يروى عن العالم الصوفي نصر الدين، قصة ذلك الشخص الذي كان يصرخ طالبا النجدة من العامة وهو على وشك الغرق. فأقبلت الجموع لإغاثته مرددين " أعطينا يدك لنتمكن من نجدتك" . لكن الغريق ظل مترددا ولم يستجب لهم. غير أن أحدهم فطن لأسباب عدم استجابته للنداء، في هذه اللحظة الحرجة، فبادره قائلا، "خذ بيدي يا رجل" . فآنذاك تشبت بها على الفور، متأخرا بعض الشيء. فمات المسكين غرقا، نتيجة لذلك، لكونه تعود دائما الأخذ الكثير بدل العطاء... هي حال سيكولوجية الكائن الريعي الذي لا يؤمن بمبادئ العطاء والإيثار والتضحية كما توسع فيها الأنتربولوجي الفرنسي مارسيل موس على حساب الغنيمة و الرعي والكلاء والماء. يعنى النهب والمصادرة والترامي على المال العام. في هذا السياق ينصح الأديب اللبناني جبران خليل جبران كل من يشعر في قرارة نفسه أنه أقل شأنا من منصبه الوظيفي أو السياسي" إذا لم تقدر أن تشتغل بمحبة وكنت متضجرا ملولا، فالأجدر بك أن تترك عملك وتجلس على درجات الهيكل تلتمس الصدقة من العملة المشتغلين بفرح وطمأنينة. لأنك إذا خبزت خبزا وأنت لا تجد لك لذة في عملك، فإنما أنت تخبز علقما لا يشبع سوى نصف مجاعة". مضيفا" المؤمنون بالحياة وسخاء الحياة هؤلاء لا تفرغ صناديقهم وخزائنهم ممتلئة دائما". ويقول الشيخ شعراوي "إذا وجدتم رجل الدين يستميت على منصب، فلا تولوه". تذكرت قصة الغريق ومبادئ العطاء والتضحية ومجتمع العمل واقتصاد الريع وانأ أتابع تفاعل الرأي العام الوطني و الفيسبوكيون خاصة مع ما أصبح يطلق عليه " خدام الدولة" وأردت بمقالي هذا أن أثير بعض مميزات البعد السيكولوجي للكائنات الريعية، مساهمة مني في أثراء النقاش العمومي الهادف ،من خلال إبراز العناصر الست الآتية : - العلاقة التصادمية للثقافة الريعية مع الحق في الكرامة والحلم الكبير. -سلوك الكائن الريعي في اعتبار الدولة بمثابة مرعى فيه عشب و كلاء وماء. - علاقة الفساد بخراب الأوطان. - كيفية اتخاذ قرار الفساد بناء على حسابات عقلانية للمنافع( العشب والكلاء والماء) والتكاليف المتوقعة عند الكائن الريعي. - أبعاد ثقافة الفساد والغنيمة بصفتها ذهنية خراجية متخلفة تنفي الدولة المدنية الديمقراطية وتمنع ولوج مجتمع المعرفة. - معيقات مؤسسات الدولة في المراقبة وفي اختراق وتفكيك الكيانات الريعية بصفتها "خلايا نائمة" خطيرة. 1- العلاقة التصادمية للثقافة الريعية مع الحق في الكرامة الإنسانية والحلم الكبير الظاهرة الريعية ظاهرة معقدة ومتشابكة تحتاج إلى تبني مقاربة شمولية جديدة من اجل الإحاطة بها والوقوف على كل تشعباتها ومسبباتها و تجلياتها ونتائجها السلبية على تقدم المجتمعات ورقي الأوطان وعزتها بين الأمم. بالفعل، كثيرة هي النظريات والدراسات والبحوث والتقارير التي تناولت الفساد في شتى جوانبه المؤسساتية والقانونية والإدارية والاقتصادية والدولية . لكن رغم وجاهتها المعرفية غالبا ما نجدها تغفل جانبا مهما من الحلقة المفقودة ألا وهي الأبعاد السيكولوجية والذهنية