هل سؤال القيم جديد؟تاريخ الفكر يقول: لا......لكن الجديد هو زاوية النظر وأهداف المقاربة ونوعها ؛بمعنى أن موضوع القيم هوذاته الإنسان بشكل عام .إنه اختزال لقضايا الوجود والتفكير فيها؛ فكل الصراعات التي عرفتها البشرية تمت تحت مقولة (القيم)، بل إن صراع المعتقدات هو صراع قيم: وكذلك صراع الأفكار والمواقف والرؤى والطموحات (بما في ذلك الطموحات الاقتصادية). بناء على ذلك نطرح التساؤلات الآتية: ما نوع المقاربة الممكنة لموضوع القيم في علاقته بالتحولات المجتمعية ؟و هل القيم ذات طبيعة موضوعية تتعالى عن الزمان والمكان، أم إنها ذات صلة بالتجربة الفردية والحس المشترك؟،(لا معنى لها خارج التجربة الفردية؛ أي خارج التجربة المباشرة). ما الذي يعنيه الأخذ بالاختيار المنهجي الأول الذي يعتبر أن للقيم وجودا قبليا ودائما ومستقلا؟ ..معناه أن هناك خزانا قيميا حددته الأطر الاجتماعية والدينية، وأن هذا الخزان هو المحدد لصفة الانتماء.أما الأخذ بالاختيار الثاني فيجعلنا نفهم تلك المواقف المتمردة على المخزون القيمي(الدين والتقاليد والأعراف والعادات)، وقد نفهم خلفيات سلوكات معينة من قبيل التمرد على شعيرة الصيام، أو اضمحلال التضامن الاجتماعي،أ و العنف في الفضاءات العامة المرتبط بفهم خاطئ لمعنى الحرية والحق. هذه الثنائية المنهجية الحادة تسائل مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية ؛ فهل الصراع الذي يراه البعض متفاقما بين قيم تقليدية وقيم حداثية يرجع إلى طبيعة التربية ( المثالية) التي يتلقاها الطفل واليافع قبل أن يشتد عوده، وتبتدئ تجربته في الينعان ليجد نفسه أمام صراع قيم:قيم متعالية عن الزمان والمكان (مثالية)، وأخرى تجريبية ذاتية تجعله يشكك في قيم التربية (التقليدية)؟. إذا عدنا إلى معجم القيم كما صاغته التربية التقليدية ماذا نجد؟ سنجد قيما عامة مرتبطة ب(المثاليات) مثل البركة والمكتوب...،و المعقول(على مستوى الممارسات)، و الخير والصبر والقناعة( على المستوى الفردي. و التضحية والطاعة (على المستوى الاجتماعي). إذا اعتمدنا مفهوم (الحس المشترك) فإن الملاحظات العامة تقول إن هذه القيم اليوم محل تشكك ..لماذا؟ الرصد الذي تم إنجازه من قبل عدة دراسات يؤكد أن الدين هو المصدر الأساس لقيم المغاربة ، لكن التحولات العامة التي يعرفها الكون و(المجتمع) فرضت أطرا آخر ى للمنافسة . فهناك : 1- القيم القادمة من قارة الحقوق؛ إذ ينبغي ألا ننسى أن جوهر حقوق الإنسان قائم على القيم ( قيمة الحرية- الكرامة- التسامح- الديمقراطية- المشاركة....)..علما أن بعض هذه القيم(قد) يقع على النقيض من تلك التي ترسخها القيم (التقليدية)؛ 2- القيم ذات الصلة بالعولمة والشبكات العابرة للأوطان والمجتمعات. في السابق كانت القيم مجالا للتفاوض والتفاعل مع فئة محدودة ( المثقف- الرحالة - الدبلوماسي..) لأن من يحتك يقترض ويتفاعل. لكن مجال التفاعل، اليوم، مفتوح أمام الجميع، وسلعة القيم محل تنافس..هناك عرض جاذب ومحفز ومحقق للطموحات الفردية. لذلك من الطبيعي جدا أن يقع التنافس الحاد في هذا المجال، فما يحصل بالضرورة هو تنافس في مجال القيم . صورته تبدو في صيغة ما نوية حادة (تقليدية الخطاب وحداثة الممارسة)....كما تبدو في صورة نفعية ضمنية (توظيف القيم حسب السياقات والحالات : الحداثة في علاقة الفرد بذاته، والتقليدية في علاقته بمحيطه الأسري أو المجتمعي). فكيف يسوغ الفرد الجمع بين الأصالة والمعاصرة ما لم يكن من دعاة المانوية وممارسيها؟ . من ينتج القيم إذن؟ هناك اليوم فوضى الإنتاج بتعدد قنواته، ومرحلة الفوضى تكون أحيانا مدخلا لإعادة التشكيل، ومرحلة لبناء تعاقدات جديدة إن لم يتم التوافق عليها بوضوح فإن الممارسة سترسخها واقعيا. لنتأمل الوضع المغربي حيث تسود المفارقات الحادة . صورة ذلك أن هناك مؤسسات للتنشئة الاجتماعية ذات صلة بالقيم التقليدية ( المدرسة العمومية- الأسرة- الإعلام الرسمي)؛ لكننا نجد في الوقت نفسه أن هذه القيم التقليدية تجاور القيم (الجديدة)، وهو أمر يتجاوز هذه المؤسسات بحضوره في فصول الدستور وابوابه، أو بعض الوثائق الرسمية المهيكلة مثل الكتاب الأبيض أو الاختيارات المحددة للمقررات الدراسية. وإذا أردنا الوقوف عند مثال دال فإننا سنختار مجال التعليم حيث إن التربية على حقوق الإنسان التي تم اعتمادها منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي في المؤسسة التعليمية المغربية تبرز بجلاء صورة هذه الثنائية الحادة ؛ فقيمة الديمقراطية، وقيمة التربية على حقوق الإنسان.وقيمة التربية على المواطنة أفضت إلى ترسيخ ( قيمة الاختيار- قيمة الإنصاف- قيمة المساواة- قيمة الكرامة..) ،وهي قيم مناقضة لقيم الطاعة في مختلف تجلياتها. وإذا أردنا توسيع دائرة الأمثلة فإننا سنتساءل عن علاقة قيمة الكرامة أو قيمة الاستحقاق بقيمة المكتوب أو غيره ؟. كل ماسبق يندرج ضمن مفهوم أعم هو: الهوية. وككل مفهوم فإنه محل اختلاف، لذلك نتساءل: كيف يمارس المغاربة هويتهم؟ هل بالاعتماد على القيم باعتبارها معطى مستقلا عن الذوات أم يعيشونها باعتبارها تجربة فردية لاماهية لها خارج الذات؟ اجتماعيا نحن أمام الاختيارين معا؛لنأخذ مثال شخص منهله معجم قيم دينية كما يفهمها أو كما قدمت له في إطار تنشئة اجتماعية معينة، وفي إطار نوع من التربية (الروحية) تصنف البشر فئات واختيارات. أهل الحق والخارجين عنه.هذا الاختيار القيمي هو اختيار هوية في الوقت نفسه...هوية مغلقة تعتبر أن دخل الهوية وخرجها مغلقان، وأنه (ليس في الإمكان أحسن مما كان). وإذا أخذنا مثالا مخالفا، وليكن من دعاة الحريات الفردية . لاشك أن المعجم القيمي سيكون مستمدا من ثقافة حقوق الإنسان وفق فهم معين وانتقائي وتأويلي...سينعكس على مستوى السلوكات في صورة انتقاد لقيم المجتمع، ورفض لها، واتهامها بالرجعية والتخلف والتحكم...فمادامت القيم غير موجودة باعتبارها ماهيات خارجة عن الذات فإن القيم التقليدية والمؤسسية سترفض وستقاوم. إننا أمام هوية ذات دخل مفتوح وخرج مفتوح. تستقبل بحرية مطلقة كل وافد جديد، ومستعدة لإلغاء ما لا يتناغم مع اختياراتها.وهي في كل الأحوال هوية بدون شكل أوتشكيل. ما سبق يفسر لنا حيرة اختيارات القيم..لكن في الكثير من الأحيان تختلط الإحباطات الاجتماعية والاقتصادية مع حيرة الاختيارات القيمية ، لذلك نحن في حاجة اليوم إلى دراسات ترصد التحولات التي حصلت وتحصل في المجتمع مع الإجابة عن أسئلة من قبيل : أولا: ما الذي يقع بين مرحلة الدراسة، ومرحلة العطالة، ومرحلة التوظيف؟ الإجابة عن هذا السؤال ستمكن من تمييز ما يعتبره البعض صراع قيم عن ردود الأفعال الاجتماعية التي تمتطي صهوة القيم في مرحلة معينة، لتخبو بعد ذلك. ثانيا:ما الذي يجعل القيم التقليدية ذات (ضبط ذاتي قوي) يسمح لها باحتواء القيم الجديدة وإدماجها ضمن البنية المهيكلة لها ؟ ثالثا: ما صلة القيم بالاختيارات المجتمعية التي قد تكون قرينة الاختيارات الديمقراطية؟ أي المواقف أقرب إلى ما يرتبط بهذه الاختيارات؟. إذا حصلنا على أجوبة علمية عن هذه الأسئلة وغيرها سنكون قد قطعنا أشواطا مهمة في فهم العلاقة الممكنة بين التحولات والاختيارات القيمية، وأبعدنا نقاش القيم عن اللغة الوثوقية، والأحكام النمطية ، والمواقف المسكوكة التي يتقمصها بعض (الدعاة) ، كما سنبعدها عن المزايدات الذاتية، وأحلام اليقظة الفردية، وخطاب التهييج الذي جعله بعض الدعاة ( الجدد )رأسمال نضالي ، وعملة سهلة تيسر التموقع، وتشحن الصراعات الوهمية بجعلها مجالا خصبا لترسيخ الاختلاف الهدام، وعدم البناء لاختلاف منتج وديمقراطي ومواطن.