خبراء وباحثون يؤكدون على أهمية قانون المالية لسنة 2025 في النهوض بالاستثمارات العمومية وتمويل المشاريع المهيكلة    المقاتل المغربي جمال بن الصديق ينتصر بالضربة القاضية في روتردام ويعد بالمزيد في منافسات الغلوري    توقيف ثلاثة أشخاص بتمارة لنشرهم محتويات عنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي وتهديد أمن المواطنين    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    الصين تطلق قمرا صناعيا جديدا    القوات المسلحة الملكية تساهم في تقييم قدرات الدفاع والأمن بجمهورية إفريقيا الوسطى    رضا بلحيان يظهر لأول مرة مع لاتسيو في الدوري الإيطالي    أخنوش يدشن الجناح المغربي بالمعرض الدولي للفلاحة بباريس    طقس الأحد: أجواء باردة مع صقيع بعدد من المناطق    توقيف فرنسي مبحوث عنه دولياً متورط في التهريب الدولي للمخدرات وتبييض الأموال    عرض 117 شخصاً "للنصب" و"الاحتيال".. توقيف شخص اوهم ضحاياه بتسجيلهم في لائحة للحصول على للعمل في الفلاحة بأوروبا    سبيس إكس تطلق 22 قمرا جديدا من طراز "ستارلينك" إلى الفضاء    القصة الكاملة لخيانة كيليان مبابي لإبراهيم دياز … !    حادثة سير مروعة بطنجة تودي بحياة فتاتين وإصابة شابين    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    إصابة عنصر من القوات المساعدة بحروق خطيرة في حريق سوق بني مكادة بطنجة    المغرب يعود إلى الساعة القانونية    الأسير الإسرائيلي الذي قَبّل رأس مقاتلين من "القسام" من أٌصول مغربية (فيديو)    تذكير للمغاربة: العودة إلى الساعة القانونية    التحولات الهيكلية في المغرب.. تأملات في نماذج التنمية والقضايا الاجتماعية الترابية" محور أشغال الندوة الدولية الثانية    افتتاح أخنوش رفقة ماكرون للمعرض الدولي للفلاحة بباريس يشعل غضب الجزائر    نهضة بركان يحسم لقب البطولة بنسبة كبيرة بعد 10 سنوات من العمل الجاد    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    مقتل شخص وإصابة عناصر شرطة في "عمل إرهابي إسلامي" في فرنسا    الجيش والرجاء يستعدان ل"الكلاسيكو"    التعادل يحسم مباراة آسفي والفتح    منتخب أقل من 17 سنة يهزم زامبيا    اختتام رالي "باندا تروفي الصحراء" بعد مغامرة استثنائية في المغرب    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    انطلاق مبادرة "الحوت بثمن معقول" لتخفيض أسعار السمك في رمضان    الملك محمد السادس يهنئ العاهل السعودي    أخنوش يتباحث بباريس مع الوزير الأول الفرنسي    تجار سوق بني مكادة يواجهون خسائر كبيرة بعد حريق مدمر    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومميزة في مكافحة الإرهاب    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط تهريب مفرقعات وشهب نارية وتوقيف شخص في ميناء طنجة المتوسط    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهمية الأخلاق في مجال الدعوة الإسلامية

لابد لممارسة الدعوة الإسلامية على حقيقتها الربانية من أخلاق طيبة يرضى عنها الله تعالى، أخلاقٍ في النية يتجنب بها الداعية الرياء والتسميع والادعاء والإعجاب، وأخلاقٍ في النفس يطهر بها المرء نفسه من البغضاء والحسد والحقد والمكر، وأخلاقٍ في السلوك يروض بها حياته على الحق مهما كان له أو عليه، ويطهر بها لسانه من الغيبة والنميمة والبهتان والكذب والمكر، ويفطم بها نفسه عن التعلق بالجاه والمنصب والمال.
