروات الوطنية، في ظل مجتمع مسلم يتقيد بتعاليم الإسلام الحنيف مرجعا وحكما ومنهج حياة. لم تحقق الحركة الوطنية هي أيضا شيئا من شعارات الاستقلال، ملكية دستورية في ظل نظام ديمقراطي ومؤسسات منتخبة حرة ونزيهة ودستور يعبر عن إرادة الشعب تصيغه هيئة تأسيسية منتخبة مستقلة.
لم يتحقق أي شيء من ذلك، دار الزمان دورات وكانت الحصيلة المؤسفة، فساد السواد الأعظم من النخب والأحزاب وسقوطها في براثين النظام وآثامه واستقواء الملكية وتوحشها وإفسادها وطمعها اللامحدود في السلطة والمال العام، حتى في سياق ثورات وحروب أهلية وانتفاضات أشعلتها الشعوب العربية في وجه أنظمة عربية طاغية مطلع العام 2011. لقد حاول قادة من المؤسسة العسكرية أن يتبنوا بعضا من شعارات الحركة الوطنية، لكن النظام استطاع أن ينجو بسبب علاقات جلهم بدوائر خارجية متناقضة المصالح وببعض أجنحة اليسار الثوري، إضافة إلى خيانات داخل صفوفهم أجهضت جميع المحاولات. حكم العسكر ليس حلا ولا بديلا عن حكم وراثي مطلق مهما كانت القناعات الفكرية والإيديولوجية لقياداته.
(3)
إن من عناصر قوة الملكية، كنظام سياسي، هو التأني في التعامل مع خصومها وأزماتها وعدم استعجال حصاد النتائج، لأنها تعتقد بأنها تحمل رسالة إلهية في الأرض وبأن قدرها بين يدي الله وليس بين يدي البشر. لا تؤمن الملكية بالتغيير عبر البشر ولا عن طريق صناديق الاقتراع. هكذا كان يعتقد الحسن الثاني، كان لا يؤمن بأي شرعية زمنية، عدا الشرعية الدينية والتاريخية والعرفية التي يتمتع بها نظامه، شرعية الاستخلاف السلطاني والحق الإلهي. كان يؤمن بأن الله هو من نصبه ملكا، ولا يمكن أن يزول ملكه إلا بإرادة الله وليس بإرادة حزب أو شعب أو مؤسسة عسكرية أو قبيلة أخرى.
لا يعني ذلك بأن الحسن الثاني كان قدريا، ولكنه كان يسخر هذه القدرية السلبية للبقاء في السلطة، ولإضفاء الشرعية المثلى، ما فوق دستورية، على جرائمه السياسية التي ارتكبها في حق الدولة والوطن والمعارضة. لقد اقتنع الجميع، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بما فيه يمين ويسار الحركة الإسلامية، إذا صح هذا التصنيف، بأن الحسن الثاني كان منصورا بالله وبأن الإرادة الإلهية تحفظه من كل مكروه وسوء. إنه أمير المؤمنين وسليل الدوحة النبوية الناجي من الموت المحقق مرتان على الأقل، في الصخيرات وعلى متن الطائرة الملكية عامي 1971 و1972 على التوالي. هذا الاعتقاد مخالف لسنن الله الكونية والاجتماعية، وقد تعاقب على حكم المغرب سلالات وامبراطوريات على مدى قرون قبل وبعد الفتح الإسلامي.
إن ما يحتاجه المستبد في صراعه مع قوى الإصلاح والتغيير هو الوقت، وقد وجدت الملكية ضالتها في لعبة الانتخابات والاستفتاءات الصورية والأزمات المفتعلة. فقد حكم الحسن الثاني المغرب 38 سنة بالتقسيط، يوما بيوم، من محطة انتخابية إلى محطة انتخابية أخرى، مع تمديد الفترات القانونية بين انتخابات وانتخابات، بلدية أو تشريعية، ليمدد في عمر الحكم ومعه يطول عذاب المغاربة. كانت أول انتخابات بلدية عام 1963، سنتان بعد اعتلائه العرش وسنة بعد الدستور الممنوح لعام 1962، الذي لم يمض عليه إلا سنتين، حتى أعلن عام 1965 حالة الاستثناء ليحكم المغرب لوحده على رأس جميع السلطات، ويعطل عمل المؤسسات الدستورية لخمس سنوات من حياة المغاربة البئيسة، عزز خلالها حكمه وأحكم قبضته على دواليب السلطة، خاصة الداخلية والأجهزة الأمنية والمخابرات والدبلوماسية، وتجسدت هذه الهيمنة في دستور 1970، ثم نظم في نفس السنة انتخابات تشريعية لصناعة خريطة حزبية تميزت بسياسة التفرقة وتمزيق خصومه السياسيين، ليليها تعديل الدستور عام 1972، غداة الانقلابين العسكرين، 1971-1972، حدث ساعد النظام على تصفية خصومه المدنيين والعسكريين على حد سواء.
