توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    «كوب-29».. الموافقة على «ما لا يقل» عن 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    نظام العالم الآخر بين الصدمة والتكرار الخاطئ.. المغرب اليوم يقف أكثر قوة ووحدة من أي وقت مضى    الدرهم "شبه مستقر" مقابل الأورو    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    حارس اتحاد طنجة الشاب ريان أزواغ يتلقى دعما نفسيا بعد مباراة الديربي    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    افتتاح 5 مراكز صحية بجهة الداخلة    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بنكيران: مساندة المغرب لفلسطين أقل مما كانت عليه في السابق والمحور الشيعي هو من يساند غزة بعد تخلي دول الجوار    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لمن يصوتون؟
نشر في هسبريس يوم 21 - 07 - 2016

محاولة في تحديد معالم السلوك الانتخابي للقاضي بالمغرب
يُعد علم السلوك الانتخابي فرع من فروع علم الاجتماع السياسي ، نشأ بالولايات المتحدة الأمريكية في القرن الماضي بغاية منهجية توخت دراسة الآليات المُمكنة من التعرف على اتجاهات وسلوكات الأفراد أثناء العملية الانتخابية ، وإذا كانت الممارسة السياسية قد شكلت على الدوام المجال الرحب لتطبيق أدبيات ومناهج السلوك الانتخابي ، فلا يوجد ما يمنع من استعارة كثير من هذه الأدبيات وإسقاطها على الانتخابات المهنية ومنها انتخابات ممثلي القضاة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية مادامت انتخابات الخاصة لا تختلف في طقوسها ومجرياتها عن انتخابات العامة سواء في المغرب أوفي باقي دول العالم الثالث .
وقبل التفرغ لاستكناه معالم السلوك الانتخابي للقاضي بالمغرب ، يجدر التذكير بمحطات تاريخية لا غنى عنها لفهم تطور السلوك الانتخابي القضائي ، ففي زمن لم تكن وزارة العدل ترى في المجلس الأعلى للقضاء إلا كونه جزء من حظيرة مديرياتها أو أقسامها ، كان القضاة المرشحون ينتقون من المصالح المركزية لوزارة العدل ويوحى إليهم بالترشح ويساندون بما يشبه التزكية ، وفي هذا السياق لم تكن للهيئة الناخبة أية إرادة في الاختيار ، فقد كان المسئولون الفضائيون يتكلفون بنقل رغبات التصويت للقضاة لينفذوها صاغرين ، ابتداء من انتخابات أكتوبر 1986 بدأت طريقة التزكية الإدارية تتصدع حين تمرد قضاة الدار البيضاء على وصاية الإدارة المركزية على الترشح ، ورغم أن القضاة استبشروا خيرا بالمتغير الجديد ، إلا أنهم في حقيقة الأمر خرجوا من تحكم ليدخلوا مثله ، فقد وقع اختراق نمط الاقتراع عن طريق المراسلة ، وتم توجيهه للتحكم في إرادة الناخبين بإرغام القضاة تحث الضغط المادي والمعنوي على تسليم أظرفة التصويت فارغة أو معبأة بالأسماء المراد انتخابها دون أن تختم أو ترسل بالبريد من قبل الناخب نفسه وفق ما يقتضيه القانون ، وكان على القضاة انتظار انتخابات 31 أكتوبر 1998 ليتأتى لهم لأول مرة تجسيد الاختيار الحر بالاختلاء في معزل والتصويت بكل حرية بوضع الظرف المتضمن لاختياراتهم في صندوق شفاف بمكتب التصويت ، ولكن ورغم استجابة الطريقة الجديدة للتصويت لمتطلبات الشفافية المنشودة ، فإن التساؤل ظل دوما منصبا على مدى تعبير القضاة عن اختياراتهم بما يوافق السلوك الانتخابي السوي ؟
من حيث العوامل المفسرة للسلوك الانتخابي ، صنف متخصصو علم اجتماع الانتخابات مجموعة من العوامل منها العامل العقاري والعامل الديني والعامل التاريخي والعامل الاقتصادي ، إلا أن أدق العوامل وأقربها إلى الحقيقة هي التي اعتمدتها المدارس النفسية والسلوكية ، و التي أرى أنها الأقرب لتفسير السلوك الانتخابي للقاضي المغربي .
