أكد الملك محمد السادس أن الاقتصاد المغربي أبان عن قدرة واضحة على الصمود، بالرغم من الظرفية الدولية الصعبة؛ وذلك بفضل الأوراش الكبرى التي أطلقت منذ بداية هذا القرن، والمجهودات التي ما فتئت تبذل، دون كلل أو ملل، من أجل صيانة المكتسبات وتحقيق المزيد من المنجزات. وقال الملك، ضمن رسالة موجهة إلى المشاركين في أشغال الدورة الأربعين لاجتماع محافظي البنوك المركزية ومؤسسات النقد في الدول العربية، إن "السنوات الأخيرة شهدت عددا من الإصلاحات همت، على الخصوص، الإطار المؤسساتي.. إضافة إلى ميادين أخرى؛ كنظام التربية والتكوين، ومنظومة العدالة، والجهوية المتقدمة، ومناخ الأعمال". ولفتت الرسالة الملكية، التي تلاها عبد اللطيف الجواهري والي بنك المغرب، الانتباه إلى أن "المغرب بادر إلى إصلاح نظام دعم أسعار الاستهلاك؛ مما مكنه من تصحيح وضعية المالية العمومية، وتوفير حيز مالي للاستثمار الاقتصادي، وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية لفائدة الفئات الأكثر هشاشة، ومن أجل تعزيز هذا التصحيح وتحسين الرؤية الاستشرافية للمالية العمومية وشفافيتها". وعلى الصعيدين النقدي والمالي، ذكرت الرسالة الملكية أن "السلطات الوصية واصلت جهودها الرامية إلى تحديث النظام المالي الوطني وتعميقه، لجعل السياسة النقدية للمملكة تتماشى مع أفضل الممارسات المعمول بها دوليا، مع مواصلة نهج سياسة تيسيرية لدعم تمويل النسيج الاقتصادي، خاصة المقاولات الصغيرة جدا والمتوسطة". وقال الملك محمد السادس، مخاطبا المشاركين في الموعد المحتضن في الرباط، إن بنك المغرب، بتنسيق مع باقي السلطات الرقابية، شكّل إطارا قانونيا وآلية لحل الأزمات، "حيث يواصل بنك المغرب ملاءمة منظومة الرقابة المصرفية مع المعايير الدولية، ومواكبة التوسع الخارجي للبنوك المغربية المتواجدة حاليا في 30 بلدا أجنبيا. كما تمكن النظام المالي الوطني من تحقيق نتائج إيجابية في التقييم المشترك الذي أنجزه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أبريل 2015، والذي أكد، بشكل خاص، على تماسك النظام البنكي المغربي". واعتبر الملك، ضمن رسالته التي تمت تلاوتها أمام محافظي البنوك المركزية ومؤسسات النقد في الدول العربية صباح اليوم الخميس، أن "ما قمنا به من إصلاحات، وما ينعم به بلدنا من استقرار سياسي وأمني، قد مكّن المغرب من تعزيز مكانته لدى شركائه الدوليين ووكالات التصنيف والمستثمرين الأجانب"، متابعا: "ما اتفاق خط الوقاية والسيولة، الذي تم تجديده مؤخرا للمرة الثالثة مع صندوق النقد الدولي، واستمرار التدفقات الهامة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، المتأتية في جزء كبير منها من أشقائنا في مجلس التعاون الخليجي، إلا انعكاس لهذه الصورة الإيجابية التي يحظى بها المغرب". وتابع الملك محمد السادس: "ما حققناه من منجزات هامة يبعث على الاطمئنان فيما يتعلق بالخيارات التي اعتمدناها في سياستنا الخارجية، ويدعم توجهنا في مواصلة سياسة الانفتاح على منطقتنا وعلى العالم. فقد بلغ عدد البلدان التي تربطنا بها اتفاقيات للتبادل الحر 56 بلدا، وعلى رأسها العديد من البلدان العربية الشقيقة". "تم إطلاق مشروع طموح لجعل الدارالبيضاء قطبا ماليا إقليميا يربط إفريقيا بباقي بلدان العالم. وقد تحول هذا الطموح الآن إلى واقع ملموس، حيث يشير آخر تصنيف عالمي للمراكز المالية إلى أن القطب المالي للدار البيضاء يتبوأ المركز الثالث والثلاثين عالميا، والأول إفريقيا"، يقول الملك قبل أن يردف: "تأكيدا لخيار الانفتاح الذي اعتمدناه، قررنا مؤخرا الانتقال تدريجيا نحو نظام صرف أكثر مرونة، من أجل تعزيز تنافسية اقتصادنا وقدرته على مواجهة الصدمات الخارجية". وأفادت الرسالة أيضا: "ما يشهده العالم من تغيرات اقتصادية واجتماعية ومؤسساتية متسارعة وغير متوقعة يضع السلطات العمومية، بصفة عامة، والمؤسسات النقدية بصفة خاصة أمام تحديات كبيرة"، متابعة: "توافر الموارد البشرية المؤهلة والقادرة على الاستباق والاستجابة بفعالية شرطا ضروريا للتغلب على هذه التحديات، فالرأسمال البشري يشكل عاملا حاسما في ثروات بلداننا ومكونها الأساسي". وأبرزت الرسالة أن "الانشغالات والتحديات الاقتصادية الآنية لا ينبغي أن تحجب عنا الرهانات المتعلقة باستدامة تنميتنا ومستقبل الأجيال القادمة، والتي تشكل المحور الرئيس لالتزامات الدول في إطار أهداف التنمية المستدامة، والتي تجدد وتوسع