ثم جاءت انتخابات 1977 ليفسد القصر العمل السياسي عبر حليفه وصهره أحمد عصمان، الوزير الأول ورئيس مجلس النواب فيما بعد، انتخابات حولت المرشحين "اللامنتمين"، ال "بدون"، إلى التجمع الوطني للأحرار ليقود الحكومة وأغلبية مجلس النواب، إلى حين انتخابات 1984 التشريعية، تخللتها أزمات كان على رأسها أحداث الدار البيضاء ومراكش والناظور وتطوان وطنجة الدامية والقمعية عامي 1981 و1983، وقام القصر بتمديدها حسب مصالحه وتكتيكاته السياسية حتى عام 1992، ليجري انتخابات 1993.
بين انتخابات وانتخابات هناك أزمة يفتعلها القصر ليبتز الأحزاب ويروضها، بل ويؤلب الشعب ضدها، كما كان يخلط بين الشؤون الداخلية والخارجية ويوظف علاقاته بالكيان الصهيوني، كعميل وعراب في إطار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خاصة والعربي الإسرائيلي عامة، لإسكات العواصم الغربية الحليفة، واشنطن وباريس تحديدا، فيما يتعلق بقمعه للمعارضة واتخاذه شعبا بأكمله رهينة عنده. الدساتير كما هي الانتخابات بالنسبة للقصر ما هي إلا أدوات لإدارة الصراع وإنهائه، ولو مؤقتا، لصالحه، أو سياقات تعكس طبيعة العلاقة بين الحكم والقوى السياسية لفترة من الزمن يكون فيها دائما هو الأقوى والمنتصر وتكون الأحزاب والنقابات وقوى المجتمع المدني أكثر ضعفا واختراقا من قبل أجهزة النظام.
كلما تعرض النظام لضغوط خارجية أو مأزق داخلي، لجأ إلى انتخابات أو تعديل دستوري جديد أو حتى إلى افتعال أزمة محلية أو إقليمية لكسب الوقت واستيعاب الظرفية المفاجئة وفهم ما يجري، ثم سرعان ما ينقلب على وعوده وينكث في تعهداته والتزاماته الدولية، لذلك على قوى التغيير ألا تتركه، حين يقع في أي أزمة، بسبب سياساته الهوجاء واللامسؤولة أو بفعل خارج عن إرادته، يتراجع أو يصحح أخطاءه أو تساعده على الخروج منها بدون أن يدفع ثمنا سياسيا باهظا، يساهم في تحقيق التغيير على المدى الاستراتيجي.
هذا ما وقع مع انتخابات 1993، بعد ضغوط الكتلة ومذكرتها عام 1992 وقضايا حقوق الإنسان والمعتقلين السياسيين وملف الصحراء والاحتجاجات النقابية وعواقب حرب الخليج التي فضحت طبيعة الاقتصاد المغربي القائم على التسول والريع والفساد، وهي أجواء سياسية اتسمت بالشد والجذب بين القصر وأحزاب الكتلة، سرعان ما سيروضها النظام كسابق عهدها، جاء في سياقها مذكرة ثانية وتعديل دستوري فارغ عام 1996، ثم بدأ الحديث عن أكبر بدعة سياسية في تاريخ العلاقة بين الاستبداد وأحزاب تزعم بأنها ديمقراطية، "حكومة التوافق" و"الانتقال الديمقراطي" أعوام 19972002. توافق بين من ومن؟ وتوافق على ماذا؟ ولفائدة من؟ وانتقال ديمقراطي بأي آلية وأية شروط وبأي أفق وجدول زمني وأهداف سياسية؟
مات الحسن الثاني في يوليو 1999، وورث ابنه الجمل بما حمل، إرث سياسي موغل في الفساد واقتصاد منخور ومجتمع مستضعف وفقير ومؤسسات بدون دستور يمثل إرادة الشعب وقواه الوطنية وبدون قيمة حقيقية. إن المقصود بالتوافق والانتقال هو انتقال السلطة من الأب إلى الابن والتوافق بين مختلف مؤسسات الدولة على المساعدة ليكون الانتقال سلسا وتوافقيا. ماذا ستأخذ الأحزاب مقابل ذلك؟ قيل المزيد من التحديث والإصلاح السياسي والدستوري. إنه نفس الوعد الذي وعد به السلطان محمد الخامس الحركة الوطنية غداة الاستقلال التفاوضي وعودة الأسرة العلوية إلى حكم المغرب بعد النفي التفاوضي، انتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور حديث للمغرب وإقامة نظام ملكي دستوري وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية. لم يتحقق في جوهر الأمر أي شيء من ذلك. مات الملك محمد الخامس وتولى ابنه الحسن الثاني الحكم، فكانت واحدة من الفترات الأكثر دموية وحكم الفرد في تاريخ الأنظمة الاستبدادية القديمة والحديثة على حد سواء.
