في الطريق إلى الدارالبيضاء كانت الحافلة غاصة بالمسافرين ، تنهب الأرض نهبا في طريقها إلى البيضاء ... في مقعد خلفي شخص ملتح ؛ لم تنفك نظراته تحدق في اتجاه امرأة في الجانب الأيمن ، يتمايل رأسها ذات اليمين وذات الشمال ؛ من حين إلى آخر ؛ كانت تنتحب في صمت وتكفكف دموعها بكم جلبابها في تستر عن أعين القاعدين إلى جوارها .. في حين كان ملاصقا لها عن اليسار طفل لم يتجاوز السادسة من عمره .. أسلم رأسه إلى حضن أمه مواجها جسمه النحيل لزجاج النافذة . ناولها كيس مناديل ونظراته لم تفتر عن الحملقة في سحنتها .. أخذت تصلح حالها لتستدير إلى صاحبنا الملتحي ، بوجه مستدير وعينين حمراوين غائرتين وشفتين دقيقتين ما زالتا مبتلتين من انهمار الدموع على خديها .. حاول أن يسكن من روعها : " ... ياكْ لاباسْ ... مالكْ .. محْتاجا شيحاجا ..؟ " .. أعادت إليه الكيس .. فلم تقو شفتاها على التمتمة ، واكتفت بحركة من يدها كما ودت أن تشكره . وبينما أخذت الحافلة تقترب من مشارف مدينة الدارالبيضاء ، رن هاتفها لتفغر فاهها : " ..ألو ..ألو عمْتي قرّبنا ..ما زالْ ..." قاطعتها عمتها : " ... شدّي ولداكْ مزْيان ... راهومْ غيرْ لبّانديّا ...راهْ كانتسنّاوكْ فوْلادْ زيّانْ ..." .. " واخّا .. آعمْتي .. ياالله .." نادت إبنها وهو ما زال نائما على صدرها : " .. عادلْ .. عادلْ .. نوضْ .. ياالله .. آحْنا وصلْنا .." اِلتفت إليها الرجل الملتحي وهو يهم بإخراج حقيبته من أسفل المقعد ؛ وسط لغط الركاب : ".. كاينْ شي فاشْ نْعاونكْ ..؟ " " .. شكْرا..آخويا ... راهومْ هْنا كايتسنّاو فينا .." " .. ماتعْطينيشْ نْمرْتكْ .. زعْما .. سبحانْ .." " ياالله قيْدو عنْدكْ ..." لم تكد الحافلة تدخل المحطة حتى أخذ بعضهم يصيح في الخارج : " الجديدة .. مكناس .. واد زم ..آزمور .. ياالله .. بْلاصا " رافقها إلى حين استلام حقيبتها الثقيلة ، والتي ألفت عمتها شكلها ولونها ، فصرخت من الخلف وسط الجموع : " .. أراها .. أراها .. هْنا .. آفايْنكْ آلبتولْ .. لْباتولْ .. ! " .. اِنبرت فجأة في اتجاه العمة ؛ وهي ممسكة بيد ابنها عادل المتعثر في مشيته " .. صاحت عمتها : " .. آشْكونْ هداكْ بولحْيا .. بولحيا اللّي نْزلْ معاكْ منْ الكارْ ..؟ !" " ..لا غيرْ بْغا يعاوْني .. فالتّقل .." ... عمتها امرأة في عقدها الخامس ؛ عينها اليمنى غمازة ، نظراتها تختزن كراهية ومقتا للجميع ، وبلسان سليط لا يأبه بأحد ، تعلو وجهها ندوب عميقة . صرخت في وجهها : " .. قلتلكْ .. وإياكْ .. وإياكْ .. تتّقي .. راهومْ كلهمْ شْلاهبيّا .. وبّانْديّا .." ثم أضافت وهم يشقون طريقهم وسط ازدحام المسافرين : ".. واشْ عمْتكْ .. دوْزاتْ قليلْ مع لبّانديّا .. دوّازتْ شْحالْ درْجالْ ..