نطاق الأهداف الإنمائية للألفية والمجهودات الدولية لمكافحة التغيرات المناخية؛ وهو التوجه الذي ما فتئنا نعمل على أن ينخرط المغرب في إطاره. وما استضافتنا لمؤتمر المناخ "كوب 22" في شهر نونبر القادم بمدينة مراكش إلا تجسيد لهذا الخيار واعتراف دولي بما نبذله من جهود في هذه الميادين". واعتبر الملك محمد السادس أن الظرفية العالمية والإقليمية شهدت تحولات كبيرة منذ اجتماع مجلس محافظي البنوك المركزية ومؤسسات النقد في الدول العربية، بمدينة مراكش سنة 2008، حيث إن الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، التي كانت آنذاك في بداياتها، استمرت لفترة أطول مما كان منتظرا وكانت أعمق مما كان متوقعا، ولم تقتصر فقط على القطاع المالي، بل امتدت أيضا إلى الاقتصاد بمعناه الواسع. "واليوم، وبعد مرور ما يناهز عقد من الزمن، ورغم الإصلاحات الكبيرة التي بادر المجتمع الدولي إلى إطلاقها لمواجهة هذه الأزمة، لا تزال تداعياتها ترخي بظلالها على الاقتصاد العالمي. ففي العديد من البلدان المتقدمة، ظل النمو بطيئا والبطالة متنامية، لا سيما في صفوف الشباب، كما أن الدين العمومي بلغ مستويات مرتفعة وباتت الأنظمة المصرفية في وضعية لا تخلو من هشاشة، بينما تعاني الاقتصادات الصاعدة عموما من بعض الصعوبات، إن لم يكن بعضها يمر بمرحلة ركود"، تقول الرسالة. وقال الملك إن السنوات الماضية شهدت تزايد الأعباء الملقاة على عاتق البنوك المركزية، حيث لم تقتصر في تدخلاتها على الأدوات التقليدية للسياسة النقدية؛ بل كان عليها استكشاف آليات جديدة. وإذا كانت قد نجحت، إلى حد ما، في التخفيف من حدة الأزمة وتداعياتها، إلا أن الاستغلال المفرط للأدوات غير التقليدية أفرز مخاطر جديدة بالنسبة إلى الأسواق وإلى الاستقرار المالي بشكل عام. وبالإضافة إلى الآثار المترتبة على الأزمة العالمية، شهدت "منطقتنا العربية في السنوات الأخيرة العديد من التحولات السياسية والاجتماعية. ففي بعض بلداننا، لا زالت الصراعات السياسية وتدهور الأوضاع الأمنية وتصاعد الإرهاب تقوض المؤسسات وتدمر الاقتصاد وتهدد سلامة المواطنين. كما أن انخفاض أسعار النفط، منذ يونيو 2014، شكل ضغطا كبيرا على اقتصادات العديد من البلدان المصدرة للنفط؛ مما أدى، على الخصوص، إلى تقليص الحيز المالي الموجه للاستثمار الاقتصادي والاجتماعي"، وفق ذات الرسالة. وتورد الرسالة: "غير أنه مما يثلج الصدر في المقابل، ما أبانت عنه بعض الاقتصادات العربية من قدرة على التكيف مع هذه التطورات، بفضل ما اتخذته من إصلاحات هيكلية جريئة، وما اعتمدته من سياسات لتنويع نسيجها الاقتصادي". وعبّر الملك عن ارتياحه لما حققته السلطات والمؤسسات النقدية العربية من تقدم ملحوظ على درب تعبئة الموارد اللازمة لتمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلداننا، داعيا إلى المزيد من اليقظة من أجل تدبير أفضل للتفاعلات القائمة بين وظيفتها التقليدية ومسؤولياتها الجديدة، ذات الصلة بالاستقرار المالي؛ فهي مطالبة من جهة بتحقيق قدر من المرونة في النظام المالي، من أجل ضمان التمويل الملائم للاقتصاد ودعم النمو، ومطالبة من جهة أخرى بتعزيز رقابتها لتلافي حدوث أي اختلال في النظام ومكافحة التدفقات المالية غير القانونية، خصوصا تلك الموجهة لتمويل الإرهاب. وتابعت الرسالة بالقول "إن هذه التطورات، بكل تداعياتها، تؤكد أن اجتماعكم اليوم ينعقد في سياق خاص. وكما هو الشأن في العديد من البلدان الأخرى عبر العالم، فإن الانتظارات المرجوة من السلطات النقدية العربية والآمال المعلقة عليها تبقى كبيرة جدا. وإننا لعلى يقين بأن توحيد جهودكم سيساهم في توظيف تنوع اقتصاداتنا وتكاملها، بغية تحقيق الهدف الذي ما نزال نصبو إليه، والمتمثل في بناء كتلة اقتصادية عربية قوية ومزدهرة". وخُتمت الرسالة الموجهة إلى محافظي البنوك المركزية ومؤسسات النقد العربي بالقول إن "ما تتوفرون عليه من تجربة وقدرات إبداعية، وما يربطكم من تعاون مثمر في إطار منتديات من قبيل مجلسكم هذا، أو داخل مختلف لجان صندوق النقد العربي، الذي نتتبع أعماله عن كثب، ونشيد بإنجازاته المتواصلة، سيمكنكم من الاستمرار في الإسهام، إلى جانب باقي السلطات العمومية، في تطوير بلداننا. ومما يزيد من ثقتنا وارتياحنا أن البنوك المركزية ومؤسسات النقد العربية تتمتع بما يلزم من استقلالية للاضطلاع بهذا الدور، والدفاع عن مصالح منطقتنا داخل الهيئات الدولية".