عام 2007، لم تأت المقاطعة هذه المرة من الأحزاب، ولكن من الشعب الذي سئم فساد الانتخابات والأحزاب والنظام. إن اللبنة الأولى للتعبير عن السخط، لبنة أسست لما سيسمى فيما بعد بالأغلبية الصامتة، جيل الستينات والسبعينات والثمانيات، سنوات الرصاص والاحتقان والإحباط، وجيل الثورة المعلوماتية والوسائط الاجتماعية. إنها أجيال تتحرك وتحتج خارج الأطر التقليدية الحزبية والنقابية والحقوقية التي اكتسحها النظام وأدمجها في سياساته وأجهزته وأخضعها لإرادته وسيطرته. سيبلغ العزوف ذروته مع هذه الانتخابات، بالرغم من توجيه الملك خطابا مفتوحا ومستجديا الشباب بأن يتوجهوا نحو صناديق الاقتراع. لم تكن دعوة الملك هذه إيمانا منه بالعمل الحزبي والديمقراطي، وإنما لأن النظام لا يمكن أن يضمن مسار ومصير هؤلاء الشباب خارج الصندوق المصطنع وخارج الأحزاب الخاضعة له وخارج اللعبة السياسية والانتخابية المتحكم فيها عن بعد.
(4)
إنه الخوف بأن تتحول أصوات هؤلاء الشباب من صناديق الاقتراع إلى تكبيرات في ساحات الجهاد على طول الجغرافية الإسلامية، خاصة في العراق والشام وليبيا ومالي والقرن الإفريقي، مسرح الصراع الدولي اليوم، ثم تعود فيما بعد لتحسم الصراع مع النظام خارج صناديق الاقتراع الفارغة وآليات الديمقراطية الكاذبة. هذه هي نتيجة سياسات النظام الخاطئة والفرص الضائعة.
لقد كان حدس النظام في محله وكان توجسه في أن تفلت هذه الأجيال المستعصية عن التدجين من قبضته وتكتيكاته. لقد توزعت هذه الشرائح على ثلاثة توجهات، الأولى ركبت قوارب الموت بحثا عن الخلاص الفردي ولقمة العيش في أوروبا، والثانية هاجرت نحو أراضي الجهاد لمواجهة عدو آخر في ساحات عربية وإسلامية واسعة، والثالثة، وتتقاطع مع الثانية إلى حد بعيد، قررت مواجهة "الشر" وحسم الصراع معه فوق أرض المعركة السياسية، ولكن هذه المرة بشروطها وخارج أجندة النظام وألاعيبه التكتيكية وأطره الحزبية الموالية، "حكومة ومعارضة جلالة الملك". إنها حركة الاحتجاج والغضب التي انفجرت يوم 20 فبراير 2011 في سياق الثورات التي عمت تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ودول خليجية، ثورات أسقطت أنظمة عاتية وطاغية، كانت بالأمس القريب ترتب للتداول على السلطة بين الآباء والأبناء.
إنها لعبة الانتخابات المزورة الممتدة عبر الزمان ولعبة الدساتير الممنوحة التي تأتي في توقيت يختاره النظام بعناية فائقة وتكتيك مرسوم ومحبوك. لم يكن الحسن الثاني رجل استراتيجية، كما يعتقد الكثيرون وروجوا لذلك عبر دعايات إعلامية تضليلية، ولا خلفه محمد السادس، بل كان ماكرا ومخادعا ومكيافيليا، كان تكتيكيا بارعا، وعارفا بنفسية وشخصية النخب المغربية ومكامن ضعفها ونزواتها وطموحاتها وطمعها. كان محترفا في فن الترويض، وكان تلميذا مميزا في مدرسة المارشال ليوطي الاستعمارية. إنها تربية الراهبات في ظل الإقامة العامة الفرنسية.
