للأديب يوسف إدريس مقولة شهيرة هي: إن مقدار الحرية الممنوح لكتاب الوطن العربي لا يكفي لكاتب واحد. إذا كانت الأمة تجني الثمار من المربي في حقل التعليم، ومن الطبيب في مجال الصحة، ومن القاضي أو المحامي في ميدان القضاء، ومن المهندس في مضمار التكنولوجيا، مثلا، فإن ما تناله من الكاتب، ولا سيما إذا كان من رجال الفكر، يشمل مختلف منازع الحياة وشتى دروبها، وسائر مساراتها. وبتعبير آخر، فإن كان معظم أصحاب الأعمال والمهن المختلفة، يتحركون ضمن مجالات ضيقة ومساحات محدودة لا تتعدى حدود تخصصاتهم، فإن الكاتب يعمل في رحاب فضاءات شاسعة و امتدادات واسعة، لا تحدها تخوم. فهو يغمس قلمه في مداد القضايا الكبرى التي تهم أمته. ويوغل عميقا في جذور المشكلات التي تثقل كاهلها وتقض مضاجعها، محاولا وقف النزيف و إبراء الجروح، وحل المعضلات والتخفيف من أهوال المآسي، وإنارة بعض الشموع في ظلمات الدروب المعتمة و الكهوف الموحشة، إن استطاع إلى ذلك سبيلا. ومن هنا، ربما يحق لنا القول، بأن دور الكاتب، هو أهم الأدوار، وذلك بفضل شمولية توجهاته، واتساع حدود تأثيراته وتعدد مجالات حركته التي تمتد إلى مختلف قطاعات الحياة، بدءا من الثقافة، ومرورا بالاقتصاد و القانون و التربية، وانتهاء بالسياسة وغيرها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن من المفيد فتح أبواب النقاش و الحوار حول أهمية دور الكاتب و الشروط التي يجب أن تتوافر له، حتى يؤدي واجباته، على أحسن وجه، وكي يطلق العنان لطاقاته الإبداعية، ويرفع مستوى إنتاجه، مما ينعكس بطريقة إيجابية على أوضاع الوطن برمتها. ومن المهم في البداية أن نحاول معرفة هوية الكاتب، والسمات التي يتوجب أن يتحلى بها. وهنا، وكما هي الحال عندما نحاول تعريف مفهوم الثقافة، فإننا سنجد أنفسنا أمام العديد من التعارف التي تختلف تبعا لتباين النظرات الشخصية إلى هذا المفهوم. رفوف من الجهل ليس في وسعنا أن ندرج ضمن عداد الكتاب كل من نشر هنا أو هناك، أو أنتج صفحات طويلة، أو كتب رفوف متراصة من الجمل و المفردات. أي أن مجرد نشر الكتب أو المقالات، لا يكفي للفوز بلقب كاتب بكل معنى الكلمة، فهناك كثير من الكتاب العاديين الذين ينتجون كتابات إحصائية أو ببليوغرافية أو وثائقية لا تحتاج إلى أي جهد ابتكاري أو مقدرة على الصياغة الراقية. فالمقياس الثابت، و المعيار الحقيقي للحكم على الكاتب، هو قدرته على الخلق و الإبداع، وعلى الصياغة اللغوية السليمة، و المبتكرة. فالكاتب الكبير الذي يمكن أن يترك بصماته على العصر، هو ذاك الذي يلتزم بالقيم النبيلة و المبادئ السامية، فيجعل كتاباته وسيلة لخدمة أهداف الوطن، وإعلاء شأن الأمة، لا أداة للتكسب ونيل المغانم الشخصية. وبتعبير آخر، فإن الخطين الجوهريين اللذين يفصلان بين الكاتب أو الأديب الأصيل، و الكاتب المتدثر بلباس الكتابة، أو المتسربل بجلباب الأدب، هما القدرة الإبداعية، و الأخلاق الحميدة. وهذا مجرد حكم مبدئي واجتهاد أولي، إذ لابد من العمل على إيجاد أسس ثابتة أخرى وتعارف أدبية قانونية لتحديد هوية الكاتب بدقة، والتفريق بينه وبين مدعي الكتابة. وننتقل الآن إلى الشق الثاني و المتعلق بالمشكلات التي تلجم مساعي الكاتب وتسد أمامه منافذ التحليق في آفاق الإبداع الراقي. وهي كثيرة لا تقع تحت حصر. فهناك مثلا، مشكلاته مع الرقابة الإعلامية التي لا تسمح له إلا بقدر محدود ومقنن من حرية الكلمة، مما يجعله عاجزا عن التعبير بوضوح وصراحة واستفاضة عما يجول في نفسه، ويعتمل في خاطره من أفكار جوهرية ومفيدة، الأمر الذي يضطره إلى حفظها في ذاكرته الثقافية، والهمس بها في مجالس الأصدقاء، بدلا من الإدلاء بها جهرا. خلاصة القول، أن الكاتب العربي المعاصر يتعرض لمشكلات ومصاعب، وأحيانا لأخطار تهدد مسيرته الكتابية، فتلقي بظلالها السلبية الكئيبة على إنتاجه وطاقته الإبداعية. وإذا كان هناك من يتهمون الكتاب بالتقصير في الارتفاع لمستوى التحديات القومية و الثقافية، وعدم القدرة على مواجهة عصر العولمة، وإفشال مخططات الغزو الثقافي و الإعلامي الخارجي، فإننا نعتقد أن هذه التهم تنطوي على الكثير من التجني و التحامل. وعلينا أن ندرك جيدا أن الكاتب لا يستطيع أن يغرد بصوت شجي على أفنان الكتابة الراقية، إلا إذا توافرت له شروط مواتية. وسنركز الآن على شرط جوهري هو المتعلق بالحرية. فالكاتب لا يستطيع أن يعطينا، إلا بقدر ما نعطيه منها. وكلما ازداد كتم الأنفاس وتضييق الخناق عليه، تضاءلت قدرته على العطاء الإبداعي. وليس من المستبعد، أن يغمد قلمه في جرابه ويتقاعد قبل الأوان، شعورا منه بأن أفكاره العظيمة لا يمكن أن تولد في ظل فسحة ضيقة من الحرية. وبتعبير آخر، إذا ما ظلت الحرية مسقوفة بالخطوط الحمراء و الموانع والمحظورات، بقي الإبداع مسقوفا ومتقوقعا ضمن شرانق ضيقة، ودوائر مقفلة. ولا يمكن أن يقيض للإنتاج الابتكاري أن ينطلق من عقاله، وينعتق من إساره، إلا بتوسيع هوامش الحرية. وتحاول بعض الدول المتخلفة أن تلمع صورتها وتخلق انطباعا إيجابيا، عن طريق منح هامش شكلي محدود جدا من الحرية. وفي هذه الحال، يستطيع الكاتب الصحفي، أن ينقد بعض الممارسات البسيطة التي لا تؤثر إطلاقا في سمعة الدولة، كأن يعترض على وجود حفر كثيرة في الشوارع، أو على زيادة عارضة في الأسعار، أو على صعوبة أسئلة امتحانات الشهادات، أو غير ذلك من الظواهر العادية التي يمكن أن تحدث في أي بلد.