مبدئيا يكاد يجمع المتخصصون على أن المرشح المثالي في عموم الانتخابات ينبغي أن تتوفر فيه ثلاث صفات رئيسية هي ؛ القُربproximité La والصيت La notoriété ثم المصداقية La crédibilité ، لذلك تجد أن المرشحين الأكثر توفيقا في الانتخابات هم الأكثر قربا من ناخبيهم والذين يتمتعون بكاريزما طاغية وبقدر من المصداقية لدى الرأي العام ، عوامل تقودنا لأن نبحث عن مدى تمثل القضاة المغاربة لهذه المعايير في اختياراتهم الانتخابية ؟
عادة ما تُميز النظريات الحديثة المفسرة للسلوك الانتخابي بين صنفين من الناخبين هما ؛ " الناخب الأسير " و" الناخب العقلاني " ، وقبل أن نموقع القاضي المغربي في نطاقما ، نشير إلى أن متخصصي علم السياسة تأثروا في صياغتهم لنظرية الناخب العقلاني بالمدرسة التقليدية - الحديثة في الاقتصاد ، فقد لاحظوا بأن التصويت لا يحدد بالأصول الاجتماعية للناخب ولا بانتمائه ولكن برهانات التصويت ، وهنا شبهوا الناخب بمستهلك يبحث عن كفايته الحدية ويوازن بين المنافع و التحملات التي تحملها البرامج المتنافسة وعلى ضوئها يحدد اختياره الانتخابي .
عمليا تعد استحقاقات 23 يوليو 2016 رابع عشر (14) استحقاقات مهنية يدلي خلالها القضاة المغاربة بأصواتهم وهي أيضا خامس (5) استحقاقات مهنية تجرى بشكل نزيه وحر منذ إلغاء التصويت بالمراسلة ، و لو تتبعنا هذه الاستحقاقات كما تلقينا مجريات جزء منها ممن سبقونا وكما عايشنا مجريات الجزء الآخر، لألفينا أن طريقة عمل المجلس الأعلى للقضاء ومجريات انتخاباته وبرامج مرشحيه ، لم تساعد على بلورة سلوك انتخابي عقلاني ، لذلك يمكننا الجزم بأن القاضي المغربي كان على العموم ناخبا أسيرا لعاطفته وتوجساته وإكراهاته و لأشياء أخرى بعيدة عن السلوك العقلاني ، حقيقة يمكن أن نتوصل إليها برصد لدوافع التصويت واتجاهاته منذ انتخابات 1964 إلى اليوم .