يستعمل المستبد كذلك لعبة اختلاق وافتعال الأزمات واستدامتها لإسقاط جميع الرؤوس المناوئة لحكمه وسياساته ومصالحه. ولأنه هو من يصنع الأزمات، فإنه يضع لها المسار والحلول والجدول الزمني الذي يخدم سياساته وصراعه مع معارضيه. أما الأزمات التي تكون خارج سيطرته أو تفقده السيطرة أو تكون خارج إرادته، رغم أنه هو من تسبب فيها بسياساته الاستبدادية والمفسدة، مثل الاحتجاجات التي اندلعت عام 2011 أو أزمة مغتصب الأطفال الإسباني عام 2013 أو أزمة اعتقال الصحفي علي أنوزلا عام 2014 والصحفي علي لمرابط عام 2015 وقبلهما أزمة صحيفة "لوجورنال" وأبو بكر الجامعي وغيرهم من الأقلام المتمردة أو قبل ذلك أزمة قضية أمينتو حيدر ومخيم أكديم أزيك بضواحي العيون عامي 2009 و2010 على التوالي...أزمات تفقد النظام امتياز المبادرة والإدارة وتربك كل حساباته، وتكاد في بعضها، حركة 20 فبراير نموذجا، أن تضع الملكية، لأول مرة منذ فترة طويلة، على المحك، لولا خذلان النخب والأحزاب الفاسدة للأمانة الشرعية والوطنية، خذلانا مده، مرة أخرى، بطوق النجاة وأعاد له زمام المبادرة من جديد. لا تقل مسؤولية من شاركوا في حراك 20 فبراير ودعموها بوهجهم وغضبهم وتصميمهم عمن خذلوها منذ البداية وحاربوها ونسفوها من الداخل، بسبب سوء التدبير والحسابات الضيقة وضيق الأفق وغياب مشروع مجتمعي متكامل وواضح المعالم والأركان والآفاق وفهم دقيق وصحيح للصراع وخريطته وإدارته لصالح مشروع التغيير.
لقد كانت قضية الصحراء الأزمة الأكثر استغلالا من قبل النظام في صراعاته اللامتناهية داخل الوطن وخارج الحدود. لم يكن الملك الحسن الثاني يرغب في إنهاء قضية الصحراء لأسباب جيوسياسية إقليمية وسياسية محلية. إنها لعبة الأزمات مثل لعبة الانتخابات ولعبة كسب الوقت ولعبة الاستيعاب والاستبعاد التي كان يمارسها مع كل من اقترب من دائرة نفوذه وعطاياه طمعا أو طمحا. لقد أسر وزير الخارجية الأسبق محمد بن عيسى قولا في غاية الخطورة بشأن ملف الصحراء، على هامش زيارة له للقاهرة، إذ حل ضيفا على برنامج حواري على قناة "ANN" عام 2002، حيث قال، وكنت ممن حضروا هذا اللقاء بصفتي مستشارا إعلاميا بسفارتنا بالقاهرة وقتها، "إن هناك أطرافا وجهات عليا، في المغرب وفي الجزائر، ليس لها مصلحة في أن ينتهي هذا النزاع".
كان مستقبل الملكية سيكون مختلفا، على الأقل في درجة ومستوى التحكم في بنية السلطة والمال العام، لو أن حزب العدالة والتنمية قرر الانضمام لحركة 20 فبراير، وطالب، ضمن قوى وحركات سياسية وإسلامية فاعلة في الساحة، خاصة جماعة العدل والإحسان، بإجراء إصلاحات سياسية ودستورية انطلاقا من حركة الشارع الغاضب والسقف النضالي اللامحدود، وليس من داخل مؤسسات النظام وتكتيكاته، وخلال فترة الأزمات الخانقة والحرجة، وليس خلال حالة الانفراج واستعادة المبادرة كما حصل عقب خطاب 9 مارس وما تلاه من مبادرات النظام التكتيكية تجلت في تعيين لجنة المنوني تحت إشراف ومتابعة مستشار الملك محمد المعتصم، والمشاركة الشكلية للأحزاب والهيئات المدنية والحقوقية في تقديم مقترحاتها حول التعديل الدستوري، باستثناء الفاعل الحقيقي الذي زلزل الحكم، وهو حركة 20 فبراير، لم يشر إليها النظام في خطابه ولم يشارك في لعبة الدستور الممنوح. لقد كسب النظام تكتيكيا هذه الجولة، ومن قبلها جولات أخرى، فهل سيكسب المعركة على المدى الاستراتيجي؟ مؤشرات أدائه السياسي وأسلوب تدبيره للشأن العام وتدخلاته المطلقة في عمل المؤسسات الدستورية والاقتصاد الوطني دون مساءلة ومحاسبة، إضافة إلى حالة الاحتقان العامة وطنيا والتطورات الأمنية والغضب الاجتماعي إقليميا ودوليا، كلها عوامل تقول إن النظام لن يكسب هذه المعركة.