كلْهمْ غيرْ لبّانديّ لخوهْ ... ياالله راهْ عزيز كايتسنّانا فالطاكسي .." عمتها "عيشة سيكاتريس" ؛ كما يدعوها الجيران ؛ تعيش بمنزل متواضع ، تحيط بها قطط ، تقوم على إيوائها وتغذيتها ، وسط حي شعبي مكتظ بالسكان ؛ معظمهم يمتهن حرفة الخضارة بالعربة .. نهارا والسباب والعراك ليلا .. ! ألقت البتول بجسدها النحيل على الأرض ، وراحت تستعرض ؛ أمام ناظريها ؛ صورا مرعبة لزوجها بين أيادي الجيران ينهالون عليه بالرفس والركل .. بعد أن ضبطوه بطلا لاغتصاب ثلاثة من أطفال الحي .. !انتظروا .. لكن لم تكد سيارة الإسعاف تصل إلى عين المكان .. حتى كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة . كانت مستسلمة لصور ماضيها البئيس لولا صوت عمتها المدوي : " .. نوضي آلبتولْ ... كولو شْويّا عاد نعْسو ... آجي أعادل .. عنْداك تخرج على برّا .. إشنْدْغوكْ أوْلادْ لقْ... " * * * الاتجار في كل شيء مرت ثلاثة أيام على حلولها ضيفة على عمتها .. وفي أجواء عبقة بصخب الجيران ، وصراخ الأطفال ؛ يتعقبهم دوما "البيتشو" بائع الديطاي ، وينهرهم بلزوم "أعشاشهم" ، حتى كان ذات يوم بينما كانت منهمكة في التصبين ، إذا بهاتفها يهتز في صدرها ... " .. ألو .. ألو .. شْكونْ ..؟ .. باللّاتي .. باللّاتي .." صعدت إلى السطح ، وآوت إلى ركن منعزل لتستأنف المكالمة : ".. أنا اللّي .. أنا اللّي جيتْ معاكْ فالكار منْ خريبكة .. عْقالتي عليّا ..؟ .." " .. إيه .. إيه .. عادْ ستعْقلتْ .. واشْ كادّيرْ .. ماهْدرناشْ فالكار .." " .. أنا .. مْوصّيني القاضي الزموري ... كاندّيلو لعسلْ من شهر لشْهر .. عزّيتي عْليّا .. داكْ نْهار ... مانتْلاقاوشْ ..؟ " " .. لا .. .. لا .. .. لا ..مايمْكنليشْ ..عمْتي صْعيبا .. والدرّي مايقدارشْ إفارقْني .." " .. سميتكْ الباتول ياكْ .. وآشْ كتْعرفي الدّيري آلباتولْ .. من غيرْ طْيابْ والشْقا.. " " .. ماعنْديشْ شيحاجا أخرى .. بحالاشْ زعْما ..." " .. بْحالْ تشطْحي ..ولاّ تغنّي ها .. ها .. ها .. " . قهقهت البتول .. لكن سرعان ما كتمتها بين قطع ملابس منشورة ، ولم تكد تسترسل في حديثها حتى صعقها صوت من الخلف : " .. آشْ كادّيري هْنا .. مْعامنْ كنْتي كاتدْوي .. ها وذْني منّكْ آلباتول .. راهُمْ كلْهمْ بّانْديّا .. ياالله زيدي قدّامي .. ديري لْولْداكْ ما يلْعاقْ .." * * * تاجر الخدم في مقهى زجاجي ؛ مشرف على شاطئ عين الذياب .. قعد الرجل الملتحي منشغلا بهاتفه ؛ بين الفينة والأخرى ؛ كان يأخذ وضعية اتصال بأحد ، فلا يجيبه .. فيراجع ساعته المعصمية .. ولا تنفك أنامله عن مداعبة زغب لحيته .. لكن وبعد حين ولج بهو المقهى رجل مديد القامة منتفخ البطن ؛ يداعب بيده اليسرى سبحة فضية لامعة .. وبمجرد أن رمقه الرجل الملتحي حتى هرع إليه هذا الأخير هاشّا باشّا وقد لمح ؛ بغمزة عين ؛ إلى خدم هناك : " .. ياحاجْ .. شرّفْتْ .. ياهلا .. .. ياهلا .. " " .. ياسي عبد الرحيم .. مِنْ كمْ وانْتا هِنا .. ؟ قفلتْ السكة .. ماكاشْ على بالْ السّواقْ بْتاعي .. ياهلا .. " . حلّق الخدم حول الرجل الكويتي كالنحل حول قرص العسل ، كل يسعى لتلبية حاجياته ... من الأكل والشراب والمرح .." الرجل الكويتي متوجها إلى عبد الرحيم : " .. ياسي عبد الرحيم إشنو جبْتْ .. هاتْ .. هاتْ .. " عبد الرحيم متلعثما : " .. ياحاجْ .. جبْتْ لِكْ فرْخة ..." الكويتي مقاطعا : " لا .. لا .. فرخة ولا بطة .. بسْ متعلمة عمل منزلي .. منزلي ..أُبسْ ..". عبد الرحيم : " إيوا كِذا .. إيوا كِذا ياحاجْ .. معي امرأة متعلمة تتقن شغالات هيّذي .." الكويتي متسائلا : " .. وينْ هيّا ذي المخْلوقة ..أنا لازمْني أشوفْها .." عبد الرحيم : " .. بكرة تشُوفْها .. ياحاجْ .. " الكويتي مستدركا : " .. عندي سفريّة بُكرة لإسبانيا .. مافيهْشْ سبعة أيام ولا ثْمانيا نكونْ هِنا ..حاكلْمك لوقْتو .. " . عندها رن هاتفه الصغير ، وقبل أن يحمله إلى أذنه اليسرى أفرغ في جوفه كأس سكوتش ، ليستتبعه بتثبيت غليوم بين شفتيه ؛ وأنفاس أدخنة تتطاير من حوله تباعا : " آلو .. آلو .. ياهلا .. حبيبي أحمد إزّايك .. كِيفْ الحال كويسْ عال .. إزّايك ومدريد ها .. ها .. ها ..آيْ نعم بكرة حاكون عندك .. ثلاثة .. ثلا ..والله كويس .. ثلاثة ربما .. أربعة ..واحدا .. من المغرب .. نعم الشغل زيْكِدا .. الله يعطيك العافية .. سي يو سون " رشف كأسا أخرى ، قبل أن ينهض واقفا ؛ وقد طلب لسائقه الدفع بالبطاقة البنكية ، مع نفح الخدم بعض البقشيش .. * * * عادل يسلك طريقا آخر تعاقبت الأيام والشهور سراعا ، كل ينتظر الآخر .. لا الرجل الملتحي عبد الرحيم يعاود الاتصال بالبتول .. ولا الكويتي يرن في هاتف عبد الرحيم .. حتى كادت الأحداث أن تصبح مجرد صدفة من الماضي ، سرعان ما طواها النسيان إلا من العمة "عيشة سيكاتريس" التي كانت تزداد غلظة وتشددا ، تجاه البتول وإبنها عادل .. الذي لم يكن يقو على المكوث في المنزل ، ولزوم أركانه المظلمة ، ومعانقة روائح الخمرة التي كانت تعاقرها عمته ليلا والناس نيام .. ! كانت العمة تمانع في إلحاقه بمدرسة هناك ، بينما أصرت أمه على رؤية إبنها يحمل محفظته ؛ يغدو ويروح بها إلى المدرسة وسط أترابه . وذات صباح من أيام دجمبر القارس ، بينما كانت تعد الفطور لإبنها لتصحبه إلى المدرسة ، رن الهاتف في صدرها : " .. ألو .. .. ألو ..شْكونْ انْتا .. س.. باللّاتي .. عاود منْ دابا شْويّا.." . ارتدت جلبابها الداكن ، مع خمار أسود .. وحملت المحفظة ؛ مصطحبة اِبنها في طريقه إلى المدرسة .. وفي طريق عودتها رن الهاتف : " .. ألو .. لاباس .. شْحالْ هادي .. كيفاشْ .. لا .. لا .. لا .." الرجل الملتحي ملحا : ".. راه الحظ هوا لِكلْمك .. في التلفون .. ماشي أنا .. اعْطيني نص ساعة من وقْتكْ .. فايْنكْ دابا ..؟ " ترددت البتول طويلا ، ونظراتها تزيغ بين اتجاه المدرسة وبين اتجاه منزل عمتها ، وأخيرا ردت : " .. أنا دابا .. فْباب مراكش .. قبالة القيساريا .. متعطّلشْ .." ... وفي لحظات معدودة تراءى لها الرجل الملتحي ؛ يلوح لها من داخل سيارة أجرة ... صعدت إلى الخلف وقد أحست بالعرق يتصبب من جبينها لينتشر في أنحاء جسدها .. ولج عبد الرحيم المقهى الزجاجي ليلفي أمامه قاعدا على أريكة رحبة الرجل الكويتي ببرنوصه الأسود ، وغليونه المعتاد .. " .. إنها هنا في السيارة ... تنتظر إشارتكم ... ياحاجْ .." ... أخذ نفسا عميقا من غليونه قبل أن يرد : " .. طيبْ ..هاتْ نْشوفو .. " ... مثلت أمامه ... وعيناها مطرقتان إلى الأرض .. فلم يتوان الكويتي عن مخاطبتها : " .. من فضلكْ ... تسْمحي .. تكْشفي عن وجهكْ ...؟ " ... كشفت عن وجه محْمرّ ، وبتقاسيم نحيفة وخجولة . " .. عالْ .. عالْ .. بتعرفي القراءة والكتابة ...؟ " .... أومأت بهزة رأسها أن لا ... فقهقه حينها الكويتي قهقهة انتهت بسعال حاد قبل أن يتكلم : " .. عالْ .. والله عال .. كل السّتات لأخدناهمْ للشغل طردناهم .. ليهْ لأنهم يعقدو الاتصالات مع الزبناء ... يابنْتْ الناس إسمك .. يابتولا بتقبلي تشْتغلي شغْلة كويّسا .. شغْلات عادية .. نظافة .. طبخ كذا .. إيشْ رأيكْ ..؟ " تسمرت في مكانها لا تلوي على شيء من هول المفاجأة ، قبل أن تغمغم : " .. نعم .. آسيدي ...إلا كان شْغال دْيال الدار ..." الكويتي ؛ متوجها إلى عبد الرحيم : " ..شوف ياسي عبد الرحيم .. غدْوا .. إيجي هنا وكيل أعمالي .. سي برعوم .. حينها يرتّب أوراق السفر .. ويدْفع لها مقدما ...350 دولار لعائلتها .. ساميعْ ..طيب .. ربما عندي سفرة بكرة ..." * * * المال دين العمة كم كانت غبطة العمة وهي تستلم المبلغ من البتول ، قبل أن تقبل يديها الإثنتين وهي تربت على كتف إبنها عادل : " .. شوفي .. آعمتي ..هدا هو نور عيْنيّا ... خلّيتولكْ بين يدّيك .. باشْ تهلاّي فيه .. وتْخلّيه يمْشي ديما المدرسة .. ماعمْري ننْسا خيركْ .. نتي لعندي فلبلاصا ديالْ أمّي الله يرحمها ..." تأملتها عمتها بعينها الغمازة ، قبل أن توصيها في لهجة استعطاف : " .. شوفي آبنتي البتول ... عنْداكْ تنْسايْنا ...مْنينْ دّيري لفْلوسْ بزّافْ ... أعنْداكْ .. ديما نوصّيكْ الرجالْ .. الرجالْ .. واخّا فينْ مّا مْشيتي ...ديما بّانديّا ..." في بضعة أشهر اِلتحقت البتول شغالة في أحد النوادي الليلية بالكويت العاصمة ... وقد رخص لها رب النادي بضرورة اللباس المحتشم البعيد عن كل إثارة ... ومن فورها اعتادت الاتصال بعمتها .. وسماع اِبنها عادل وتدرجه في النتائج المدرسية ، لتختتم بسؤالها الروتيني على رأس كل شهر ما إذا كانت عمتها توصلت بالحوالة أم لا ... * * * نهاية العمة كان مضجعه مؤرقا ؛ قلما يحظى بنوم هادئ ، دون أن يعكر هدوءه طرقات على الباب ، ليختلس النظرات إلى عمته وهي تتسلل ؛ في جنح الظلام ؛ إلى غرفة مجاورة لتسكب النبيذ وتدخن الشيشا صحبة طوارق مجهولين ... كان ذلك ينغص عليه عيشه ، ويزيد في تعميق جراحه ... لكن ..