في ظل غياب المعايير الموضوعية في تديبر الأوضاع الفردية للقضاة ، كان تصويت القضاة المغاربة محكوما - باستعارة لمعايير الباحثين الأمريكيين ليبست ولاررسفيلد عند بحثهما في المشاركة الانتخابية - بنمطين للتصويت هما تصويت المصلحة وتصويت الخضوع ، وتحكم في سلوكنا الانتخابي محددان لازالا مؤثرين إلى اليوم ، هما المحدد الجهوي والمحدد القبلي ، فنتيجة غياب المعيارية تصر جميع مناطق المغرب وإلى اليوم لأن تكون ممثلة بالمجلس الأعلى للقضاء ، وعندما تسأل أي قاض لمن سيصوت يعالجك بأنه بفضل مرشحا شديد القرب الجغرافي منه يمكن أن يتواصل معه بيسر على أن يزكي مرشحا بعيدا ، ولو احتكم المجلس الأعلى للقضاء للمعايير الموضوعية لما أصر كل قاض أن ينتخب إبن جهته ، وهذا المحدد يتداخل مع محدد آخر هو المحدد القبلي ، والمعلوم في سوسيولوجيا الانتخابات بالمغرب بأن هذا المحدد يلعب دورا حاسما في حسم نتائج الانتخابات لارتفاع منسوب الأمية وطبيعة البنية الاجتماعية ، لكن المتتبع يعجب حقا حين تُهيمن القبلية على انتخابات مهنية مفروض أن من يصوت فيها هم خاصة الخاصة ، وفي مرحلة تاريخية وظفت هذه النعرة القبلية بشكل فج في انتخابات المجلس الأعلى للقضاء لعدة عوامل أهمها الرغبة في تكريس الريع القضائي وفي المحافظة على المصالح المهيمنة ورفض الاحتكام إلى الكفاءة معيارا للاختيار ، وأصبح القضاة يتحدثون عن جناح للشمال وآخر للجنوب بالتعبير الدبلوماسي الملطف و بالتعبير الفج عن مواجهة بين جبالة وأهل فاس والعدوتين من جهة والعروبية والشلوح من جهة ثانية ، وهذه الروح المقبتة لن تزول في اعتقادنا إلا إذا وصل القضاة إلى درجة عالية من النضج المهني تجعلهم يحتكمون إلى الكفاءة والمهنية في اختياراتهم وهو ما لن يتحقق أيضا إلا بتغيير عميق في العقليات ، فعلى سبيل التمثيل نجد أنه ومنذ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية إلى عهد قريب كان بروفايل المرشح للرئاسة هو أن يكون رجلا أبيض البشرة من أصول أنجلوساكسونية يتدين بالمذهب البروتستانتي ، واليوم شاهدنا كيف وضعت أمريكا أسودا في البيت الأبيض وتستعد في هذه الآونة لاستبداله بامرأة وغدا بجنس قد لا يخطر على بال ، ورأينا كيف وضع الناخب الأوربي عمداء مسلمين على رأس مدن وازنة كروتردام ولندن على العداء والكراهية للإسلام .
من محددات سلوك الناخب الأسير في الانتخابات المهنية للقضاة ، التصويت للمصلحي ، تصويت ترعاه الأقطاب الانتخابية الكبرى ويسهر المسؤولون القضائيون على الدعاية له ضمانا لاستمرارية الأوضاع المكرسة على الأرض ، ومؤداه أنهم يروجون بأن المصلحة في انتخاب أسماء بعينها لأنها تحقق استمرارية المكاسب ! مكاسب من ؟ فلا يخفى على كثير من القضاة أن المسؤولين القضائيين هم قطب الرحى في الدعاية الانتخابية للأسماء المحظوظة ، ففي جميع المحاكم ينادي المسؤولون القضائيون على القضاة المضمون ولائهم أو المستفيدين من كعكعة الريع القضائي ويهمسون في أذانهم بأسماء محددة غالبا هي التي تكون في قاع الصندوق ، وهنا يثار السؤال الأزلي حول الاستقلالية ، والغريب أن المواطن الأمي البسيط يتفوق في الوعي الانتخابي على القاضي ، فالمشهود أن المواطنين في المناطق الهامشية لايتوانون في أخذ المال من تجار الانتخابات ، لكن حين يختلون في المخادع العازلة كانوا يباشرون تصويتا سياسيا ، فكانوا في الماضي يصوتون على الأحزاب اليسارية ، أما اليوم فيصوتون على الحزب الذي يقود الحكومة ، والأكيد أن القاضي يجب أن يجسد اختياره بكل حرية دون توجيه من أحد ، ونحن في كل هذا لا نعيب المسؤولين القضائيين لأنهم كتلة انتخابية موحدة المصالح ، لكن عموم القضاة ليست لهم نفس إكراهات مسؤوليهم ، لذا يجب عليهم أن يرتقوا في سلوكهم الانتخابي بما يطور مهنتهم ومجلسهم التمثيلي .