(5)
الديمقراطية في ظل الاستبداد مثل الديمقراطية في ظل الاحتلال، سواء بسواء، لأن كلا من الاستبداد والاحتلال يقومان على إلغاء إرادة الشعب والسيطرة المطلقة على حياته وثرواته ووجوده وسيادته، فتصبح المشاركة السياسية، تحت هاتين الآفتين، اعترافا بهما وإضفاء للشرعية عليهما، وكما أن الدولة لا تكون كذلك إلا بتحرير أرضها وحمايتها من ربق الاحتلال، فإن الشعب لا يكون كذلك إلا بتحرير إرادته وصيانتها من عبث الاستبداد، وعليه تكون الانتخابات، كآلية من آليات الديمقراطية، والمشاركة فيها إطالة لعمر الاستبداد.
مرة أخرى يلجأ النظام إلى لعبة الدساتير، يوليو 2011، والدعوة للانتخابات التشريعية، 25 نوفمبر 2011، لربح الوقت واستعادة زمام المبادرة بعد أن سحبتها حركة 20 فبراير منه لبعض الوقت. كان وجه حياتنا السياسية سيكون مختلفا وكان وضع النظام سيكون أضعف مما هو عليه اليوم، وضع تحت مراقبة دستور يعكس إرادة الشعب المغربي ومؤسسات منتخبة وفق إرادته وعبر نخبته الوطنية المستقلة عن النظام.
لقد فضل حزب العدالة والتنمية أن يكون في خدمة ملكية معاكسة للتغيير والإصلاح وليس في خدمة الشعب المغربي، ولو على حساب مصالح الشعب المغربي. أراد أن يكون جزءا من الماضي وليس لبنة في بناء المستقبل. لقد تشبع هذا الحزب هو الآخر، كما فعلت جل الأحزاب من قبله، بثقافة تقوم على تحقيق المكاسب التكتيكية والشكلية التي لا تمس بنية النظام والسلطة في جوهرها، بل بالعكس تخدمها وتحميها من ضربات خصومها، مثلما وقع مع حركة 20 فبرير هذه المرة.
وها هو الملك، مرة أخرى، يعيد نفس التكتيك، دعوة الشعب "لأداء واجبه الوطني" والمشاركة في الانتخابات الجماعية والجهوية التي نظمت في الرابع من سبتمبر 2015. إن دعوة الملك المواطنين للمشاركة بقوة وحماس في الاستحقاقات الانتخابية لها معنى آخر، إلى جانب معاني أخرى متعددة، وهي عبارة عن استفتاء ضمني على علاقة المواطنين بالملكية وبشخص الملك تحديدا، عبارة عن "ميزان حرارة" لقياس حاجة الناس للملكية ودوران حياتهم حولها وحول الجالس على العرش، ومدى تجاوبهم مع دعوته المباشرة. سيكون رد فعل الناخبين مخيبا للآمال كما كان من قبل.
لا يدرك الملك، حينما يدعو المواطنين للتوجه إلى صناديق الاقتراع لأداء ما أسماه ب "واجبهم الوطني"، بأنه يكشف عن تنفذ المؤسسة الملكية، بل هو شخصيا بصفته رئيسا للدولة، في إدارة شؤون الدولة، وبالتالي فهو يتحمل مسؤولية السياسات والقرارات التي يتخذها، كما يمكن تحليل ضعف المشاركة، بعد دعوته للناس، بأن وعيا سياسيا جديدا وصوتا معارضا سيكبر وسيتحرك خارج صناديق الاقتراع، وبأنه إذا نجح في هذه الجولة في تطويق واختراق وإفراغ حركة 20 فبراير من رسالتها ونضالها ومطالبها والالتفاف عليها، فإن هذه الحركة ليست سوى موجة من موجات قادمة لن ينجو النظام منها دائما.
