الجزء الأول حمي صفيح النقاش مؤخرا وسال حبر كثير حول موضوع ما يعرف لدى السلفيين ب"الحجاب" وما يطلق عليه البعض اختمارا من باب الدقة اللغوية. وقد انخرطت في ذلك النقاش مختلف شرائح المفكرين والمفكرات وعبر مختلف بلدان العالم الإسلامي والغربي، واستغلت في ذلك مختلف وسائل وتقنيات التواصل والإعلام الحديثة؛ وهو ما أعطى للموضوع أبعادا جديدة، سواء على مستوى الطرح أو الموضوعية والدقة في قراءة النصوص وسياقاتها المختلفة. توصلت شريحة واسعة من مختلف الحقول الفكرية، بما فيها الحقل الديني، إلى حقيقة أنه ليس هناك ما يعرف باللباس الشرعي أو الإسلامي وأن أمر اللباس موكول إلى الشعب وإلى تاريخه وبيئته وثقافته وحتى تكوين الشخص ووعيه؛ لكن مؤخرا خلق أحد الأصوات الجميلة في قراءة القرآن وتلحينه، وهو موظف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المفاجأة من خلال إثارته لموضوع لباس المرأة ودعوته إلى ارتداء الحجاب والنقاب في المغرب... الأمر الذي استغرب له كل من يواكب الصحافة المغربية واعتبروه نوعا من النشاز؛ وذلك لأنه - من جهة- يشكل انتكاسة فكرية لا تختلف عن الانتكاسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوقية التي توالت على المغرب في ظل حكومة تيار الإسلام السياسي، ومن الجهة الأخرى يعتبر ما صدر عن موظف الدولة هذا ليس سوى: تطاولا على الدستور المغربي في كل ما يتعلق بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل؛ وتطاولا على اختصاص إمارة المؤمنين والتي لا يخفى على أحد موقفها في هذا الجانب؛ وهو الوسطية الاعتدال؛ ودليلا قاطعا على تشدد الفئة الموكول إليها تكريس مبادئ الإسلام المعتدل والمنفتح والمتسامح وضيق أفقها ومحدودية اجتهادها وتدبرها للنص القرآني وتشبثها بالسطحية وبالتقليد والاجترار، وهو الأمر الذي انعكس وسينعكس سلبا على ديننا ومجتمعنا أولا وعلى علاقاتنا بغيرنا ثانيا. ولهذه الأسباب ولغيرها لا يتسع لنا المجال لذكرها جميعا، تمت العودة ثانية إلى موضوع الاختمار للتذكير ببعض النقط الأساسية من خلال قراءة النصوص القرآنية التي يتم الاستناد إليها في الدعوة إلى ارتداء المرأة المسلمة "للحجاب" (أما النقاب فموضوع آخر). وسيتم ذلك وفق المنهج السياقي. جاء في كتابه الكريم، سورة الأحزاب النص 59: (يٰأَيُّهَا 0لنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ 0لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ 0للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ) لم يرد عن أسباب نزول الآية شيء مهم، حتى وإن كان قد أشار بعض المفسرين إلى قصة أسماء بنت مرتد، فهي تبقى رواية ضعيفة. وبالتالي، فالآية نزلت بسبب الحاجة إلى تصحيح وتغيير أمر أو وضعية اجتماعية كانت سائدة ولم تصبح مستحسنة سواء بشكل مطلق أو نسبي، وهذا معروف عند المهتمين بأسباب النزول. أما عن الآية 31 من سورة النور: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ 0لتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي 0لإِرْبَةِ مِنَ 0لرِّجَالِ أَوِ 0لطِّفْلِ 0لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ 0لنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى 0للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ 0لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وحسب ما جاء في التراث الإسلامي وباختصار شديد كما أورده مجاهد، (يتجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة). وإن كنا نستأنس بأسباب النزول على شحتها وعدم دقتها حيث أحيانا نجد مجموعة من الآيات تشترك في نفس أسباب النزول. وكما أن التراث الإسلامي لا يتوفر على مادة ترتيب نزول الآيات والذي لا يمكن تعويضه بترتيب نزول السور لكون السورة الواحدة تتضمن آيات تختلف مواضيعها وتاريخ ومكان نزولها (مكة أو المدينة). ومن ثم، سنركز بالدرجة الأولى على الشرح اللغوي وتحديد المفاهيم الأساسية؛ وهي: عبارة "يدنين عليهن من جلابيبهن" من فعل أدنى يدني، أي قرب يقرب من. ويدنين عليهن من جلابيبهن، بمعنى يقربن عليهن من جلابيبهن، أي يجمعن عليهن أطراف وحواشي جلابيبهن". والجلباب قيل إنه ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، وقيل هو الملحفة، وقيل هو ما تغطي به المرأة الثياب فوق الملحفة، وقيل هو الخمار، وقيل هو الإزار. وأي كان، فالفكرة هي أن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ يعني يجمعن عليهن أطراف القماش الموجود على أكتافهن وظهورهن. يغضضن من أبصارهن. في اللغة غض بصره، أي كفه ومنعه من الاسترسال في التأمل والنظر وخَفَضَه وكسره. في الآية، نهي للنساء عن الاسترسال في التأمل إلى