ويطال الاستقطاب الانتخابي المؤسس على البعد المصلحي فئة محددة من القضاة ، هم الفئات التي تنتظر تغييرا في وضعيتها الفردية ، فمنهم القضاة المعينون في المناطق النائية الآملون في انتقال مريح ، ومنهم الطامحون في الارتقاء في المسؤوليات القضائية ، بجانب فئة لا تراعي الأخلاق المهنية ، وهي تصر على انتخاب مترشح من طينتها لأنه الأجسر على الدفاع عنها حالة ما لو جُرت إلى دواليب التأديب. والحقيقة أن هذا التصويت البرغماتي الذي يُباشر على نطاق واسع هو الذي أضر بهذه المؤسسة الدستورية ، لأن العضو الذي يمكن أن يحابيك خارج المعايير الموضوعية له حساباته الشخصية الخاصة والذي لا يدافع عن مبادئ عامة مجردة قد يكون معك اليوم و قد يضطر أن يكون ضدك غدا ، وفي جميع المجالس السابقة شهدنا مواقف متخاذلة لأعضائنا المنتخبين تجاه حالات عزل غير منضبطة كان بالإمكان تفاديها .
ومظاهر الركون إلى العواطف بإيجابيها وسلبيها في انتخابات المجلس الأعلى للقضاء كثيرة ، ورصدنا كثير منها باحتكاكنا بالكتلة الناخبة ، فعلاوة على التصويت على إبن المنطقة و حبدا لو كان من القبيلة نفسها حتى تكتمل " الباهية " ، ثمة قضاة يصوتون لعائلاتهم وأصهارهم ولأصدقائهم الحميمين وآخرون لزملائهم بالكلية والفوج ، وفئة أخرى تصوت لأنها مدينة لمرشح أو كتلة بدين ما ، وترى أن من الأخلاق رد الجميل وليس هناك أفضل وأثقل في الميزان من منحه صوتها ، وعلاقة بالفئة الأخيرة ثمة من يباشر هذه العادة السيئة بطريقة غير مباشرة ، فهو لايدين بدين لمرشح بعينه ، لكن بما أن دينه الحقيقي هو لمسؤوله المباشر فهو مستعد لأن يصوت لمن يمليه عليه إعمالا لمبدأ "حليف الحليف حليف " ، وفي إطار هذه العينة الموجهة دائما هناك قضاة مستعدون لإعطاء أصواتهم لمن يزكيه زملاء لهم إما لثقة فيهم ولمصالح بينة ، واستحضر قاض قال لي ذات مرة أن فلانا لو أمرني أن أرتمي في البحر لفعلت ، ولما سألت عن الأمر رشح إلى علمي أن الآمر المحتمل هو الوسيط بين المأمور وأصحاب الحاجات وإذا ظهر السبب بطل العجب . في السياق نفسه ثمة فئة عريضة من القضاة تصوت للمرشح الذي تتأكد أنها يعرفها حق المعرفة بغض النظر عن أهليته للمقعد وهو تأكيد على أن كثير من حالات التصويت مردها انعدام المعيارية .