فجأة ستسود الدنيا في أعينه ، ولم يعد يطيق رؤيتها ... سيما بعد أن امتنعت عن اقتنائه لبعض اللوازم الدراسية ، بدعوى أن أمه كفت عن إرسال مؤونتها منذ مدة ، وهو يعلم أن نفقة أمه تبتلعها عمة أمه في لياليها المخمرة . وفي لحظات ما وجد نفسه مفصولا عن الدراسة ... يتسكع في دروب وأزقة ؛ تعرف كل يوم ؛ فصولا في العراك بالسيوف والسكاكين ، بين بائعي المخدرات ورؤساء عصابات يريدون "التدويخا" مجانا .. ! وفي جوف ليلة بهيمة ؛ بينما كانت سيول الأمطار تتهاطل بغزارة على سقيفة المنزل ؛ عمد عادل إلى برغي كان يتوسده ... وقد عزم على أن يضح حدا للجراح التي كانت تمزق ذاته ... تسلل إلى الغرفة المجاورة ، حيث كان شخير عمة أمه يملأ الفضاء ، وفي لحظة مفاجئة .. انقطع شخيرها إلى الأبد ... وولى هاربا في جنح الظلام ! هاجر المدينة ، وأصبح يأوي إلى منزل منزو ... في قرية معزولة صحبة ثلة من الأصدقاء ، يحضر إليهم كل مساء شخص في قميص رمادي اللون ، وبحذاء رياضي ... وآثار الكحل بادية على حاجبيه . ولشد ما كان الفضول يدفع بعادل إلى الإصغاء إليه ؛ وهو يحدثهم عن الجنة وفراديس الجنان ... وحور العين ... فلم يتمالك أن سأله ذات يوم : " ...أبا علي .. أبا علي ... هذه الأنهار ... والفراديس ..وحور العين .. أعدها الله لنا لقاء ماذا ؟.." " .. الأمر سهل .. ياأخي عادل ... كل هذا ... وما لم يخطر ببال بشر ... جزاء من الله على قتال أهل الكفر .. والكفار ..." عادل مستزيدا من "معارف" نزيلهم : " .. وكيف السبيل إلى ذلك ...؟ ! * * * السقوط في خلية إرهابية كان شغوفا بحضور حلقات ذلك الشاب ذي الجبة الأفغانية ... وكم كان يتوق إلى معرفة السبيل .. لقطف "ذلك الجزاء العظيم" .. حتى إذا كان ذات مساء ؛ والقمر تغشاه سحب داكنة تغدو وتروح في رقعة السماء ؛ طرق النزيل الباب على حين غرة ، فوجد نفسه أمام عادل وجها لوجه .. " .. أخي عادل ... هيا بنا .. لقد حان الأوان لتمتطي سفينة الفالحين السعداء ... السيارة في انتظارنا لتقلنا إلى إخوان لنا ؛ يحدوهم جميعا نفس الأمل الذي يعتمل في نفسك ...في غضون ثلاثة أيام سنلتحق بالركب في سوريا ... هيا .." كانت رحلة شاقة .. وبمثابة حلم يعج بمشاهد درامية رهيبة ؛ لم يكن يعلم بمحطاتها ولا مواقعها الجغرافية ... في ظرف ثلاثة أيام بلياليها ، وجد نفسه صحبة غرباء في مركب بميناء اللاذقية .. يستعد ليمخر عباب البحر في اتجاه منطقة محروسة شبه جبلية ؛ يقف على بوابتها المسيجة أناس ملثمون ، في أزياء سوداء ، يحملون بنادق رشاشة في وضعية تأهب قصوى .. جال عادل ببصره في تلك الأنحاء ليلفي نفسه في معسكر ؛ تزدحم في بعض جنباته سيارات طويوطا مجهزة بمدافع رشاشة ، وصناديق الذخيرة ، في حين كانت بالقرب منها غير بعيد ميادين التدريب على إصابة الأهداف بأساليب ووسائل عديدة ؛ من حين لآخر ؛ تتردد في الفضاء كلمة "الله أكبر" مختلطة بدوي الرصاص ... * * * التشبع بالفكر الإرهابي لم يكن مكوثه في هذه الأصقاع بالأمر الهين ، بل خضع لتداريب وعادات