والنفسية الخفية في الكائنات الريعية وفي الدولة الريعية أساسا وآثار ذلك على ضمان حقوق الإنسان المهدور في التنمية والكرامة. الكرامة كما عرفتها الراحلة فاطمة المرنيسي، بعبارة بليغة وأنيقة، هي " أن يكون لك حلم، حلم كبير يعطيك رؤية، عالم يكون لك فيه مكان، حيث يمكن أن تؤدي مساهمتك إلى تغيير الأشياء ، مهما كانت مساهمة بسيطة". ألا يمكن والحالة هاته اعتبار الكائن الريعي سارق أحلام كبرى قبل أن يكون مبدد أصول وممتلكات في ملك الشعب ؟ مادام حلمنا الأوحد هو أن يبقى لنا وطن راق وواسع بسعة الحلم ، يعني مغرب يتسع للجميع ويحمل وهجا ديمقراطيا حقيقيا. 2- سلوك الكائن الريعي اتجاه الدولة باعتبارها بمثابة مرعى فيه عشب و كلاء وماء تمثل ثقافة الريع المتجذرة في الدولة الريعية نموذجا بارزا للهدر الدرامي لأصول البلاد وثرواتها، من خلال سلوكها الشاذ في تراكم الثروة و النهب و المصادرة واقتسام الغنائم بين العصبيات الأقوى نفوذا واشد شوكة، على حساب مشروع الأمة التنموي في ولوج مجتمع المعرفة. ولقد كتبت سابقا وضمن هذا المنبر أن ثقافة الريع اخطر من عائد الريع ذاته وان ثالوث الاستبداد والفساد والإرهاب -إن لم يتم محاربته - يطارد كل مشاريع التنمية ، وينتج عنه الفقر والجهل والمرض، الشيء الذي يؤدي إلى شلل قدرات التعلم والخلق والإبداع في المجتمع. إنها الدينامية الخبيثة والمفرغة للثالوث. لقد تحول الريع من المفهوم التقليدي إلى منظومة مؤسسية متكاملة قادرة على "ترييع" أي عملية اقتصادية وسياسية وإدارية وتجارية وثقافية أو علمية وتحويلها إلى امتيازات معينة تمنح برعاية الدولة. لذلك يبدو من الصعب فهم مظاهر الفساد بدون فهم خصائص ثقافة الريع المتفشية في المجتمع التي تغرسها الدولة الريعية في "خدامها" وكذا في نفوس باقي أفراد المجتمع فنجد أن الطرفين كليهما عامة ما يتجهان للتعايش والتطبيع مع الفساد. فهي وليدة تطور تاريخي يعتبر أن مربع الدولة بمثابة مصاد خاص Chasse gardée ، وفق الذهنية الخراجية المتخلفة التي تعتبر الدولة بمثابة مرعى فيه عشب و كلاء وماء. والكائن الريعي كائن أناني انتهازي نفعي لا يهمه مستقبل البلاد وتطورها ورفعتها كأني به يردد وهو ممسك بشماله جواز سفره الأجنبي " أنا ومن بعدي الطوفان " أو" فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَاليهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ( الحاقة:19-29 ). لذلك نجد أن الفساد يعد احد مسببات الأساسية للتدهور الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي والعنف وعدم الاستقرار، يعني واسطة الثالوث الخطير المذكور أعلاه. 