وبجانب كل هؤلاء ، هنالك فئة تشكل أمم بذاتها وتتمثل في ذوي الانطباعات الذين لا يركنون إلى أية معايير موضوعية ، وإنما إلى الانطباعات بجيدها وسيئها ، فتجد قاض يخبرك بأنه سيصوت للمرشح الفلاني لأنه يبتدره بالعناق حين يلقاه ، ويخبرك آخر بأنه اقتنع بالتصويت للمسؤول الفلاني لأنه أظهر تواضعا كبيرا على علو مرتبته الإدارية ، ويفاجئك ثالث بأن الدنيا لم تسعه حين رفع عضو المجلس السابق المرشح الحالي سماعة الهاتف واتصل به ، ومن مظاهر انعدام الوعي المهني تأكيد كثيرين على نيتهم التصويت لفلان أو علان لأنه أخبره بمكان تعيينه أوبخبر ترقيته أو إنتقاله مع أن ذلك كله من صميم الحق في الحصول على المعلومة وليست تجملا ، ومن أعجب العجائب أن مرشحين انتخبوا في المجالس السابقة وعندما تسأل عن السر في انتخاب أحدهم يجيبك القضاة بأن فلان " الدار الكبيرة كريم وبيته مثل الزاوية ؛ إذا دخلت فكل واشرب بيديك ورجليك "، وعي بئيس يجعلني لا أميز كثير من القضاة عن الناخبين البسطاء الذين يُعارضون في الشعارات الانتخابية بمقولة الدجاج والبرقوق ، مقابل ذلك تجد مرشحا كفء يستحق مكانته في المؤسسة الدستورية ، لكن البعض يُقسم بأنه لن يمنحه صوته لأنه مر عليه ذات يوم ولم يسلم عليه أو تجاهله في مجلس ما ، وداخل هذه الفئة الانطباعية هناك قضاة لا يكونون قناعتهم إلا في المقابلات التي يجريها المرشحون في نطاق التعريف بأنفسهم ، فيختارون من بهروهم بقدرتهم على الخطابة والتواصل ، والحقيقة أن هذا العامل مهم ، ويُنم عن إحدى الصفات المطلوبة في العضو المنشود ، لكن يجب البحث أيضا عن خلفية المرشح ومواقفه المهنية ، لأن التجربة أثبتت أن النصاب تكون له قدرة رهيبة على التواصل والإقناع ، لذا يُسقط في شراكه أكثر الناس احتياطا ، ضمن نفس العينة تعجب حقا لقاضيات وقضاة تجدهم وقد بقي يوم أو يومين على الاقتراع لم يكونوا أية قناعة انتخابية ، فيبادرونك بالمقولة الشهيرة " شكون اللي داير في السوق " ، وقد يطلبون منك أن ترشح لهم أسماء ليصوتوا عليها ، وهذه العينات تؤكد أن مجتمع القضاة الصغير مجرد صورة مصغرة عن مجتمعنا المغربي الكبير .
إن التصويت العاطفي هو الذي كرس في القاضي المغربي صفة الناخب الأسير، وهو الذي فرخ أعضاء الصدفة الذين حبل بهم المجلس الأعلى للقضاء طيلة مساره ، وساهم في إضعاف تركيبة هذه المؤسسة الدستورية وأدائها التمثيلي ، مما جعل القضاة الشرفاء يسعون منذ أمد بعيد إلى تجسيد التصويت العقلاني في اختياراتهم الانتخابية ، ففي الزمن البائد حين كان يُفرض على القضاة مرشحين عنوة ، كان القضاة المستقلون يبحثون من خارج اللوائح المرضي عليها عن مرشحين مستقلين ، فحين لم تكن هنالك مواقع للتواصل الاجتماعي ولا قضاة ينشطون في الإعلام ، كنا نصوت على مرشحين على ضعف حظوظهم لا لشيء سوى أن بعضهم عارض تدخل المسئول القضائي في عمله أو لأنه اتخذ موقفا رجوليا في الجمعية العمومية أو لكونه واجه سماسرة الانتخابات المهنية ، وهنا أرغب في رفع مغالطة سائدة في أوساط القضاة ، وهي أنهم يقولون إنهم لن يهدروا أصواتهم في التصويت على أسماء معدومة الحظوظ لأن أصواتهم غالية كما يدعون ، لكن الغريب في الأمر كله أنهم يمنحونها لكل من هب ودب لمجرد أن اسمه يتردد في الآفاق ، مع أن السلوك العقلاني عند الناخب الغربي ينحو في اتجاه تفضيل تصويت يتوافق مع المبادئ والقناعات الشخصية على تصويت براغماتي توجهه استطلاعات الرأي ، وأعتقد أن المسألة بيدغوجية ، ويجب على القضاة أن يعوها وهي أنهم لن يوصلوا أبدا أعضاء نموذجيين إلى رحاب هذه المؤسسة الدستورية بتزكيتهم للأسماء التي تأتي على عربات الريع وتجري بمنشطات الأقطاب الانتخابية الكبرى ، وهناك مثل مغربي بليغ مؤداه أن " الروافد الصغيرة هي التي تجري النهر العظيم " ، فلو منح كل منا صوته للقوي الأمين لما وجد كثير من منتخبي الصدفة مكانة لهم داخل المجلس الأعلى للقضاء .