وشحن للذاكرة سنة كاملة ، صنعت منه شخصا آخر تواقا "للجهاد" ، وسفك دماء "الكفرة" حسب القاموس المتداول عندهم ، حظي من ورائها بلقب ميداني "خنجر الإسلام" ، وبين أفراد عشيرته "بالزبير" .. وذات يوم ؛ وبعد أن انفضوا عن مائدة الطعام المفروشة على الأرض ؛ ناداه أحدهم : ".. الزبير ... الزبير ... قائد المعسكر يريدك في مهمة عاجلة .." ولج غرفة .. ليجد في انتظاره على حصير مهترئ أبا الليث ؛ بقامة متوسطة ووجه تلفه لحية سوداء ، أتت على فمه ومنخريه ! : " .. الله أكبر .. الله أكبر .. ياخنجر الإسلام .. !الجماعة تبارك لك في خطواتك ، وقد أصبحت أهلا للمهام "المقدسة" ... جماعتنا اختارتك لتنفيذ مهمة في الكويت ... سيلتحق بنا بعد حين أبو النصر ، ليزودك بخريطة الموقع وزاده من الذخيرة .. ونهنئك مسبقا على هذه "النعمة" والجزاء الأوفى الذي سيكلل عملك هناك .." * * * السفر إلى الجحيم كان الهدف ملهى ليليا ؛ يقع أسفل فندق ؛ يرتاده علية القوم ، وكبار المقامرين لتجار من جنسيات مختلفة ... وقف عادل ، قريبا من الفندق ، وأخذ يتأمل حركة رواده الدؤوبة ... سيارات فارهة تتوقف .. وأخرى تغادر المدخل الرئيس ... حقائب تحمل هنا وأخرى تسحب من هناك .. على أيدي مضيفات في عمر الزهور ، يبدو ؛ من سحناتهن ؛ أن معظمهن قدم من آسيا ... وبينما هو كذلك ، إذا بذاكرته تسرح به في الماضي ، فيتذكر أمه البتول .. وركوبها الأهوال لتؤمن له مصاريف الدراسة ، وتطعمه وتقيه شر مخالب عمتها ... كان شاردا .. تائها ..بين أفكار تعصف به ... لتستقبله أخرى أشد وطأة وقسوة : = ....أين هي الآن ..؟ هذه هي الكويت .. وهذا هو أشهر فندق بها ... فقد تكون ... تشتغل ... نادلة .. لا ...لا...يارب ... أمي ... ليست من هذه الطينة .. لا .. ربما منظفة ... وسط الزبناء ... لا ...لا ..أمي .. ليست ... ولكن ما جزاء الكفرة ... قد تكون طلقت عقيدتها إلى غير رجعة ... فأصبح دمها ... لا ...لا ..أمي .. ليست ...أمي ...أمي ....= " ... إمْش ... إمْش ... إمْش مِن هناك يارجلْ ..." استفاق على دوي صوت صادر من أحد حراس الفندق .. من بعيد ، فولى أدراجه إلى الخلف ، ليتوارى عن باحة الفندق الفسيحة ... بعد خمسة أيام من حلوله بالكويت العاصمة ؛ وفي ظهيرة يوم جمعة ؛ بثت مباشرة كبريات القنوات الفضائية الدولية صورا لتفجير فندق بالكويت ، يعد ضحاياه بالعشرات .... قيل إن الفاعل كان من بين الضحايا ، وقد عثر في كيس كان يحمله صورة ؛ لم تمتد إليها ألسنة النيران قيل إنها لامرأة ... ما زال التحقيق جاريا بشأنها . وفي نشرة استثنائية عاجلة ، أكدت إحدى القنوات أن " عاملة بالفندق أصابتها شظية في عينها اليمنى .. يقال إنها على علاقة بالإرهابي .." ...فيما أوضحت قناة CNN أن التحقيقات كشفت أن المرأة لم تستطع التعرف على الأجساد المتفحمة ، لكنها صعقت حينما شاهدت خالا بذراع يد مبتورة ، فانهارت قواها وسقطت لحينها على الأرض .