ساقني عشقي لكل ما هو أصيل؛ إلى دروب الحي القديم (سوق الداخل) بمدينتي طنجة زوال الأمس، قاصداً مسجدها العتيق(الجامع الكبير)، حيث إبداع المغاربة السابقين في هندسة البنيان والإنسان يُوَرّث برودة في الجغرافيا،وحرارةً في التاريخ. فتوقفت ملياً بساحة هذا الحي وأنا أحدق النظر في مشهد عجيب لمقاهيها المكتظة بالداخل وعلى قارعة الطريق بالسياح الأجانب،ومعهم الزبائن المعتادون من المحليين، حيث يتناول السياح وجبات الغذاء،أو يستمتعون بكؤوس الشاي المغربي،في حين يغرق المحليون الصائمون في نقاشات بَيْنِية تفرقها عناوينها، ويجمعها الاستمتاع بالظل،وبرحابة صدر صاحب المقهى لحين سماع آذان الصلوات. وبما أن هذا المشهد مألوف بهذا المكان وغيره؛ فإن الإثارة في الأمر كان مصدرها مقال قرأته على شبكة الأنترنت تحت عنوان " مناقشة هادئة مع الدكتور الريسوني، حول تجريم الإفطار العلني في رمضان" لصاحبه الدكتور البشير عصام المراكشي، حيث أفرد الأخير مقاله للرد على نزوع الريسوني إلى عدم القول بجدوى التجريم المذكور مطالباً إياه ختاماً بالعدول عن الاصطفاف في خندق المعادين للدين. وبعد قراءة متأنية للمقال أتبين ما يفترض للأخ المناقِش أن يتمسك به من أدلة وحجج في قوله بوجوب التجريم للإفطار؛ هالني حجم الارتخاء في "قبضة" الرد شكلاً وموضوعاً(استدلالاً)، فأردتُ أن تكون المناسبة فرصة لتوسيع دائرة التداول العلمي لمثل هذه القضايا الساخنة،سيما ونحن نعلم أن لغة العقل والفكر والحوار وحدها ما ينزل بهذه السخونة إلى درجة البرودة قبل أن يرفعها التنطع والتشنج إلى درجة الغليان. ففي جانب الشكل؛ لم يكن أخونا المراكشي مسددا حين تساهل مع الجمع بين الاعتراف بأستاذية من يرد عليه،مع انتقاء صورتين شمسيتين إحداهما للدكتور الريسوني يظهر فيها صامتاً (سامعاً)،في حين تأتي الأخرى بالبشير النذير خاشعاً في الكلام بسبّابة مشدودة إلى الإبهام إمّا آمراً أو مُصَفِّراً لطرح أستاذه، وهذه ثلمة في الشكل لا تمر على الفطن. وبما أن تجريم الإفطار تقنين؛ فإن انخرام الدعوى في الشكل عند أهل القانون مبطل لها دون الحاجة لمناقشة الموضوع. أما في الجانب الثاني (الاستدلال): فقد آثرت أن يكون لتعليقي عليه هدف واضح يتجه فقط لامتصاص الجرعات الزائدة عن اللزوم من الوثوقية في رد الأخ عصام وذلك على النحو الآتي: أولا : منطق الحتم والإلزام الذي يرتبط به التجريم أو عدمه؛ ينآى عنده الأصوليون عن لغة الاحتمال التي تُفقد البناء الاستدلالي مقومات التماسك. لذلك كان الأصل المرتب أولاً هو النص (في اصطلاح الأصوليين) الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً. وكلما نزلنا ثانياً وثالثا نحو الظاهر فالمفهوم المخالف فالموافق... إلا لانت قبضة المُلزم. ولو خرجت - سيدي المحترم- من جبة الفقيه -خصوصا في هذا الحرّ الشديد -ولبست نظّارات الأصول - التي بحوزتك يقيناً - ثم أعدت قراءة ردك على الشيخ الريسوني؛ سترى كيف أغرقت الحجاج عند المفاصل الدقيقة بخطاب ظل -ابتداءً وانتهاءً- أسيراً لقاموس ( قد، ويمكن، ويشبه، وربما..) في حين أن خطاب القرآن حين أراد أن يذكر "حرَّم ربي" صدّرها ب"إنَّما". ففي الوقت الذي لاذ الدكتور الريسوني بلغة أصولية مقاصدية حذرة في الجزم على عادة السلف (حديثه عن اللاجدوى مثلا...)