يترتب عما تقدم، أن تجسيد المظهر العقلاني للتصويت في انتخابات المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، يمر عبر تغليب القيم القضائية المثلى التي يتقاسمها الناخب مع المرشح ، وتحرير التصويت من كل المظاهر اللاعقلانية بأشكالها وأنماطها المختلفة كالجهوية والقبلية والولاءات المصلحية والإخونيات والتوجهات العاطفية بجوانبها الايجابية والسلبية ، وهو ما لن يتأتى إلا عن طريق إبراز نضج ووعي مهنيين كبيرين ، فليس المحدد أن يروقك المرشح أو لا يروقك ، فالتصويت العقلاني المنشود يقتضي منك أن تتجرد من عواطفك الايجابية تجاه المرشح إن كان لا يصلح ، والعكس صحيح فقد لايروقك المرشح في شخصيته أوفي سحنته أوفي تصرفاته ، لكن توفره على المعايير المطلوبة ، يفرض عليك أن تبلعه كما تبتلع الدواء المر طلبا للشفاء ، وهنا المفترق بيننا وبين ناخبي الدول المتقدمة حيث التصويت على البرنامج الذي يحمله الشخص لا على الشخص نفسه ، والمفارقة أنه في الوقت الذي أظهرت فيه الانتخابات العامة الأخيرة بأن الناخب المغربي بدأ يصوت سياسيا ، ولم يعد يرهن مستقبله لبضع سنين بحفنة دراهم أو بولائم ، نجد أن الشواهد العليا و اللغات الأجنبية وكل مظاهر العصرنة التي يتلبس بها القضاة المغاربة لم تفعل فعلتها في سلوكاتهم الانتخابية ؛ على الأقل هذا ما أظهرته الانتخابات المهنية الأخيرة ومجريات الحملة الانتخابية الحالية .
إن رسم صورة للمرشح المثالي المنشود الذي يستحق أصوات الهيئة الناخبة هي أوجب الواجبات لتمكين الهيئة الناخبة من ممارسة واجبها في ضبط الاختيار، وهي مهمة ليست بالهينة لتداخل مقومات ذاتية وموضوعية لا تنفصل عن بعضها ، وفي هذا الصدد أكاد أجزم بأن أهم المعايير التي ينبغي أن يبحث عنها الناخب هو الأداء المهني ، فما خبرناه طيلة أكثر من خمسين سنة من عمر المؤسسة هو أن القاضي الجيد في عمله القضائي يكون بالضرورة جيدا في مهامه التمثيلية ويصح العكس ، ولاتندرج في الأداء المهني الممارسة القضائية وحدها ، وإنما يمتد إلى المواقف المهنية للمرشح من اعتداد بالاستقلالية والتزام بالأخلاق المهنية والغيرة على سمعة المهنة ، والسلوك الإنساني السوي والمنضبط ضروري ، فقد خبرنا مرشحين وشاة يصطادون في الماء العكر ويكتبون الشكايات بزملائهم ، وتجد فيهم كل العيوب الأخلاقية الحاطة بالمروءة ، لذا من واجب القضاة قطع الطريق عليهم لأن الأخلاق مفصلية في مثل هذه المهام ، أما التشبع بقيم الاستقلالية فلا غنى عنها ، واستقلالية العضو بمناسبة ممارسته التمثيلية لا تنفصل عن استقلاليته في الممارسة القضائية ، فالأيادي المرتعشة لا تصلح ، والمرشح المشهور بانبطاحه و إتماره بالأوامر في الحق والباطل لايٌرجى منه خير للمؤسسة وللقضاة ، و يجدر التذكير هنا أن بعض المرشحين في مرحلة ما كانوا يخوفون القضاة من انتخاب المسؤولين القضائيين وأعضاء النيابة العامة ، وكانوا يرون بأن التبعية الإدارية للصنف الأول والخضوع