3-الفساد ظلم اجتماعي يؤدي إلى خراب الأوطان كان ابن خلدون حقا سباقا في تحديد العلاقة بين الجاه والمال وعلاقة الظلم بخراب العمران . وكم كان ابن خلدون دقيقا في فهم وتحليل ظاهرة الفساد- باعتبارها ظاهرة تاريخية - ضمن نظريته المتكاملة والشاملة عن تطور الدولة، معتبرا أن الفساد مؤذن بتسريع هرمها و خرابها ،مقدما مبررات علمية مستفيضة ومتينة عن عمر الدولة وتفاوت مراتب السيف والقلم وتجارة السلطان وكيف تكون هذه الأخيرة مضرة للرعية ومفسدة للجباية ،فضلا عن معالجته لطرق خلل الدولة وكيف يؤدي الفساد حتما إلى الفقر والتذمر، سواء عند عامة الشعب أو حتى المستفيدين منه. عندما يحسون - إن كان هناك ضمير يوبخهم وهم يترامون على ممتلكات وعقارات وأموال وحقوق ليست لهم - أنهم ارتكبوا إثما كبيرا في حق وطنهم ومشروع تقدمه . فالوطن في ما يتعلق بالريع لن يكون أبدا رحيما في حق الكائن الريعي الذي يسعى، من خلال سلوكه الجانح، إلى تدمير مشروعية الدولة بدل خدمتها - إنها الخيانة الكبرى ولغة "عفا الله عما سلف" لا تقبل في هذا القاموس . ويقول الحديث الشريف " من غشنا ليس منا" . ويقول الإمام علي ابن طالب رضي الله عنه " ما رأيت غنى فاحشا إلا و بجانبه حق مضيع". ينبغي القول أن الفساد اليوم وصل إلى مستوى عال من الذكاء يعود إلى ذكاء ممارسيه وحيلهم ووجود بيئة ملائمة ومغذية لتفشيه وتطوره ، الشيء الذي دفع إلى انتشاره بشكل واسع وتغلغله في كل مرافق الحياة ودواليب الدولة ،غير أن هيمنة الفساد وثقافة الريع توجد في تضارب دائم مع اقتصاد المعرفة ،وهذه مفارقة جوهرية في حكامة الدولة ما فتئت تعاني منه البلدان العربية بالخصوص ،في أفق القرن الواحد والعشرين. 4-الفساد قرار يتخذ بناء على حسابات عقلانية للمنافع والتكاليف المتوقعة عند الكائن الريعي الريع صيرورة جدلية يرتبط فيها عضويا الفساد الاقتصادي بالفساد السياسي عبر المبادلة بين النشاط السياسي والغنى الاقتصادي . ويشير هينتينجون إلى نمطين جوهريين في المبادلة بين المنظومتين : نمط1:توفر الثروة – قلة الجاه ومراكز السلطة السياسية- تستخدم الثروة للوصول إلى مراكز السياسة. نمط 2: سلطة سياسية – قلة الثروة – تستخدم السلطة السياسية من اجل تحقيق الثروة. ويرى آخرون أن قرار ممارسة الفساد يتخذ بناء على حسابات عقلانية للمنافع والتكاليف المتوقعة وهو ما عبرت عنه روزا كرمان بان الجنوح للفساد يكون عاليا عندما يكون احتمال الإمساك بالمقترف للجريمة واحتمال متابعته وإدانته ضعيفا . فهذه الحالة يكون الإقبال على الفساد والتطبيع معه عاليا مادام العائد المتوقع يفوق الخسارة المتوقعة عند الجاني. كما تبرز معادلة روبير كليتكارد أن الفساد يزداد وينمو في بيئة تتميز بالاحتكار وهيمنة السلطة التقديرية في اتخاذ القرار ، زيادة على غياب المسؤولية والمحاسبة . 5-ثقافة الفساد والغنيمة ذهنية خراجية متخلفة تنفي الدولة المدنية الديمقراطية وتمنع ولوج مجتمع المعرفة هناك عدة دراسات أوضحت آثار الفساد السلبية على تنمية كفاءة الإنفاق العمومي ، فضلا على قدرة الفساد في تعثر مشاريع البحث العلمي وبلورة مشروع مجتمعي للتنمية الشاملة والمندمجة . وفي هذا المناخ تسود قيم وخيارات الدولة الغنائمية التي هي في الأساس نفي للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي شكلت المطلب الجامع للحراك العربي من