إلا أن التطبع بالأخلاق السوية في النية والنفس والسلوك، والتوجه الصادق في طريق الله المستقيم، لا يكتسبه المرء بعفوية ويسر، ولا يستطيع ادعاءه من لم يروض نفسه عليه، وإنما يحتاج إلى جهد يبذله كي يرتقي إلى مراقي الخلق الكريم، وإلا كان كالقط المتزهد الذي يعود إلى أصل طبيعته كلما رأى فأرا أو صرصورا أو قطعة لحم، كذلك الداعية المتصنع الذي يرى حاكما أو وجيها أو ذا مال أو منصب فيطمع في الاستفادة منه، إذ سرعان ما تنكشف حقيقته ويتضح زيف أخلاقه، ويجري لاهثا وضيعا ومتزلفا حقيرا وخادما ذليلا.
هذا الحال يقودنا للرجوع إلى القرآن الكريم نستقي منه الكلمة الفصل في الموضوع:
لقد ورد ذكر"الخُلُقِ" في القرآن الكريم مرتين، أولاهما بصفة الذم في قوله تعالى [1] ( قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ )، أي إن هذا الذي نحن عليه إلا دين الأولين من آبائنا ونحن تابعون لهم متمسكون بمنهجهم وسالكون مسلكهم في التصرف والمعاملة، وهو رد الكفار المعرضين عن دعوة الإيمان والتوحيد والسلوك الرضي.
أما ثانيتهما فبصفة المدح والإشادة بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، في قوله عز وجل[2]: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )، وهو ما شرحته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها[3] فيما رواه عنها سعد بن هشام بن عامر قال:(أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ "، ورواه أبو الدرداء قال: (سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن يغضب لغضبه ويرضى لرضاه )[4] أي أنه عليه الصلاة والسلام كان متمسكا بآداب القرآن وتوجيهاته، ملتزما محاسنه ومكارمه، ممتثلا لأوامره ونواهيه، مهما أُمِرَ أطاع أو نُهِيَ كفَّ وترك، حتى صار ذلك له سجية وطبعا، مع ما جبل عليه من الحياء والكرم والشجاعة والحلم والسماح، وهو ما رواه البخاري[5] عن أنس قَالَ خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ وَلَا لِمَ صَنَعْتَ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ، ورواه الترمذي من رواية ثابت[6] عن أنس قال:( خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا وَلَا مَسَسْتُ خَزًّا قَطُّ وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا قَطُّ وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).
إن لفظ " خلق " مشتق من أصلين لغويين، أحدهما يعني الإنشاء والإبداع على غير مثال سابق، وهو من صفات الله تعالى، ولا يجوز أن يطلق على غيره.
أما الثاني فمعناه تقدير الشيء، مثل أن تقول خلقت القماش لخياطة قميص مثلا، أي قدرت ما أحتاج إليه منه لهذا الغرض، ومن ذلك "الخُلُق" بمعنى السجية والسلوك بالنسبة للمرء، لأنه يتصرف حسب ما يفهمه ويقدره من مصلحة ونفع وصواب في معاملاته ومعيشته وعلاقاته.
إن " الخُلُقَ" هو الصورة الملموسة غير المتكلفة من معاملات المرء وحركاته وسكناته، وهو بذلك انعكاس لصورته النفسية وأوصافها ومعالمها، لذلك فالثواب والعقاب متعلقان به، أي بتصرفاته الظاهرة المؤثرة في المجتمع والمتأثرة به.
إن الرجل قد تضطره الحاجة إلى بعض التصرفات الإيجابية والأعمال الحسنة فيقوم بها متكلفا، ولكنه لا يستطيع المواظبة عليها، لذلك لا تدعى هذه الأعمال خلقا له؛ والرجل يقوم بها بكل يسر وسهولة ويداوم عليها فتعد من أخلاقه وشيمه. وعندما مدح رب العزة نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، أمره في سورة أخرى بأن يخاطب قومه بقوله(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ) ص 86، أي لست متكلفا لهذه الأخلاق، وإنما هي طبع وسجية وشيم، لأن المتكلف لا يدوم أمره، بل يرجع إلى طبعه الأصلي ما لم يروض نفسه طويلا حتى يتكرس تصرفه الجديد ويصير خلقا وشيمة. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد [7]( أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَذَاكَرُ مَا يَكُونُ إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوا وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ تَغَيَّرَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ وَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ ).
