بينما كنت عائدة من رحلة الأسفار...سمعتها تناديني باسم ثاني غير اسمي..."استير Esther" أبحث عنك بين الدروب فلم أجدك...خشيت أن يكون مكروه ما قد حل بك... إنها "ليا" صديقة الفصل...تجمعني معها صداقة قل نظيرها...محبة الإنسانية للإنسان...كل واحدة منا كانت حريصة على أن تستمر هذه العلاقة التي كانت تبدو فاترة في مظهرها إلا أنها كانت متينة في جوهرها... فبينما كانت "ليا" تنتظر مني جوابا، كنت بدوري انتظر منها استفسارا...كيف لها أن تناديني باسم ثاني غير اسمي؟...فهي تعرف جيدا أكثر من غيرها أنني أكره تغيير الأمكنة كما أكره من يعبث بذاكرتي...ولا أحب أبدا من ينسى تاريخ ميلادي...راجعت مذكراتي عله يكون التاريخ فاتح تموز...أو يكون من يناديني شخصا آخر غير "ليا" التي تعرفني...تفهمت قلقي فابتسمت لي ابتسامة عريضة أرادت من خلالها طمأنتي...تحمل أمواجها معاني كثيرة...تخفي عالما لطالما حاولت أن تخبرني عنه قديما...إلا أن وتيرة اللقاءات والمسافات التي كانت بيننا لم تكن لتسمح بذلك بتاتا...ولا تسمح بأن نخوض في تفاصيل حياتنا اليومية...فكم من حاجة قضيناها بعدم الخوض فيها...على تعبير سايلا المراوغ الكبير... فحفاظا على قداسة صداقتنا...واحتراما للحق في خصوصية الإنسان ومراعاة للفوارق الفردية...فهمت كما فهمت "ليا" أن ثمة أشياء عليها أن تبقى سرا...وثمة عقود أبرمناها ضمنيا بيننا...لم أكن أرغب في أن أتطاول على الجوانب الخفية من شخصية "ليا" المثيرة للجدل، تجنبا لأية مفاجآت يمكن أن تتغير معها مفاهيم كثيرة... فجمال "ليا" يكمن في طبيعتها البسيطة...وقوتها تكمن في مواقفها الثابتة...هذا ما جعلني أتشبث بها كصديقة والأصدقاء في زمننا قليلون...فاحتراما لما كان يجمعنا...لم نسأل بعضنا يوما عن أشياء غابت عنا...من بينها سبب اختفائها المستمر كلما حلت بيننا مناسبة سعيدة...لم أكن أفهم سبب غيابها المتكرر كما لم تحاول أن تسألني يوما عن تفاصيل قضية "ثرلي" المصيرية...التي آمنت بها بدون شرط أو قيد...فاحترامي لها زادها تقديرا لي مما جعل لفضولي حدودا...كنت واثقة أن "ليا" تحمل كما أحمل سرا كبيرا لا بد أن نخبر بعضنا عنه يوما... أصرت "ليا" أن تدعوني لزيارة مكان كانت تحبه كثيرا، " لم تكن لتدعوني لو لم أكن من أغلى الأصدقاء لديها"...هكذا قالت لي "ليا" التي لم أشك يوما في حبها...لم يكن المكان بعيدا عن بيت جدتي الكائن في أعرق أحياء المدينة...كان الحي بالنسبة لجدتي عالمها والبيت فيها مقدسا...بينما كان بالنسبة لي موطنا لأحلامي...أرادت جدتي أن أكون أكثر تدينا...أصلي الصلوات الخمس وأحمد الله كثيرا...بينما كنت أحلم بأن تكون لي مملكة سعيدة...لا يغيب عنها من أحبهم ولا تغيب فيها شمس الحرية...تحملني على أجنحتها فراشات ملونة تطوف بي الأركان...أكون فيها ملكا يحلق في السماء عاليا...ألتقي فيها بربي السماء...أدعوه ليتذوق معي طعم البوظة اللذيذة...أرى فيها وجهه ويكشف لي سره...أحكي له قصصا عجيبة...عن سالي وساندريلا والأميرة النائمة...