المغرب إلى الخليج . ثمة سمة إضافية قوية للدولة الريعية العربية تبرز في قدرتها على إنتاج وإعادة إنتاج ثقافة الغنيمة والريع في المجتمع، الشيء الذي ينجم عنه ميلاد الكائن الريعي المتميز بديناميته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية حيث يصبح قوة فاعلة ومؤثرة في البنية الاجتماعية برمتها ، فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها والدفاع عنها من خلال مقاومة تغييرها. ولقد أوقع تجاهل هذا الجانب سواء من لدن الباحثين الاكادميين ومن ورائهم القادة السياسيين في مأزق مهول أدى إلى هدر كثير من الجهد والوقت والموارد على حساب التنمية. ولقد أدت الذهنية الخراجية المتخلفة التي تعتبر الدولة بمثابة مصاد خاص إلى إحداث وضعية مأساوية و إلى كوارث عديدة على الإنسان المقهور في وقت أصبح فيه الكائن الريعي غير قادر على تقديم أساليب دفاعية محاولة منه في مجابهة وضعيته المهزومة سياسيا وأخلاقيا. وهذا ليس مستغربا في زمن الأزمة المتجلية في تزايد البطالة ،لا سيما عند الشباب حملة الشهادات، و في استفحال المديونية وتعميق التفاوت الاجتماعي وفي حالة زواج السلطة والإدارة والتجارة وتضارب المصالح وضعف الرقابة والمساءلة والشفافية والإفلات من العقاب وغياب المعلومة وتكوين قطاع خاص زبائني يقتات من الريع، إما في شكل أراضي وتفويت عقارات بأسعار بخسة، أو عن طريق عقود وصفقات كبرى مجزية وغير شفافة ودعم مباشر وغير مباشر. وهي كلها عوامل تكرس ثقافة الريع وتمنع بالتالي ولوج مجتمع المعرفة والخلق والإبداع. 6-معيقات مؤسسات الدولة في المراقبة وفي اختراق وتفكيك الكيانات الريعية بصفتها "خلايا نائمة" خطيرة دينامية الكيانات الريعية تتمثل في قدرتها الكبرى على إفشال قدرات المجتمع في المساءلة والشفافية وتقويم السياسات العمومية و المخاطر المحدقة به. هل تستطيع المحاكم المالية و باقي أجهزة الرقابة والتفتيش والقضاء نفسه، بحكم السلطات المخولة لهم جميعا في الدستور وبنوده حول الحكامة الديمقراطية وربط المسؤولية بالمحاسبة ، من اختراق هذه "الخلايا النائمة" وتفكيكها والتحقيق معها خدمة للتدبير العمومي الجديد المبني على المشروعية و الفعالية والنجاعة والنتائج والأداء، مادام الفساد ليس قدرا محتوما حسب النطق الملكي ؟ هل سيعتذر "خدام الدولة" للدولة وللشعب عما اقترفوه في حقهما إنسانيا وأخلاقيا واستراتيجيا و ماليا ؟ وهل فعلا أصابهم شيء من الحرج أو الندم بحكم مواقعهم الاعتبارية السياسية أو الإدارية أو العلمية اتجاه ما اقترفوه في مجال نهب و تبذير ومصادرة المال العام، علما أن مراقبة هذا الأخير تعد حقا من حقوق الإنسان الجوهرية ، وفق المواثيق والتصاريح العالمية ؟ هل تستطيع إدارة الضرائب والحالة هاته العمل على مراجعة أثمان كل العقارات المفوتة و إنصاف الخزينة العامة للمملكة ؟ لكن من يراقب من ومن يحاكم من ؟ إنها بالفعل مأساة الوجود المتخلف للكائنات الريعية!!! *كاتب وباحث في الاقتصاد السياسي للحكامة