ولما كان الخُلُقُ لغةً معناه العادة والطبع، سواء في الإدراك والفهم، أو في الفعل والتصرف، فإنه في المجال الاجتماعي مَلَكَة نفسية تسهل على صاحبها الإتيان بالأفعال الحسنة والمداومة عليها والتمسك بها، أو ممارسة الأفعال المشينة والاستمرار فيها. ولذلك بهذا المنظار أيضا كانت التصرفات مرآة لمستواه العقلي ومدى صفاء إدراكه ونقاء سريرته وسلامة نيته.
إن معضلة التعامل بين الإنسان وبين أخيه الإنسان ومختلف الخلائق في الكون، برزت منذ وجود آدم عليه السلام في الجنة مع زوجه حواء، ثم ظهرت بشكل حاد في الخلاف بين ولديه قابيل وهابيل إذ قتل أحدهما الثاني ظلما وعدوانا.
ولئن كان الفكر البشري قد حاول معالجة هذه القضية فلسفيا في مباحث القيم التي تضم ثلاثية الحق والخير والجمال، فبدت في حقب من التاريخ مغرية براقة، فقد أثبتت التجربة والمتابعة العلمية للتطور البشري تهافت هذه المحاولة وعجزها عن بناء سلوك إنساني راق أو علاقات اجتماعية متكاملة، أو مجتمع سوي رشيد. ولعل أخطر ما ارتكبته هذه المباحث هو تجاهلها للفطرة وقانونها في الصفاء والسواء الأصيلين لها، وهو ما بينه القرآن الكريم بقوله تعالى في الآية الرابعة من سورة التين (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) وبينه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن رب العزة سبحانه وأخرجه مسلم [8]( وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)، وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري(مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِه،ِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ [9]).
وبذلك فقدت الفلسفة جدواها ودورها المرتقب منها، وانكشف عجزها عن بناء منظومة تفسير وتغيير، تساهم في بناء مجتمع نظيف سوي.
هذا الفراغ في مجال التأسيس الاجتماعي الإنساني لم يستطع سده إلا الدين الإسلامي الرباني في مرحلتيه الموسوية والعيسوية قبل تحريفهما ونسخهما، ثم في المرحلة المحمدية الناسخة التي ذكر رائدها عليه الصلاة والسلام حكمة بعثته وهدفها الاجتماعي بقوله [10]( إنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) في رواية أحمد، وقوله[11](بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ ) في رواية مالك بالموطأ. ثم أعطى من نفسه القدوة العملية فكان خلقه القرآن وشهد له بذلك رب العزة.
إن انبناء الأخلاق على الفطرة السليمة وهو ما أشار إليه الكتاب والسنة، يجعل التكاليف الشرعية والاجتماعية، عبادات وقربات وممارسة عادات سوية ، معقولة المعنى حكيمة التوجه واضحة المقصد، سليقية التطبيق والالتزام والانسجام.
وانبناءها على العضوية المعنوية والنفسية والمادية في المجتمع يجعل لها دورا في إخراج الأمة الشاهدة للوجود، وهدفا غاية في الوضوح والتجرد والانضباط، ويجعل المرء جزءا لا يتجزأ في جسد واحد يتخذ من الدنيا مطية للآخرة، وسبيلا للسعادة في الدارين. لذلك كان لتوفر الأخلاق الحميدة أهمية كبرى في المجتمع البشري، كما أن انعدامها يؤدي إلى مختلف الأمراض والعلل النفسية والجسدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ذلك أن الإنسان يشترك مع الكائنات الحية في كثير من الصفات، نوما ويقظة وفرحا وحزنا وغضبا ورضا، وأكلا وشربا واستمتاعا، وفي كثير من الأعضاء الجسدية والشكل الظاهر، ولكنه يتميز عنها في مجال تقدير التصرفات حكمة وتعقلا وتدبيرا واعتبارا للنتائج واستفادة من التجارب، وممارسة للأعمال والأفعال حسنا وقبحا ومقاصد ونوايا. وهو بذلك يعبر عما وهبه الله تعالى من عقل، وما حباه به من هدى وإرشاد (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) الشمس 6،7،8، ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) البلد 10. فإذا تخلى المرء أو المجتمع عن الأخلاق الحميدة ارتكس في حمأة الفساد، وحضيض البهائمية الضالة (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ ) الأعراف179.
