عرف ملف الاتفاقية الفلاحية بين المغرب والاتحاد الأوروبي تطورا مهما، إذ قام المحامي العام لمحكمة العدل الأوروبية، السيد ميلكيور واتليت، يوم 13 شتنبر 2016، بتقديم استنتاجاته للمحكمة في سياق استئناف مجلس الاتحاد لقرارها السابق يوم 10 دجنبر 2015، القاضي بإبطال هذه الاتفاقية بدعوى استغلال ثروات الأقاليم الصحراوية. لكن ما يثير الانتباه في تقرير واتليت أنه سلك من أجل طلب بطلان قرار الإلغاء منعرجات خطيرة، تحمل دلالات سياسية مغلفة برداء قانوني كاشف، بدل أن يقوم بعرض الحجج التي تفند تلك المزاعم، وفي مقدمتها الاستثمارات المغربية في المنطقة، التي تعادل أضعاف مواردها. ومن أجل فهم المقاربة الشائكة التي اعتمدها المحامي العام واتليت، وكشف الغموض الذي يكتنفها، علينا في البداية أن نميز بين أمرين يقعان في صلب هذا الملف؛ الأول يتعلق بسيادة المملكة المغربية على أقاليمها الجنوبية، التي تعتبرها قضية وجودية تسمو على كل المصالح الاقتصادية، بغض النظر عن أهميتها، والأمر الثاني هو حرص الاتحاد الأوروبي على تعزيز علاقاته الاقتصادية مع شريك مهم كالمغرب، لكن دون اتخاذ موقف سياسي يمكن أن يفهم على أنه تأييد لسيادة المغرب على الصحراء. بصيغة أخرى، لدينا موضوع تتشابك وتتقاطع فيه أبعاد قانونية وسياسية واقتصادية، تجمع ثلاثة أطراف: المغرب، الاتحاد الأوروبي وجبهة البوليساريو التي تحركها الجزائر من خلف الستار. ومن خلال الموافق الرسمية، نعرف أن المغرب مستعد أن يضحي بمصالح اقتصادية إذا ما أضرت بالقضية الوطنية الأولى، وأن البوليساريو تخوض معركة إيديولوجية صرفة بدعم من الجزائر، وما البعد الاقتصادي إلا أداة مسخرة لخدمة أجندتها الانفصالية، فهي لا يهمها إبطال الاتفاقية بقدر ما يهمها الدلالات المرافقة لقرار المحكمة، حتى لو ألغت حكم البطلان السابق. أما الاتحاد الأوروبي فيسعى إلى تحييد البعد السياسي في هذا الملف، ولو اقتضى الأمر التنازل عن بعض المكاسب الاقتصادية. لكن، ولأن الاتحاد الأوروبي براغماتي، ويملك مؤسسات تملك الخبرة القانونية في التعامل مع مواضيع في مثل هذا التعقيد، فقد رأى أن باستطاعته جعل البعدين الاقتصادي والسياسي على الدرجة نفسها من الأولوية، كي لا يضحي بأحدهما على حساب الآخر؛ أو كما يقال ضرب عصفورين بحجر واحد. من خلال هذه الزاوية التحليلية، يمكننا أن نفك شفرة تقرير المحامي العام في المحكمة الأوروبية، وننبه إلى خطورة بعض الاستنتاجات التي جاءت فيه، والتي قد يوظفها خصوم المغرب في قضايا أخرى: أولا، التقرير فصل بين الاتفاقية الفلاحية والرقعة الجغرافية لتنفيذها، ونزع الأقاليم الصحراوية من مجال تنفيذها، قصد الدعوة إلى عدم الحاجة إلى إلغائها، بدليل أن بنود الاتفاقية لا تتضمن إشارة صريحة في هذا الاتجاه، وأيضا بمبرر أن الاتحاد الأوروربي ودوله لا تعترف بسيادة المغرب على الصحراء. عدم تضمين الاتفاقية الفلاحية لبند يتعلق بالأقاليم الصحراوية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم تحميله إنكار السيادة. ويعلم الكل أن التعاقد مع المملكة المغربية في كل المجالات لا يتم بوضع خريطتين، لسبب بسيط هو عدم وجود دولة اسمها البوليساريو أو الصحراء الغربية. ثانيا، المحامي العام طالب ببطلان حكم الإلغاء السابق، وبالطبع هذا ما يبتغيه المغرب والاتحاد الأوروبي، لكن الغريب أن المستشار واتليت أقام حجته على أساس عدم الاعتراف بمغربية الصحراء؛ أما المغرب فيعتبر أن إبطال الحكم السابق يجب أن يرتكز على عدم استثناء الأقاليم الصحراوية من الحيز الجغرافي للسيادة المغربية، وأيضا على أساس عدم أحقية البوليساريو بتمثيل ساكنة الصحراء، لا سياسيا ولا اقتصاديا. أما عن مزاعم استغلال الثروات فهي بالتأكيد جرف واه لا يصمد أمام المعطيات والأرقام التي تعرفها المنظمات الدولية الحكومية. ثالثا، في ما يتعلق بإشكالية التمثيلية التي توجد في صلب هذه القضية، عمد التقرير إلى التمييز بين التمثيلية السياسية والاقتصادية أو التجارية؛ أما التمثيلية السياسة فاعتبر واتليت أنها تؤول إلى البوليساريو، وهذه مغالطة كبرى لا يمكن المرور عليها مرور الكرام؛ لأن في هذا الطرح احتقار للإرادة الشعبية التي عبرت عنها ساكنة الصحراء في كل المحطات الانتخابية، وهو في الوقت نفسه إقصاء لشرعية المنتخبين الصحراويين؛ ثم التمثيلية الاقتصادية التي اعترف المحامي العام عدم امتلاك البوليساريو لها، وهو بذلك ينزع عنه حق التقاضي في الملفات ذات الطابع الاقتصادي.. ولكن أليس في ذلك إنكار ضمني لمشروعية التمثيلية السياسية؟. خلاصة القول أن التعليل الذي قدمه المحامي العام لمحكمة العدل الأوروبية يعبر عن هاجس المصلحة الاقتصادية لدى مجلس الاتحاد الأوروبي للدفع نحو إلغاء قرار المحكمة السابق، بهدف تفادي أزمة في العلاقات مع المملكة المغربية. في سبيل ذلك، لم يتوان واتليت في بناء تعليلات أكروباتية Acrobatique تتضمن حيثيات مغلوطة، أخطرها إنكار السيادة، الذي لا يسيء إلى القضية الوطنية فحسب، لكنه يتعارض مع المواقف الرسمية للدول الأوروبية. وكأن المحامي العام اعتقد أن بإمكان المغرب أن يغض الطرف عن التعليل المسيء؛ لأنه سيرضى بالهدف منه؟ في اعتقادي أنه من منظور إستراتيجي، متن التعليل الذي جاء في التقرير يسيء إلى وحدة وسيادة المغرب، التي هي بالطبع أهم من الإبقاء على الاتفاقية في حد ذاتها. وبناء على ذلك، فالتقاء مصالح المغرب والاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال رؤية إستراتيجية متبصرة؛ لأن الغاية لا يمكن أبدا أن تبرر الوسيلة. وكما نعرف جميعا، السيادة هي أساس التعاقد الدولي وليس العكس. * أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بجامعة ابن زهر بأكادير