للسلطة الرئاسية بالنسبة للصنف الثاني ، تجعلهم يذوبون أمام رغبات وزير العدل ؛ الشخصية المهيمنة في المجلس ، لكن المسألة تبقى نسبية ، فقد عايشنا أعضاء ممتازين من الصنفين السابقين ، ومقابلهم عايشنا أعضاء سيئين من قضاة الحكم العاديين الذين لم يتلبسوا بأية مسؤولية إدارية ، والأفضلية في النهاية لشخصية العضو مجردة عن مهامه ، الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن خاصية جوهرية أخرى وهي الكاريزما الشخصية للعضو وتتمثل في الحضور الطاغي الذي يتمتع به عضو المجلس وقدرته على التأثير على باقي الأعضاء في المجلس خصوصا المؤثرين منهم ، وفي تاريخ المؤسسة كان هنالك أعضاء بهذه الخاصية نذكر منهم على سبيل التمثيل ، عبد السلام بناني و محمد بوزيان وعبد السلام حادوش و محمد فركت وأحمد القسطيط وجعفر حسون ، والكاريزما أضحت أكثر الصفات التي ينبغي للقضاة تعقبها في المرشحين بحكم التركيبة الجديدة للمجلس وانفتاحه على كبار الحقوقيين وأساتذة الجامعة والمحامين المبرزين والعلماء ، فلا نرى بالتصوير الكاريكاتيري ، كيف يمكن لمرشح اعتاد طيلة مساره على حيثيات النماذج أو قلب صفحات محاضر الضابطة القضائية ليخط متابعات حفظها عن ظهر قلب ، أن يواجه هذه العينة من الرجال التي تمتهن الجدل وطرز الكلام والبرهنة، وترتبط بهذه الخاصية أخرى لصيقة بالمهام الجديدة للمجلس الأعلى ومرتبطة بتركيبته الجديدة ، وهي الثقافة الحقوقية للعضو ، ولا أقول الثقافة القانونية لأنها تحصيل حاصل ، فالقاضي قبل كل شيء رجل قانون ، لكن يجب أن نشهد أنه قلما أوصلنا إلى هذه المؤسسة رجالا بثقافة حقوقية متينة ، في حالات نادرة صوت القضاة لصالح قضاة يتمتعون بثقافة شرعية بينة كالأستاذ عبد السلام حادوش الذي كان عضوا برابطة علماء المغرب ، ويكاد جعفر حسون يشكل الاستثناء الوحيد الذي جمع الحسنيين ؛ الثقافة القانونية والثقافة الحقوقية ، وقد يتساءل قائل ما دخل الثقافة الحقوقية بعمل العضو ؟ نقول إن العلاقة وثيقة ، فالقانوني عادة ما يمسك بالقواعد التقنية الصرفة ، لكن الحقوقي يتجاوزه إلى استحضار ماهيات هذه القواعد وغائياتها وفلسفتها وتطبيقها باستحضار للحقوق الأساسية التي وضعت من أجلها ، وكل هذه الأدوات ضرورية للعضو بالمجلس الأعلى في مجال التأديب والمحاكمة العادلة واحترام حقوق الدفاع وقرينة البراءة وفرض تكافؤ الفرص والمناصفة وغيرها ، بالطبع لن أتحدث عن ضحالة الثقافة القانونية لكثير من أعضاء المجالس السابقة ، لكن في الظرف الحالي يصعب أن نقبل أعضاء من هذه الطينة في مجلس مطلوب منه أن يٌعد نظامه الداخلي ومدونة للقيم القضائية وأن يبدي آرائه في كل التشريعات المرتبطة بالسلطة القضائية وأن يقدم تقارير ويرفع اقتراحات للسلطة الحكومية ، فقد مضى زمن العضو الذي يؤثث المشهد و ينام نوم الأرنب ولا يشحذ لسانه إلا عند عرض حالة تهمه أو عند توزيع الريع ، وماعدا ذلك فهو يعطي شيكا على بياض للوزير ولغيره .
