سَيْطَرَ الهاجس الجنسي على أحاديثنا اليومية، على طرائفنا، أمثالنا الشعبية، وعلى مجالسنا الخاصة... إلى درجة أصبح معها الحديث عن الجنس فاكهة كل المجالس والفصول. فالتصورات الاجتماعية وتمثلاتنا التي كوَّنّاها عن الجنس في مِخْيالِنا هي التي جعلت منه قوة جامحة متحكمة يصعب قهرها أو حتى تَقْنينها، لأنها مستقرة وصلبة كونها جماعية. وبالتالي تُعدّ كوحدةٍ اجتماعية مستقلة تُسيّر العلاقات بين الأفراد والجماعات، وهي فكرة قريبة من فكرة "الحس المشترك" le sens commun .، هذه التصورات جعلت من المرأة استِدعاءً جنسيا بِرسم استعمالِ الرجل وتذوُّقِهِ، ولا يمن استنكار أنّ المرأة نفسها تُساهم في هذا الرسم بطريقةٍ أو بِأُخرى، لكن عُقدةُ الخصاءِ التي تنتابُ المرأة في عدّة أحَايِين تعود لِاحتكار الرجل كل مقومات السلطة ليحولها إلى طاقة عدوانية واستملاكية، فيتمُّ على إثر ذلك خفض العلاقات بين الجنسين إلى نماذج سادية مازوخية حرّفت معنى الحب كقيمة إنسانية نبيلة وَ شوّهَتهُ... فكان من الطبيعي أن يُعارض الرجل انْعتاقك أيتها المرأة وتحرُّركِ، لأن انعتاقك هذا سيهدّد أسس نرجسيته الفالوسية( فالوس عضو الذكورة عند الإغريق) الذي سيجعله في سَديمٍ وفوضى لا متناهية. مهما بلغت المرأة من مكانة وكفاءة، إبداعٍ ونباهة، فإن ذلك لا يعبر في جوهره عن تحررها الحقيقي، وهو لا يعدو أن يكون أكثر من حليّة توضع على صدر المرأة ليزيد من قيمتها في سوق الزواج والعمل، ولا يعدو أن يجعلها أكثر من كائن مطواع هش ثرثار فاقد للحس النقدي، إنها المرأة الاستهلاكية أو المرأة الأفلطونية، التي تُسهم في مأسسة استعْبادها واسْتِبّعادها بشعارات الخُطب الحقوقية التي استبدلت الإهانة والاحتقار بأغلال الحب والاحترام، إنه عنف رمزي يمارس على المرأة بتواطئها ونكرانها له وغض طرفها عنه. مازالت سجينة منظومات مغلقة من القيم والعقليات، الذهنيات، العادات، التقاليد، الفتاوى والممارسات التي تضعها في أقفاص القهر والعبودية. لكن ما الداعي الذي يجعل من المرأة عنوانًا للتهميش والتّهشيم؟ أ يكون الداعي الجنسي مثلا ؟؟. لماذا نبدو جائعين، داعرين، ظمأى، مغفلين ومدمنين على الجنس إلى درجة أضحى فيها الفرد المغربي في ثقافات العالم رمزاً للجوع والهيف الجنسي. متى سنقيم رافعة جديدة لحياتنا، غير رافعة ودعامة الجنس الذي لن يَرْتَوِي، ومتى ستكون هناك قيمة قاهرة غير قهر الجنس...؟؟ عندما ينضج فِكرنا ونُغلّب قوة العقل في الفصل بين حاجاتنا التي يُسطرها البيولوجي والعضوي في غياب تام لدور العقل، وبين رغباتنا الناتجة عن دوافع نفسية ينبغي أن تكون شعورية، أي أن يكون العقل هو المتحكم في حضورها وانْجِلائها...وعندما نستطيع تجاوز المُتجاوَز الذي يرى من الجسد منتوجا قابلا للتسليع تحْكُمه ظروف معينة وأذواق معينة وطلبات معينة... عندما لا يتحالف الجنس مع فساد المال والسلطة، ليحكم علينا بأننا عالم ثالث متخلف إلى الأبد، عالم تحكمه قوة الشهوة الجنسية، لا قوة العقل المبتكر... حينها فقط سنرى السبيل للإجابة عن هذه الأسئلة. لكن الجسد وفي معظم حركاته وسكناته، يقظاتِه ونوماتِه تَتَخلّلُه دلالات اجتماعية، "فالحركة نحو الأعلى تقترن على سبيل المثال بالمذكر، مع الانتصاب أو بوضع الفوق/الأعلى في الفعل الجنسي" الذي يأخذ بناء اجتماعيا صرفا وفروقا يطبّع عليها الأفراد. هاهنا يكمن الخطأ بل الوهم الضخم ذاته، لأننا نصرّ على أنّ التقسيم الجنسي بين الذكور والإناث قائم في الأشياء ك "نظام طبيعي"؛ فنتعامل معها على أنها عادية وطبيعية، ناسين دور الطقوس والنسق الأسطوري في ترسيخها وإلباسها لبوساً طبيعياً يهبها كامل الشرعية، متناسين