ليس أمام النظام اليوم، بعد الانتخابات المهنية والجماعية والجهوية وغدا التشريعية، 20152016، إلا حل من اثنين، إما الاستمرار في لعبة توظيف قيادات الحركة الإسلامية، حزب العدالة والتنمية تحديدا، كما فعل الحسن الثاني بقيادات الحركة الوطنية، حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وإبقائه على رأس الحكومة وتوريطه في المزيد من السياسات اللااجتماعية واللاشعبية، في ظل حكومة هجينة قد تجمع العدالة والتنمية ب "الأحزاب الرعايا" وعلى رأسها "البام"، أو المغامرة، وهذا هو السيناريو الأقرب لطبيعة النظام، والعودة بالمشهد السياسي إلى مرحلة ما قبل 20 فبراير 2011 والربيع العربي، حكومة "مجموعة 8" بقيادة "البام" أو "الأحرار" أو شخصية مقربة من القصر بلون حزبي تجمعي أو "بامي"، فيعود حزب العدالة والتنمية إلى لعب دور "معارضة صاحب الجلالة"، كما كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يوما ما. يراهن النظام في كلتا الحالتين على وقوع انشقاق في صفوف حزب العدالة والتنمية لإضعافه واستقطاب بعض كوادره المتلهفين على المناصب والامتيازات وخدمة المخزن، كما فعل بقيادات من الحركة الوطنية ومن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من قبل أو العمل على تغيير قيادة الحزب ثم يتوجه به نحو الوجهة التي يريدها له.
لا يدرك العديد من الساسة والفاعلين في الحقل السياسي والحقوقي والثقافي والإعلامي بأن الملكية لم تسلبهم فقط السلطة السياسية، أيا كانت طبيعة هذه السلطة ودرجة ممارستها، على مؤسسات الدولة، وإنما، وهذا هو الأهم في أكبر عملية خداع في التاريخ السياسي المغربي الحديث، سلبتهم السلطة الأخلاقية على المغاربة. لقد استثمر عهد الملك محمد السادس في كل شيء فشلت فيه الحكومات المتعاقبة التي أتى بها هو نفسه أو أفشلها فيه، فهو يدفعها، بل ويرغمها على اتخاذ قرارات لااجتماعية من جهة، ثم يحصد هو عوائد فشلها من جهة أخرى، مثلما يفعل بالقضاء، يستعمله لقصم ظهر خصومه السياسيين من جهة، ثم يصدر العفو الملكي في حق بعض خصومه المنتقين بعناية دقيقة ليظهر بوجه الملك "الكريم الرحيم"، وإن كان هذا الكرم والرحمة يشملان حتى مغتصبي الأطفال وعتاة الجريمة وتجار المخدرات والتافهين دعاة الفجور، باستثناء خصومه الإسلاميين، لأن المسألة مع الإسلاميين تتعلق بموضوع الشرعية الدينية.
لم يعد للملكية فرصة للاستمرار في الحكم بسبب عدم قدرتها على التجدد والتطور في سياق تحولات إقليمية ودولية تعصف بالنظم السياسية البالية والغارقة في الاستبداد والإفساد منذ أواخر العقد الثامن من القرن الماضي في أوروبا الشرقية حتى اليوم مع الثورات العربية، بل راحت تعيد إنتاج سياسات فشلت في الماضي وتسوقها في حلل مفضوحة وغير محفزة اليوم، من بينها الدفع بصديق الملك ومستشاره الخاص وزميل دراسته، فؤاد عالي الهمة، إلى تأسيس حزب "البام" لضخ دماء جديدة في جسد الملكية المتهالك وإشغال الحياة السياسية لفترة حكم محمد السادس بقضايا هامشية لا ترقى لمشاكل المغرب المستعصية، اجتماعية واقتصادية وأمنية وسياسية ودينية، كما فعل والده الحسن الثاني مع مستشاره الخاص، محمد رضا كديرة، حينما أسس حزب "الفديك" عام 1963 في عز وقوة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إلا أن هذه التجربة باءت بالفشل الذريع، وستفشل في كل مرة تعيد فيها نفس السياسات، لأنه لا يمكن لمؤسسة الملكية أن تستمر إلى الأبد في احتكار السلطة والمال العام دون محاسبة ومساءلة وتتخذ المغاربة كفئران تجارب.
لم يبق للملكية حيلة أو فرية إلا وجربتها واستنفذت كل "المكائد" السياسية والحلول الأمنية، من اعتقال تعسفي واغتيال ونفي ومقابر جماعية وسجون سرية. إنها تدرك اليوم بأن هذه الأساليب قد ولت ولم تعد سهلة في ظل الغضب الشعبي المتجدد والحالة التي عليها العالم اليوم وردود أفعال الهيئات الحقوقية والمؤسسات الإعلامية العالمية القوية والمؤثرة في صناع القرار في الغرب.
(6)
في ظل هذا الوضع السياسي البئيس والميؤوس منه، هناك طرف واحد لازال، منذ أربعة عقود، يثير الكثير من الحيرة والتأمل حول الدور الذي يعطي لنفسه في هذا الصراع، وهو الطرف الذي اجتمعت بين يديه العديد من أسباب القوة والمسالك لإحداث التغيير. إنها جماعة العدل والإحسان.