إن انعدام الأخلاق السوية من المجتمع يفقد الدين معناه وجدواه ومبرر وجوده، وتصبح الحياة بذلك غابة يسودها الخوف والفوضى وغرائز اللذة والعدوان والنفعية الجافة المقيتة؛ لذلك بعث الله سبحانه رسله تترى، وجعل أخلاقهم في تمام السواء والكمال، كي تتعزز التوجيهات الربانية الشفوية بالقدوة العملية التي تمشي على قدمين، ويتغير سلوك الأمم والأقوام بتغير الأفكار والنفوس والعقائد (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الرعد 11.
ولئن ذهبت الاجتهادات الفلسفية والفكرية مذاهب شتى في مجال التساؤل عن مدى قابلية الأخلاق للتغير، فزعم بعض الماديين أن الأخلاق مجرد نتيجة حتمية لعوامل اقتصادية كيفت المجتمع البشري بما يناسبها ويترتب عليها، وأن التغير الحاصل أحيانا بسبب التأديب والموعظة والنصح سرعان ما يزول فيعود المرء إلى سالف ما تطبع به من مؤثرات الوضع الاقتصادي، فإن الإسلام ومعه غالبية علماء النفس والاجتماع والتربية، يؤكد قابلية الأخلاق للتغير والتغيير سلبا وإيجابا، وأن للإرادة دورا أساسيا في هذه العملية، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) آل عمران164. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الجمعة2. كما أن التغير السلبي أيضا رهن بإرادة الإنسان وتصرفاته وتمرده على الفطرة (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الأنفال 53.
إن استقراء التاريخ عبر حقبه الماضية والمعاصرة، ليكشف بكل وضوح تأثير الأخلاق ودورها في رقي الأمم أو اندحارها. فيوم مكن الله للأمة الإسلامية لم يكن النصر لسيوفهم بقدر ما كان لعقيدتهم وحسن أخلاقهم، وهو ما شهد به العدو قبل الصديق والنائي قبل الداني.
ويوم تحولت قصور الأندلس إلى مواخير لداعر وداعرة ، هما ولادة والمعتمد، وأمثالهما من فسقة الأدباء والمتأدبين، ومترفي المخنثين والمتصابين، أخرج أهلها منها أذلة صاغرين.
وفي اليوم الذي كان فيه خليفة المسلمين يتلهى برقص جاريته ومخنثيه، دخل هولاكو بغداد منتصرا، وكان ما كان مما جرت بذكره الركبان ودونه التاريخ بدمع ودم.
وفي عصرنا هذا، ونحن نشهد من انحطاط الأخلاق وتسيب التصرفات ما يخجل القلم من تسطيره، واللسان من ذكره، والمخيلة من تصوره ، سلط الله تعالى علينا شرقا وغربا ما يعرفه الخاص والعام فتداعت علينا الأمم بدعوات وترحيب من حكام لنا صغار النفوس ضعاف الهمة فسقة الجوارح أغبياء العقول فاسدي القول والعمل. أليس في هذا ما يشرح قوله تعالى ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ) الطلاق 8، وقوله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) الأنفال 53.وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد عن ابن مسعود قال[12]:(خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِيكُمْ وَإِنَّكُمْ وُلَاتُهُ وَلَنْ يَزَالَ فِيكُمْ حَتَّى تُحْدِثُوا أَعْمَالًا فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ شَرَّ خَلْقِهِ فَيَلْتَحِيكُمْ كَمَا يُلْتَحَى الْقَضِيبُ ).
لذلك اهتمت البعثة النبوية بالجانب الأخلاقي ومهدت وبشرت به، قبل نزول الوحي والتقاء المصطفى بجبريل عليهما الصلاة والسلام، وشاع في مجتمع مكة عطر أخلاق محمد بن عبد الله المطلبي الهاشمي، الصبي اليتيم، الذي لم يسجل عليه سوء منذ عرفته الأرض والسماء، وسمي الأمين الصادق لدى الأحباب والأعداء.