أنّها تقسيمات اعتباطية في الأصل. هناك قوة مدنية، وقوة التحريم الدينية، التي تثقل جسد المرأة بقيود الخطيئة ومشاعر الاثم. "فالحركية الحرة للجسم جنسيا أساس معنى العيب، وضبطها المقنن أساس معنى الشرف". جسم المرأة مقيد تاريخيا، إنه جسد مُؤَسَّس،إذ أن كل قوانين التحريم والمنع تهدف لاحتواء هذا الجسد ووضع مفاتيحه في يد الرجل... فالقوانين هي إذن وسيلة الرجل وسلاحه لامتلاك جسد المرأة والسيطرة على كيانها. إذ من المعروف أن أقصى درجات السيطرة تتم من خلال الجسد والتحكم فيه. عندما ينفلت الجسد ويعبر عن طاقاته ورغباته بحرية، ينفلت الإنسان من التسلط والقهر. ولذلك فالمرأة حين تتمرد، فإنها تفعل ذلك أساسا من خلال إعطاء نفسها حرية التصرف بجسدها جنسيا في المقام الأول. وهكذا يمتلك الرجل جسد المرأة بعد اختزال كيانها ضمن حدود جسمها في اغلب الأحيان، لا من خلال رضا وتوافق متبادلين، بل من خلال قوة القانون، العلاقة قانونية قبل أن تكون عاطفية. ولكن حقوقية العلاقة لا تترك للمرأة أي حق تقريبا،بينما تعطي الرجل كل الحق مما يدفع به إلى الأنانية حتى في المتعة، إذ لا يراعي حاجاتها ووثيرة الإثارة والمتعة عندها. فتتحول الممارسة الجنسية إلى فعل سيادة للرجل على جسد المرأة من خلال إثبات القوة القضيبية، في العلاقات الجنسية المختلفة المتسمة بالقهر، بدل أن يكون وسيلة للمتعة المتبادلة. لكن... لكن...لكن... وكي أقترب من الحيادية وأبتعد من الانسياقية و الانسيابية في موضوع المرأة والوفاء لها، وحتى لا يقول قائلٌ أني طبيعتي العاطفية وتركيبي النفسي وما يحمله من عُقدٍ جعلني أضع الرجل مَوضِعَ اتهامٍ وتحميله عبء ما بلغته المرأة من رِدّةٍ وانحطاطٍ... فكم من وظيفة شاغرة، حصلت عليها "المرأة" لا لشيء إلا لهذا الجسد المفتقد لكل المؤهلات الموضوعية،لا يفتقد لمؤهلات جنسية... فحرمت منها أخرى أو آخر هو بأمس الحاجة إليها رغم كفاءاته ومؤهلاته العملية. وكم من سكرتيرة كذلك، استطاعت أن تتحكم بعد فترة قليلة بمصير شركة بأكلمها، أو مؤسسة من المؤسسات الحكومية بكافة دوائرها وكَوَادِرِها، وكم من مذيعة في محطة تلفزيون، تستطيع أن تنال من الحظوة، بمقدار ما تتقن لعبة الجنس مع المسؤولين على هذه المحطة أو تلك، فتظهر في كل البرامج، وتكاد تملأ الشاشة طولا وعرضا بحضورها الذي لا ينقطع.. إلى درجة لا يحتاج المشاهد أن يدخل الكواليس لكي يكتشف التفاصيل، فعلى الشاشة يثار مليون سؤال حول غياب المؤهلات المهنية والعلمية لدى هذه المذيعة، وحضور المؤهل الجنسي في العلاقة مع المدير فقط؟! وحتى في الجامعات، صار هناك أستاذة، يمكن أن يمنحوا بعض الفتيات نجاحا لا يستحقونه، مقابل علاقات جنسية ستكون تِذكارا لنجاحهن المدرسي وانحطاطهن الأخلاقي والسقوط في حَمأَةِ الانحراف على مر السنين. لابد أن أُذكّر في الختام أن كيان المرأة يخضع لإشكال عديدة ومتنوعة من امتيازات تجعل منها أسطورة كل المزايا، ومن اختزالات ترى فيها شيطان لكل الخطايا. وتتفيّئ هذه الاختزالات إلى قسمين أساسيين: الأولى تبالغ في قيمتها وتَمَثْلُنِها، وأخرى تبخّس هذه القيمة. والنتيجة واحدة في الحالتين، إذ لا نرى في المرأة إلا ما نريد ونحتاج في عملية تعميم مقصودة على بقية جوانب كيانها. إذن: المرأة وحدها من تستطيع بناء وتشييد مقام يليق بشخصها ككائن واعي مفكر مبدع له القدرة على الاختيار المسؤول وبناء الذات، كائن يستحق الحياة...أو صنع كائن للغدر والخذلان، للوضاعة، الخسة، الدناءة، الرذيلة، الرداءة، وللعهر عنوان. فبِيَدِكِ الاختيار إما أن تستحقي الكرامة والحياة، أو تستحقي الموت بالتقسيط ولما لا الإعدام. [email protected]