لا يمكن اعتبار مقاطعة الانتخابات عملا سياسيا أو تفكيرا استراتيجيا ما لم تطرح الجماعة مقترحا بديلا يحول إمكانياتها التنظيمية والجماهيرية وشرعيتها الدينية والتاريخية من مجرد ظاهرة تنظيمية وعددية محدودة الفعل والفاعلية في معادلة الصراع، من مجرد حركة احتجاج اجتماعية ظرفية إلى قوة ندية، بل متفوقة على النظام على أكثر من صعيد، خاصة في سياق التحولات الجذرية والثورات التي عمت العالم العربي وأدخلت دول الغرب في حالة من الاضطراب والأزمات البينية حول ما يجري في العالم العربي، سوريا واليمن وليبيا والعراق ومصر نموذجا، وانتقال المعركة بينه وبين التنظيمات الجهادية في العراق والشام ومصر وجزيرة العرب إلى عمقه الجغرافي الحيوي، مما قد يتيح فرصا غير مسبوقة لإنجاح مشروع التغيير في ميزان القوة بين الجماعة والملكية.
على قادة الجماعة أن يعترفوا بأنه كانت هناك فرصة سياسية تاريخية لإرغام الملكية على التراجع في مركزها في الحياة السياسية وعلى القبول مرغمة بدور ملكية دستورية لا تحكم، هذه الفرصة ولدت يوم 20 فبراير 2011، عقب ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. سيبقى هناك سؤال حول لماذا انسحبت الجماعة من حركة 20 فبراير في تلك الظرفية الحرجة من تاريخنا السياسي الحديث دون أن تسلك طريقا بديلا وتعلن مبادرة جديدة لاستكمال وتنفيذ مشروعها حول التغيير، وعليها أن تجيب على هذا السؤال لعامة المغاربة بمسؤولية سياسية وشرعية. شرعية هذا السؤال وأهميته يكمنان في صدور هكذا سلوك وموقف من الجماعة في ظروف وسياقات اجتماعية أخرى على مدى تاريخها. هل تعاني الجماعة من قصور في التخطيط الاستراتيجي، بحيث أنها تبرع في صناعة وإدارة الأزمات مع النظام، ولكن لا تقوى على الذهاب بعيدا في هذه "اللعبة" التكتيكية، إما خوفا من النجاح أو لضعف في ثقافتها الاستراتيجية أو لضعف إمكاناتها في الموارد البشرية عالية المؤهلات والقدرات القيادية لمرحلة ما بعد الانتصار؟ هل قوة الجماعة تكمن فقط في إطلاق المبادرات والظهور بزخمها القوي عند البدايات، ثم سرعان ما تفقد هذه المبادرات وهجها وعنفوانها بسبب تحالفات تجريها مع قوى تؤمن بسقف "الملكية البرلمانية" فقط، كما حصل في تجربة 20 فبراير مع قوى اليسار الموحد؟ هل لأن الجماعة هي مجرد حركة احتجاج ليس إلا وليست حركة تغيير بمشروع متكامل يغطي جميع مراحل العمل الثوري المؤدي إلى طرح الجماعة بديلا سياسيا وشرعيا عن الملكية؟
تتقاسم الجماعة، في جزء كبير، مع القوى السياسية والحزبية المتواجدة في الساحة واقعا وممارسة يخدمان الملكية إلى حد بعيد ويمكنانها من تسجيل أهداف سياسية تبقيها دائما متفوقة، على الأقل منذ الاستقلال التفاوضي، وهو أن كل تحركات الجماعة والأحزاب وردود فعلها تقع في دائرة فعل وتحكم النظام وأجندته السياسية ومبادراته. لقد كانت لحظة حركة 20 فبراير هي الفرصة الوحيدة التي أفقدت الملكية زمام المبادرة وأجبرتها على الانتقال، تحت الضغوط، من الفعل إلى ردة الفعل (خطاب 9 مارس وما تلاه من ردود فعل ملكية أخرى)، فتغير مركزها وضعف تأثيرها على مجريات الأحداث. يحصل هذا مع الملكية عند وقوعها في الأزمات فقط، من صنعها أو مفروضة عليها من محيطها الإقليمي والدولي، كما جرى في ملف العفو الملكي عن مغتصب الأطفال الإسباني (5 بيانات من القصر الملكي).