ثم كان الوحي والرسالة، فكرس صلى الله عليه وسلم حياته لتربية الجيل الأول عقيدة وخلقا ، عبادة وسلوكا وتصرفا حتى نشأ في الأمة خير قرن من الدعاة.
ولئن كانت حياته صلى الله عليه وسلم خير قدوة عملية للترشيد والتقويم ، فإن أقواله في ميدان النصح والإرشاد والتربية حفلت بها كتب السنن والمسانيد والصحاح بما لا يكاد يعد أو يحصى، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
· إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَات قائم الليل صائِمِ النهار [13].
· إِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسَدِّدَ لَيُدْرِكُ دَرَجَةَ الصَّوَّامِ الْقَوَّامِ بِآيَاتِ اللَّهِ بِحُسْنِ خُلُقِهِ وَكَرَمِ ضَرِيبَتِهِ [14]
· كَرَمُ الرَّجُلِ دِينُهُ وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ وَحَسَبُهُ خُلُقُهُ[15].
· كان رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ[16].
· وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ [17].
· وسئل عن أهل الجنة فقال:ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ ُ[18].
· وقال عمر رضي الله عنه: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غزائر تكون فى الرجل، يقاتل الشجاع عن من لا يعرف ويفر الجبان عن أبيه وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه وان كان فارسيا أو نبطيا[19]
لقد كانت تجربتي في الدعوة الإسلامية في الوطن وخارجه لأكثر من أربعين سنة مضت تلح علي بالبحث عن سبب عدم انتصار أي حركة معاصرة، ومن قبل انتصرت دعوة المرابطين والموحدين، كما انتصرت حركات التحرر من الاستعمار في عصرنا الحديث.
ولئن كانت حكمة الله تعالى وعلمه الواسع أدرى بتلك الأسباب، فإن لتصرفات كثير من دعاة العصر دورا في ما آل إليه الأمر. فالتحول إلى الارتزاق ، والتخاذل والتخاون لدى أي اختبار، والتخلى عن الإخوة وذرياتهم عند أول إغراء، وبيع الأرض والعرض وأخوة العقيدة من أجل منصب حقير ،كل ذلك جعلني أفكر في أمر الأخلاق ودورها وأثرها في بناء النفوس وتزويدها بالمناعة اللازمة، نظافة وسواء وشهامة ووفاء، وأوقن بأن الأرض الصالحة للاستنبات ينبغي أن تسقى بالماء الزلال ، أي بما نشأ عليه محمد صلى الله عليه وسلم، الصادق الأمين، الذي وصفته قبل بعثته ونزول رسالته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بقولها:[20] ( وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ). وأقرر المساهمة بجهد المقل في محاولة إعادة البناء الخلقي لهذه الأمة بهذه الكلمة المتواضعة.
وفقنا الله تعالى جميعا لصالح القول وسديد العمل، وجنبنا مزالق الإثم والزلل.
[1] - سورة الشعراء 137
[2] - سورة القلم 4
[3] - أحمد 6/91، تفسير الطبري29/19
[4] - المعجم الأوسط 1/31
[5] - صحيح البخاري 5/2245
[6] - سنن الترمذي 4/368
[7] - أحمد 6/443، مجمع الزوائد 7/196
[8] - مسلم 4/2197، صحيح ابن حبان 2/423
[9] - البخاري 1/456، مسلم 4/2047
- [10] أحمد 2/381
[11] - الموطأ 2/904
[12] - أحمد 4/118
[13] - أحمد 6/90
[14] - أحمد 2/177، التمهيد لابن عبد البر 24/84، الترغيب والترهيب3/272
[15] - أحمد 2/365
[16] - سنن أبي داود 2/91
[17] - مسلم 1/335، سنن أبي داود 1/201
[18] - مسلم 4/2197، تفسير اين كثير 3/434
[19] - كتاب السنن 2/247
[20] - صحيح البخاري 1/4


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.