ومن المزايا التي يتطلبها الناخبون في عضو المجلس الأعلى القدرة على التواصل مع القاعدة الناخبة ، بأن يُنصت إلى همومهم ويتتبع طلباتهم ويدافع عن مطالبهم ، لا أن يغير رقم هاتفه بمجرد أن ينتخب كما السيناريو المعتاد عن العضو النمطي في الانتخابات العامة الذي يغيب عن دائرته بمجرد انتخابه ولا يعود إليها إلا عند اقتراب الانتخابات الموالية ، الأهون في الحالة الأخيرة أن المنتخب يعود إلى ناخبيه ليحاسبوه ، أما في حالتنا فلا عزاء للقضاة ، فالعضو يعود إلى مهامه السابقة دون تقديم حساب يقود إلى تزكية جديدة أو تصويت عقابي ، لذا ينبغي للقضاة تقدير هذه الميزة في سلوك المرشح ومعرفة معدنه قبل ترشحه ، فالمشهود عندنا في النظام القديم أن العضو يكون أكثر تواصلا في ولايته الأولى ، ويقل تواصله في الثانية ربما لاعتقاده بانتفاء حاجته لأصوات القضاة .
وترتبط بالميزة الأخيرة ميزة أخرى هي الحس النقابي للمرشح في تدبير جميع الحالات الفردية للقضاة من تعيين وانتقال وترقية وتأديب ، وستزداد الانتظارات ذات البعد النقابي من الأعضاء مع التركيبة المختلطة للمجلس وأدواره الجديدة كقوة اقتراحية بإمكانها تقديم اقتراحات للسلطة الحكومية ترتبط بوضعية القضاء وظروفه اشتغاله ، قد يقول قائل بأن الجمعيات المهنية تتولى هذا الشق وقد أظهرت دينامية كبيرة في تدبيره خلال السنوات الخمس الأخيرة ، لكن هذا الانتظار يبقى مطلوبا من العضو سيما في الأوضاع الفردية وخصوصا مجال التأديب الذي يعيش في نطاقه العضو مفارقة عجيبة تطلب منه أن يلعب دور المحامي مع حفاظه على دوره الأصيل كقاض ينظر في المخالفة التأديبية .
أخيرا ثمة ميزة كثيرا ما أسالت المداد، وتتعلق بمدى اشتراط التزام المرشح بالأخلاق المهنية الأصلية وعلى رأسها التجرد والنزاهة ، ويصعب الخروج بحل توفيقي بين قائل بأن الكفاءة المهنية والقدرة على ممارسة المهام التمثيلية هي وحدها المحدد مادام أن العضو في المجلس الأعلى لا يلبس جبة القاضي ولا يمارس الفصل في المنازعات القضائية بين الفرقاء ، وقائل بأن كل ذلك مطلوب لكنه لا يغني عن التزام العضو بالنزاهة والتجرد في ممارسته القضائية ، وحسبي أن أسرد واقعة بطلها زميل في فوجي رحمه الله ، أسوق ما قال وهو الآن في دار الحق وأنا في دار الباطل ، فقد كنا في سفر بين الرباط ومراكش على أعتاب انتخابات المجلس الأعلى للقضاء لسنة 2002 ، وخضنا في الانتخابات ، وفأجأني بقوله غفر الله له وعافاه بأنه يمد يديه إلى المتقاضين ولايرد عطايهم ، لكنه مقتنع بأن لن يصوت لقاض مرتشي ، وأضاف أتدري لماذا ؟ قلت لا ، قال إن الذي يبيع قضايا الناس يمكن أن يبيع قضية زميله القاضي ، إنها قمة في التصويت العقلاني الذي ننشده .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.