هناك بون شاسع بين مستوى الخطاب السياسي لدى قادة الجماعة وبين فعلها على أرض الواقع. إن من يصف الملكية بالمستبدة ويدعو إلى تغييرها ضمن أدبيات السياسة الشرعية والقومة الإسلامية لا يجوز أن يختزل الإشكال معها في معركة شواطئ. إن هناك خللا في التصور وفي منطق الأولويات. إن الصراع بين الملكية والجماعة على سبيل المثال، كحركة تغيير، هو صراع حول شرعية السلطة كمضمون ووجود وليس حول السلطة كإجراء وحدود. إن نظاما يمنع الجماعة، بقوة قهرية وغير قانونية، من العمل القانوني كقوة سياسية، دون شرط أو قيد، لا يمكن الاحتجاج عليه ولديه حينما يمنع أبناءها من التخييم في شواطئ المغرب. الإشكال بين الجماعة والملكية في الأصول وليس في الفروع، الإشكال يكمن فيما يمثل جوهر الوجود لهما، وهي الشرعية الدينية. نحن أمام جماعة من المسلمين ترى في الملكية نقيضا للمشروع الإسلامي في الحكم والسياسات العامة على الصعيدين الداخلي والخارجي ورعاية مصالح الناس، ملكية تزعم تمثيلها واحتكارها للشرعية الدينية وبأن أفراد الجماعة هم مجرد "رعايا" ينازعونها الأمر بغير حق.
لم يعد النظام في المغرب اليوم يحتاج إلى أسلوب الاغتيال المباشر، كما كان الأمر في عهد والده الحسن الثاني، لتصفية معارضيه أو مواجهتهم مباشرة عبر الأداة القضائية أو الإكراه على النفي خارج البلاد خوفا من الإعدام أو التصفية الجسدية، رغم حالات موت اكتنفها الغموض والريبة حتى الآن، وإنما أصبح يستعمل أسلوبا أكثر فتكا وتدميرا للإنسان المغربي، تدمير يلحق نفسيته وروحه وفكره وإنسانيته، بل تدمير ينهي حلمه الإيديولوجي والسياسي. إنها سياسة اللامبالاة.
لا يشك أحد في صدق الجماعة مع الله ثم مع الشعب المغربي، وفي نيتها وسعيها لنصرة الإسلام ورفع شأنه ببلادنا حكما وسلطانا وفي ربوع العالم دعوة وفتحا مبينا على منهج الخلافة الراشدة كما أنبئنا بذلك الصادق المصدوق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حديث الخلافة، ولا شك أيضا في بغضهم للطاغوت ليس لأسباب شخصية أو من منطلق موقف سياسي صرف، وإنما بغاية التعبد والتقرب إلى الله وحبا فيه سبحانه، أقول لا يشك في ذلك إلا حقود جحود، مصداقا لقوله تعالى الله في سورة النور (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا)، وقوله سبحانه في سورة البقرة، الآية 165 (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله، ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب).
إن الناظر والدارس لتاريخ الجماعة ومسيرتها المباركة، عبر مختلف مراحل نموها وتطورها ومحنها، بقيادة مرشدها الإمام المجدد الراحل عبد السلام ياسين طيب الله ثراه وصحبه من الرجال المخلصين الصادقين الذي آمنوا بمنهاجه وفهمه للنصوص الشرعية وبقراءته للواقع السياسي المغربي واستشرافه لمستقبل الدعوة ببلادنا وبالمشروع الإسلامي في ظل حكم وراثي جبري مطلق، إن الناظر والدارس لكل هذا يخلص إلى أن الجماعة قد نجحت في البقاء والاستمرار عبر قرابة أربعة عقود من المحن والابتلاء والظلم، وفي تماسك تنظيمها تحت قيادة تدرك ما تريد وعقدت العزم على ألا تقع، كما هو شأن باقي الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية، في شراك وفخاخ النظام التي نصبها لجميع القوى وخصومه السياسيين والعسكريين والحركيين.
لقد أظهرت الجماعة قدرة كبيرة على وعي رفيع وحس سياسي دقيق، في تشخيص الوضع وليس في طرح البدائل وقيادة حركة التغيير نحو أهدافها، على الأقل فيما يعلم الناس، حس قائم على موقف شرعي ثابت في التعاطي مع النظام، ورسمت لنفسها ولرجالها خطوط الطول والعرض في العلاقة مع الثالوث الخطير، النظام والخارج والعنف، وهي مصائد وقع فيها الجميع بلا استثناء، ابتداء من اليسار والجيش وانتهاء بالإسلاميين عموما. لكن هناك إشكالية لدى الجماعية في إدارة الوقت كعامل حيوي في أي صراع وفي تعاملها مع الدعوة في الزمن المطلق في غياب أي تخطيط استراتيجي وفق أهداف محددة ومتجانسة وقابلة للقياس والتحقيق في زمن محدد.
*أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.