التاسعة والعشرون من شهر آذار 2016...إنه موعد تاريخ ميلادي...يصادف هذه السنة موعد مقابلة لجنة الفصل والحسم...لإصدار الحكم النهائي في حقي...هل سأعتلي منصب المسؤولية وفق المرسوم؟...أم سأبقى على الهامش مدى الحياة وفق القرار المعياري؟...إنه طقس من طقوس العبور في مملكة الجنون...وتأشيرة للمرور نحو النخبوية والسلطوية...إجراء يبدو في ظاهره منصفا وفي جوهره تحقير للمنطق ولذكاء الرأي العام وإرادته...هكذا جرت العادة في مؤسستنا العتيدة...كل شيء يكون محسوما في أمره قبل انطلاقه...الشكل يبقى سيد الموقف مقابل الجوهر... عيد ميلادي...موعد اللقاء...لضمان البقاء...بداية فصل من فصول المسرحية...حسب معايير فيودالية خاصة وطقوس عبور موروثة، أبا عن جد...لا مجال للعبث فيها أو التخلي عنها...معايير بملامح دقيقة يحكمها منطق خاص بها...وفق شروط محددة للإرادة وقواعد محددة لمستقبل الإدارة...حدود رفيعة تفصل بينك وبين الآخر...بين العالم العلوي والعالم السفلي...إنها مقاييس مشروعة بالنسبة للجنة الانتقاء...تدخل ضمن منهجية إعادة الإنتاج...وتوسيع دائرة الأوفياء...لا يسمح بدخول الغرباء...أو الثائرين مثلي...ما دامت هناك تعليمات سامية تضمن الحفاظ على الثابت وتتصدى لكل متغير...السكون والثبات لهم والتغيير يبقى للحالمين فهو مستحيل وقوعه... ما أصعب أن تكون موضوع انتقاء...وأنت تعرف ما ستسفر عنه النتائج وما ستداوله اللجنة عنك مسبقا...إلا أنها تبقى تجربة فريدة على المرء أن يكون بطل تناقضاتها...أن يصادف الانتقاء عيد ميلادي...شيء لم أكن أتوقعه...يوم ليس ككل الأيام...كنت أفضل أن أختلي بنفسي وأصلي صلواتي من أجل البشرية...ويغني لي العندليب سنة حلوة يا... التوتر والتوجس يبدو واضحا على وجه المرشحين...رغم الجو الحميمي الذي حاولت الإدارة سيطرته من خلال تقديم الشاي والقهوة والحلويات المشكلة للمتبارين...لتشكرهم على المشاركة وتأثيث الفضاء...الكل ينتظر المجهول...يترقب اختبار نزاهة اللجنة...المرشح ينتظر بشغف ويتساءل عن ماهية المعايير التي لم تكن واضحة المعالم لديه...في مباراة ذات ثنائية الاتجاه...تكاد تختلط عليك الأمور وأنت تتابع مجريات الأحداث: من هو المتباري الحقيقي، المرشح أم اللجنة؟...الأول يرى في السؤال جوابا عن اللجنة...بينما ترى الأخيرة في الجواب فخا للمرشح الغير مرغوب فيه...الكل كان مركزا على طبيعة السؤال وتدوينه لقراءة توجهات اللجنة لقياس درجة التغيير...باحثين عن المصداقية من خلال نوعية السؤال...وكيفية طرحه...بل البحث عن لمسة الوافد الجديد...في الحقيقة كان امتحانا ذو بعدين...محدد لطبيعة العلاقة المستقبلية بين الرئيس والمرؤوس...من يا ترى سينال إعجاب الآخر؟ المتبارون أم لجنة الانتقاء؟...هذا هو السؤال الذي ساد الطابق العلوي..طيلة أسبوع من الشهر الماضي... السيد يتوسط المجلس والسيدة المديرة بجانبه ترحب بالمرشحين...المايسترو النحيف ذو العصا السحرية المتحكم في مجريات الأحداث بحكم الأقدمية في المجال على اليمين، وصديقه الرقيب في أبهى حلته على الضفة الشرقية ينتظر قدوم المنعم عليهم ليزكي عبورهم...وينال من "ثسنى" و"ثرلي" ومني... الساعة تشير إلى الحادية عشرة وعشرون دقيقة...ندي علي لعبور المدخل الرسمي حتى ألعب من جهتي دور تأثيث فضاء تكافؤ الفرص...ومن جهتهم ترديد لازمة " لا تتعبي نفسك...لست في الموعد"...تأملت القاعة التي كانت تشبه كثيرا قاعة الولادة القيصرية...مليئة بالأشعة السلبية الآتية من الجوانب...رغم الطاقة الإيجابية التي كانت تشع من المركز... "يمكن أن تشرعي في تقديم عرضك سيدتي"...هكذا خاطبتني السيدة المديرة بعد أن رحبت بي...بينما كان الآخرون منهمكين في قراءة تفاصيل ملفي...بحثا عني بين الأوراق...عوض قراءة ملامحي ونبرات صوتي...ضننت حينها أن نباهتهم ستدلهم على تاريخ عيد ميلادي...لكن انشغالهم بأمور أخرى بعيدة عن اهتمامي جعلتهم يغفلون أهم شيء يضمه ملفي الشخصي...مفارقة غريبة تستدعي التأمل: لماذا لا تهتم اللجن بالأمور التي تجعل منا الأهم؟ والتي من خلالها تصبح هي الأهم؟... الكلمة لك...أضافت السيدة المديرة...لامست في نظراتها الدعم والابتسامة...من باب الفضول نظر إلي السيد ليراني جيدا ويشرع في تقييمي...إلا أن ذكاؤه أبى أن يحيله على تاريخ ميلادي...ربما لأسباب خارجة عن إرادته...بسبب تأثير الأشعة المنبعثة من الجوانب... أشكركم على منحي الفرصة رغم أنها شكلية في الأصل...فقبل الخوض في تفاصيل العرض موضوع حضوري...اسمحوا لي أن أعرج على أمر أكثر أهمية بالنسبة لي...أن أتقاسم مع الوافد الجديد الهم الذي أحمله قبل أن يحملني...أبلغه رسالتي الواضحة وضوح الشمس...في حضور المايسترو النحيف...وأمام من قام بطعني في ظهري وقذفني بالاسم...يقول عني الجبار فظة غليظة الطبع...شرسة عدوة الفئران...حريتها تكمن خلف القضبان...حتى يحجبني عنك وعن الأنظار...اقتنصتها فرصة ليس طمعا في المنصب...فما جدوى المناصب حينما يغيب المثل...لكن طمعا في الإنصاف من شر رفيق المسار...هذا ما ألمني سيدي...الحرية لا معنى لها خلف القضبان...والسياج يبقى سجنا حتى ولو كانت قضبانه من التبر...والتباري بدون أخلاق تبقى نتائجها مجرد لغو...علمتني الحياة أن لكل داء دواء إلا العبث والندم ثم الموت...لكل مرحلة تاريخ يجب أن يميزها...وسيد آخر يقودها...فهذا زمنك وأنت سيده... إن حضور الوافد الجديد شجع الزملاء أن يخطو الخطوة مثلي...بحيث كان شرطا أساسيا للتباري...آملين في غد أفضل...يضمن لهم كرامة الإنسان...فقبل أن آخذ قراري هذا...فكرت وتأملت كثيرا...سألت الأصدقاء عما إذا كانوا يحبذون فكرة رؤيتي في المنصب المعلوم...الأصدقاء كثيرون لكن الجواب واحد...الاستغراب يبدو واضحا على محياهم...فهمت من خلال نبرات صوتهم أن الأمر خطير...والمنصب غير مناسب...والمهمة شاقة...خيوطها ومسالكها معقدة...شعارهم "معذب من كان مستقيما...فتنكسر بالحيف ضلوعه"...أحزنني يأسهم...لا لأنني غير مناسبة للمنصب في نظرهم، ولكن لما آلت إليه الأوضاع العامة في إدارتهم... سيدي...انتظرت كما انتظر غيري قدومك...شكرا لكونك جئت...رغم الانتظار الطويل...ساقتك الأقدار نحوي...لدحض معا نظرية الغلبة للفساد...وأنا كلي إيمان أن قوة وجود الإنسان والأشياء في حياتي لم يكن يوما خالي المعاني...جئتك لأتقاسم همي...وهموم "ثرلي" الضائعة بين الأمس والغد...أطلب منك سعة صدرك...وأن تسمع مني كلماتي من البداية حتى النهاية...كن عادلا منصفا...فمن أجلك أنت وحدك أتيت راجية خلاصي من اللذين جعلوا منهم قبلك حراسي...ومنحتهم اليوم سلطة تقييمي...لم تدر أنهم لي الخصم والحكم...مهمة صعبة تنتظرك سيدي...فكن حذرا يا حديث العهد بنا...لم يتبق من الأمل سوى شعرة رفيعة بين الحياة والانتحار...قبل مجيئي هنا ترددت كثيرا...لم أصغ لنداء الأصدقاء لترك المجال مادام المجال لغيري مسطرا...ولم أبال للحكم القاسي الصادر عن الجبار...الذي حسم في الخواتم منذ البدايات...ادعى أنني لست الشخص المناسب للمشاركة في اتخاذ القرار...بحكمه هذا قتلني مرتين...رغم ذلك جئت...فليست كل الأيام تشبه عيد ميلادي...وجدت نفسي مجبرة على ارتداء اللباس المسرحي...جمعت شعري ونزعت المساحيق عن وجهي...حتى أبدو طبيعية ويستطيع الكل رؤية ملامحي الأمازيغية...جئتكم لا لأرقص الرقص الذي عاهدتموه...أو أغني ليلي يا ليالي كما تمنيتم...بل لأرشق بالحجارة نواياهم...أن أطالب بحق الوطن في تحملي ثرلي مسؤولية القرار...بل لأجرب نزاهتكم وأرى في أفعالكم شفافية الأقوال...رغم الصعوبات والحواجز أتيت...رغم رفضكم لي جئت...لألمس عالمكم المزيف...وأخترق برجكم العاجي المسيج...أتحدى بذلك الجبار...وأقول للمايسترو رفيقي...يمكن لعصاك أن تحرك بها ما تشاء...أن تغير مجرى التاريخ...أن تضع حدودا وتصبح إلها...أن تجعل كل شيء حولك يدور...أن تستولي على عقل الوافد الجديد...أن تضغط عني حتى يتدخل سايلا الصديق...فلن تستطيع عصاك إخضاع ثرلي لإرادتك ولن تكون موضوع ابتزاز...أقسم بحب هذا الوطن العزيز أن أبقى وفية للجنون حتى أحميه...فالحماية من شرك واجب...فبأي حق تصادر حق ثرلي في المشاركة يا رفيق ؟...(يتبع)