الرجال بشهوة. و النهي نفسه وجهه إلى الرجال في الآية 30/59. لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها: لا يبدين: نهي عن الإبداء الذي هو حسب غالب حسم الشابندر، (الإبداء هو الإظهار الزائد، البيّن، الشديد الوضوح). والطريقة التي يمكن للمرأة أن تبدي بها أعضاءها هي التبرج بوسائل مختلفة؛ مثل: مواد التجميل والوشم والوصل والتكبير وبعض أشكال اللباس ... وعن ذلك تنهى الآية. الزينة: الزينة المشار إليها هنا هي أعضاء المرأة في حالة تبرج، أي الزينة الخلقية (بكسر الخاء)، والزينة المضافة من أجل الزيادة في الجمال أي الإبداء. إلا ما ظهر منها: المراد هنا الزينة الخلقية، أي أعضاء وأطراف الجسد باستثناء السوأتين والصدر والإبطين أي "الجيوب"، حيث ورد نهي قاطع عن إظهارها. والمعنى هو أنه باستثناء "السوأتين والجيوب، فمباح للمرأة أن تظهر أعضاءها تبعا لقواعد الحشمة في الوسط الذي تعيش فيه، شرط أن تكون في حالتها الطبيعية دون إبداء أو تبرج واستعراض، إلا أمام المحارم كما حددتهم الآية؛ لكن لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم الزينة هو من المفاهيم التي يصعب أو يستحيل الاتفاق حولها، لأنها تختلف من فترة زمنية إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى داخل المجتمع الواحد. وهذا سر كون الآية لم تحدد ولم تخصص وإنما تركت ذلك لأصحاب الشأن، أي العرف والعادة والبيئة الجغرافية. ليضربن بخمورهن على جيوبهن، أي ليلقين ويرمين بخمورهن على ثنايا صدورهن بما فيها الإبطين وبين الثديين وتحتيهما وكذلك السوأتين. أما عن مفهوم خمورهن، فمفرده خمار وهو الغطاء وقيل أنه دون الملحفة والرداء والجلباب والإيزار، وقد تعودت قريش إطلاقه على غطاء الرأس. بعد شرح المصطلحات والمفاهيم وفي إطار تحديد سياق النصين نستحضر بعض ما جاء في كتب التاريخ فيما يرتبط بتاريخ اللباس في المناطق المعتدلة والحارة كمنطقة البحر الأبيض المتوسط والصحراء، والتي تنص على أن اللباس بالمنطقة مر بخمس مراحل أساسية. وما يهمنا منها هما المرحلتان الأوليان اللتان توافقان المرحلة التاريخية موضوع دراستنا؛ وهي حوالي السنة الخامسة والسادسة للهجرة. وهاتان المرحلتان من تاريخ اللباس هما: مرحلة الالتحاف: (Le costume drapé وهي الاشتمال بقطعة جلد أو الأدم في البداية، ثم أصبحت بالصوف أو الكتان أو القطن أو الحرير. وقد امتد هذا اللباس حتى مرحلة النبوة، والتاريخ يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عايش هذا النوع من اللباس الذي عرف بالثوب الواحد، وقد كان يعلم الناس كيفية استعماله حتى يستجيب لوظيفته الدينية وهي ستر السوأتين: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف:26) ومن جهة أخرى، ليساير أهل شبه الجزيرة العربية في لباسهم غيرهم من الأقوام وخاصة الجارتين المتحضرتين، الفارسية والبيزنطية التي تم الاحتكاك بها بشكل مكثف بداية عن طريق التجارة والأسواق وفيما بعد من خلال التوسعات. الأمر الذي كان سببا في جلب الأثواب والأقمشة والتعرف على الخياطة وبالتالي شيوع ظاهرة اللباس في شبه الجزيرة العربية بتحفيز وتعليم من النبي محمد لأن الأمر لقي معارضة في البداية كما يحدث مع أي جديد، عبر الأزمنة والعصور، لغرابته وما يتولد عن تلك الغرابة من قلق وخوف. مرحلة البقيرة، (Le costume enfilé) ؛ وهي الفترة الممتدة ما بين 400 و1450 ميلادية. والبقيرة هي قطعة من الجلد أو القماش مشقوقة تسمح بمرور الرأس والأكتاف مثل البينولا الرومانية والهوك في القرون الوسطى والبونشو المكسيكي. وفي المغرب، ما زالت بعض مناطقه تحتفظ بمعالم اللباس سالف الذكر كالكاندورة. بعد هده الإحاطة الموجزة بلغة وسياق "نصي اللباس" والإشارة إلى بعض أنواع اللباس التي كانت معروفة آنذاك، يمكن أن نقترب معا وبشكل موضوعي من الصورة التي كان عليها اللباس في مرحلة النبي محمد ونزول آيات الاختمار؛ فقد كان اللباس بسيطا لا يتجاوز قطعة قماش أو بقيرة وهو للذكور والإناث معا. كما أنه لم يكن في متناول الجميع، أي أن ظاهرة العري كانت هي السائدة. ومن كان يمتلك ثوبا كان عبارة عن بقيرة أو إتب مفتوحة الجانبين وكانوا يضعون على ظهورهم وأكتافهم القماش المعروف بالمرط أو الملحفة أو الجلباب وذلك بحكم البيئة الصحراوية؛ فالشمس الحارة والرياح والرمال فرضت على الإنسان أن يحمي رأسه وأكتافه وظهره الأكثر عرضة لأشعة الشمس على حساب باقي الجسد وكان أمرا عاديا آنذاك؛ لكن مع تغير أحوال الناس أصبح العري الكامل ظاهرة غير مستحسنة، فنزلت الآيتان لإرشاد "النساء" إلى طريقة ستر السوأتين والجيوب بما لديهم من ثوب -من باب اليسر. وهذا ما سنقف عنده في الجزء الثاني من المقال.