أطلب منه أن يكون أكثر قربا...يحميني من ظلم الأشرار وصمت الأخيار...من سلطان السقوط والانفصال والموت الأبدي...أحكي له حكاية ثرلي في حارة المظاليم...محاكمة الثعلب وحصان طروادة...ويخبرني عن سر موت كيلوباترا وعن أحوال أناس مروا من هنا...وعن آخرين أخذهم البحر منا...وأعود لأعاتبه فإما أن يأخذني معه بعيدا ويكون معي دائما أو يتركني أهاجر المدينة...تلك كانت أمنيتي وأنا طفلة صغيرة... أرادت "ليا" أن تضع حدا للأسرار التي كانت إلى عهد قريب استفسارا...قررت أن يكون اليوم مختلفا عن باقي الأيام...من جهتي قبلت الدعوة كما قبلت أن أضع نظارتي جانبا...حتى أرى "ليا" والمكان بعين مختلفة...إلا أنه انتابني شعور بالخوف عندما اقتحمت عتبة الباب...خشيت أن تستقبلني مفاجآت غير سارة...أفقد فيها توازني...أو تتيه عني "ليا" العزيزة...انتبهت الأخيرة لردة فعلي التي يبدو أنها كانت متوقعة...فقلت لها: "أرجوك يا "ليا" لا تغيري اتجاه بوصلتك نحو المجهول...فقد سئمت توديع الأصدقاء...كما سئمت الانتظار وتساقط الأوراق...ابتسمت لي "ليا" مرة أخرى، فراحت تمسك بيدي ككل مرة... إن روعة المكان ودفئه...جعلني ألقي باللوم على الأبواب الموصدة التي تحجب الرؤى عن الأنظار...فكيف لي ألا أكتشف المكان قبلا رغم تواجده في مدينتي؟...كيف للأبواب أن تخفي جمال المكان...وروعة الأنوار والألوان؟...رائحة البخور العطرة تتصاعد إلى رب السماء...وأصوات فاتنة متناغمة زادتها أنامل تعزف على آلة البيانو سموا...أغنية "الليلويا Alléluia" أعطت للمكان بعدا آخر غير الذي يوجد في الخارج...فحبي للحن الجميل جعلني أسبح بعيدا عن عالمي، فأجمل ما سمعته ذاك اليوم هو: " كيف لك إن كنت لا تحب أخاك الذي تراه، أن تحب ربك الذي لا تراه؟... رددنا معا لازمة "أنت وحدك الوفي الذي لا يتغير...بعد أن ضاع كل الوفاء"...سالت فيها دموع ليست ككل الدموع...سئمت الاضطهاد بسبب الاختلاف...وجدت في الأغنية الجزء المبتور من قصة غابت عن فهم المريدين...حاول الشيخ إقناعهم بحتمية المصير...وجدت في المقام فصلا كاملا من درس تخلف عن مقررات المدارس التعليمية...أخفت بذلك أنصاف الحقائق معاناة الكثيرين...حاولت الرواية جعلنا نتشابه رغما من اختلافنا... بدأ الغموض يتلاشى...شيئا فشيئا...وبدأت الأفكار تأخذ مكانها...فهمت سر الروابط المتينة التي كانت تجمعنا...وفهمت سبب تعب "ليا" وحزنها العميق، الذي يشبه كثيرا حزن "ثرلي" الضائعة بين الحقيقة والوهم...كما فهمت سبب مناداتها لي باسم ثاني عير اسمي...إلا أنني سررت كثيرا باعترافها لي...الذي اعتبرته دعوة صريحة لمحبة دائمة...زادتني احتراما "لليا" وعشقا للاختلاف...بل زادني تشبثا بقضية "ثرلي"...الوجه الآخر لقضيتي بل قضية "ليا" الإنسان: فلا يمكن أن تبقيا كالخفافيش في الظلام...فلندع الدين للديان والوطن "لثرلي" و"ليا" والإنسان...إنها رسالة وفاء وإخلاص...أحملها لمن يهمه شأن الخلاص...كما أهديها أيضا لمن لا يهمه أمري...يتبع.