مفارقات: تضامن الرأسمال وتشرذم العمال من خاصيات الرأسمالية أنها، عندما تشعر بالضعف، تميل إلى التضامن الأفقي، إذ يتحد الرأسماليون (الأقوياء مادياً وسياسياً) في ما بينهم لضمان القوة اللازمة الضرورية للدفاع والحفاظ على مصالحهم. وهكذا فالاتجاه العام لدى الأبناك، التي تعتبر الأداة الرئيسية للرأسمال المالي، هو الاندماج وليس الانقسام (مثلا: الأبناك التالية: BCM وUNIBAN وWafa Bank لم تعد موجودة لأنها انصهرت في بنك واحد كبير وقوي هو Attijariwafa Bank)، كما أن الشركات "الوطنية"، بحثاً عن تحقيق مزيد من الأرباح (مزيد من الأرباح لا يعني بالضرورة تحسين خدمات الزبناء) تسعى إلى أن تصبح فوق-وطنية (مثال: اتصالات المغرب لم تعد مغربية محضة، بل أصبحت لها فروع في عدد من الدول الإفريقية)..الرأسمال الحديث، رغم اعتماده المبدئي على روح التنافس، فهو متضامن وعابر للقارات. خلافاً لذلك فالضعفاء، الذين هم في الأصل أقوياء (الكادحون والطبقات الوسطى) يميلون إلى مزيد من التشرذم، وبالتالي مزيد من الضعف أمام سلطة الرأسمال. وحتى من يدعي تمثيليتهم والدفاع عنهم، بدلاً من أن يأخذوا العبرة من الرأسماليين الأقوياء (الذين هم في الأصل ضعفاء)، يميلون إلى مزيد من التشرذم.. على سبيل المثال نجد في المغرب على الأقل ستة أحزاب تدعي المرجعية الاشتراكية، وبدل أن تتحد وتنصهر في حزب اشتراكي كبير يمثل ثقل الكادحين والطبقات الوسطى (والذين يمثلون أغلبية المواطنين)، فإن الاتجاه العام السائد بين هذه الأحزاب هو التنافس الشديد، حد العداوة، والانقسام المستمر، بدل التضامن والاندماج، كما هو الشأن لدى الرأسماليين الأقوياء.. ومما لا شك فيه أن في المغرب طبقة عاملة (المأجورون في القطاع الخاص والعام معا). إن انهيار سور برلين هو انهيار لإيديولوجيا ولنظام حكم، وليس انهياراً للطبقة العاملة، فالطبقة العاملة مازالت واقفة، وستظل كذلك. هذه الطبقة العاملة هي نفسها ضحية تشرذم كبير، فكل حزب، سواء كان يسارياً أو يمينياً ليبرالياً أو يمينياً إسلاموياً، يؤسس على شاكلته مركزية نقابية عمالية.. العمال، بالتعارض مع الرأسمال، يميلون إلى مزيد من التشرذم حسب تأطيرهم في النقابات التي تمثلهم..هناك نقابات عمالية عديدة مقابل نقابة رأسمالية واحدة (نقابة الباطرونا). والعمال، بدلاً من أن يسمعوا صوتاً واحداً أثناء "الحوارات الاجتماعية"، يسمعون أصواتاً بقدر عدد النقابات، مقابل صوت واحد، هو صوت الباطرونا. ونتيجة لتشرذم العمال، عبر نقاباتهم، تميل هذه النقابات إلى الاستقلال الذاتي وتتحول إلى أداة بيروقراطية تنصب نفسها كوسيط ضعيف يتحول موضوعياً، بسبب ضعفه، إلى أداة لتزكية قرارات الرأسماليين. في مجال العمل السياسي، تتقاطع المصالح والتمثيليات بين الرغبة في تقوية التنافس المنتج للزعامات والرغبة في التضامن المنتج للرأسمال.. لقد مضى عهد الزعامات التقليدية: الزعامات التاريخية والزعامات السياسية والزعامات العمالية... ومعها ذهب دور المفكرين المتنورين والمثقفين العضويين والمثقفين الطوباويين و"المناضلين الشرفاء". الزعامات الجديدة وضعت قطيعة مع الفاعل السياسي "المفكر" لتفسح المجال أمام الفاعل السياسي "العملي". الفاعل السياسي "المفكر" فاعل إستراتيجي، يتجاوز تقلبات الظرفية، أما الفاعل السياسي "العملي" فهو أي مواطن أو مواطنة، بغض النظر عن أصوله أو مستواه الدراسي، قادر على استعمال حدسه ودهائه (ليس ذكاءه) ليضمن طريقاً ما إلى الاستفادة من دائرة الأقوياء الضيقة. تختلف تسميات هذا الفاعل الجديد لكن صفاته المشتركة هي: شعبوي، وصولي/أصولي، همزوي، "جمعوي"/دعوي... مع بداية الألفية الثالثة، تطورت الكثير من الأشياء والمفاهيم؛ وهكذا فإن الديمقراطية لم تعد مجالا لصراع بين اختيارات وإيديولوجيات متباينة مرتبطة بطبقات كادحة وأخرى رأسمالية، وإنما فضاء لتدبير العلاقة بين الأقوياء (الذين يمثلون أقلية) والضعفاء (الذين يمثلون الأغلبية). وكلما تطورت الديمقراطية في هذا الاتجاه، كلما تم الاستغناء عن السياسي "المفكر" ليحل محله السياسي "العملي": الانتهازي، الشعبوي، الهمزوي، المتقلب، المترحل... *أستاذ جامعي