؛ نجد الأخ البشير يلتزم خطاباً كما لو ملأ كفتيه بقطعي الدلالة والثبوت. ثانياً : تشبيه افتراض كذا وكذا من الأعذار للمفطرين في حديث الريسوني، بإعذار معاقري الخمر لم يكن مبالغة فحسب؛ ولكن كان إفراطاً كاد يلبس المقال لبوس التهريج. وقد كان الرجل-الريسوني- يغمز بهذا الجانب من كان فطناً أن يتنبه إلى أن من هذه الأعذار ما يحترز منها المعذور نفسه فيتوارى من تلقاء نفسه خلف أي ستر، كتحرز المرأة المفترض من الفطر علناً خشية العلم بحيضها الذي جبلت على ستره. وهذه مداخل نفسية تفيد المطلع بها في كل نظر تنزيلي. ولكن يزهد فيها حملة الفقه بشكل مريب. ثالثاً : في مناقشته للقاعدة المالكية "حكم الحاكم لا يدخل في العبادات" حرص الأستاذ الفاضل أن يرد تمسك أستاذه بها من خلال نَصب فزَّاعة اسمها " أعداء الدين" لم يعد إثرها ملزماً بالقواعد المؤصلة في الإيجاب والتحريم، لينطلق في حديث لا يُدرى يمينه من شماله، ويُرد عليه من أوجه لا تشبه أوجه رده: الوجه الأول: تحدث عن مد "أعداء الدين" "بأدلة تراثية لم تخطر على بالهم"، وهذا كلام غريب يميط اللثام لأول مرة عن وجود سوق سوداء للأدلة لدى المجتهدين، يصلح بعضها للتداول العام، وتقصر فائدة البعض الآخر على إعمالها واستثمارها سراً !!!. ثم ما يلبث أن يُذَكّر بالاختلاف بشأنها بين زيد وعمر، وهذه الجهة وتلك، في حديث ينسف منتهاه مبدأه. الوجه الثاني: هب أن الحاكم صار مسلما له بالتدخل في العبادات ثم لم يجرم الأمر؛هل ستجرؤساعتها أن تستصحب اتهاماتكبمعاداة الدين أم أن الحائط يكون ساعتها قد علا وارتفع؟ ثمهل فعل أستاذك غير مخاطبة هذا الحاكم بوجهة نظر أسست على افتراضات باتجاه مايعضده عدم النص؟ تماما كما تفترض أنت باتجاه آخر يكذبه الواقع بالأحياء القديمة والحديثة لمدن المغرب بما فيها مراكش. الوجه الثالث: من أسميتهم" أعداء للدين" من العلمانيين واللائكيين لا يستفيدون من أجواء الحرية،بل يتضررون منها كل الضرر،ولا ينتعشون إلا عندما يمدهم تحالف الاستبداد والتشدد بمختلف أنابيب التنفس الاصطناعي.وإن خالطك شك في ذلك فتمعن جيدا كيف كان تعليق قصيرهم -الذي أعلن من مزارع الكيف حربه على الإسلاميين– حين بلغه موقف أستاذك. رابعا : تندم أنت على توسع غيرك في المقاصد،ثم ماتلبث أن تتعلق بالذرائع والمصالح–وهما روحها كما هي روح للأصول- تعلقا مبناه قائم على محض الافتراض والتخمين بشكل فاق في عدم انضباطه تعلق اللائكيين بها.وكم كان عجبي وأنا أجد الأخ الفاضل ينتشي بالانتصار في معركة "القبلات الجماعية" ذات لحظة،بيد أن ضعف ذلك تضخه صباحا ومساء قنواتنا الرسمية التي يمولها الشعب،ويديرها الضابطون للدين، لتمتلأ–تبعا لذلك -الفضاءات العامة من حدائق وشواطئ بل وشوارع بحالات يمسك فيها الغريب بالغريبة كما لو أشهد على نكاحها العشرة المبشرين بالجنة. *أستاذ بكلية أصول الدين بتطوان