هو ثاني شريط سينمائي مطول في مسار المخرج محمد الشريف الطريبق ، وجاء بعد سبع سنوات من طرح فيلمه الروائي الأول زمن الرفاق العام 2008 ، والمدة الفاصلة بين العملين معتبرة بالمعايير العالمية لأي مخرج جاد لتقييم عمله الأول والتفكير و الإعداد لعمله اللاحق بما يحقق مقومات الجودة السينمائية المنشودة . تتمحور قصة الفيلم - كما لخصها فريق عمله في ورقته التعريفية بالفيلم - حول زينب الأرملة والمغنية بإحدى الأجواق الموسيقية النسوية التي تضطر بعد وفاة زوجها المعيل الوحيد إلى قبول دعوة امرأة ثرية للإقامة في بيتها الكبير رفقة ابنتها نفيسة (17 سنة ) ، ويحدث بين هذه الأخيرة، المتطلعة إلى عش الزوجية، وحفيدة صاحبة البيت (فطومة)، المتمردة، انجذاب وعلاقة صداقة قوية ومتينة ، لكنها سرعان ما تتعرض للتصدع عندما تعلم فطومة بأن نفيسة تخفي عنها خطوبتها ، فتتوتر صداقتهما . يبدأ الفيلم بتحديد لزمكان القصة على الشاشة بالحروف والأرقام : تطوان 1955 ، ودلالة التاريخ رمزية لأنها تجسد بدء انتقال المغرب من الحجر والحماية إلى الاستقلال ، لكنها تحيل أيضا على قضية لها علاقة بتيمة الفيلم ، ففي نونبر 1955 عاد السلطان محمد الخامس من المنفى ، وكان من أولويات برنامجه التحديثي تحرير المرأة وهوما جسده رمزيا بسماحه بظهور صاحبات السمو الملكي الأميرات باللباس الأوربي خروجا على اللباس النسوي السائد حينها الجلباب والحايك ، مما غدا نقاشا مجتمعيا حادا حول طبيعة اللباس الملائم للمرأة المغربية بعيد الاستقلال . من حيث الكاستينغ ، اختار الطريبق أن يصنع فيلما نسائيا مغلقا ، حيث كل الأدوار الرئيسية نسائية ، بينما بقي ظهور الرجل هامشيا ، فالحاج مالك الرياض لم يظهر إلا في المشهد الختامي وبصوته فقط ، وخطيب نفيسة ظهر طيلة الفيلم صامتا يتواصل بنظراته الحائرة ، وباقي من ظهر من الرجال في أزقة تطوان وفي صالة السينما كانوا مجرد شخصيات لتأثيت المشهد Figurants ، والذكر الذي أعطي مساحة معتبرة في حوار الفيلم كان هو المراهق حفيد صاحبة الرياض في مغامراته العاطفية مع ابنة عمه أم كلثوم ، وربما يكون ذلك كله تم عن قصد في السيناريو الذي قد يكون رأى في هذا الطفل مجرد امتداد لنساء الحرملك . واختيار إنجاز فيلم بجنس واحد مغامرة قلما غامر السينمائيون في ركوبها ، والتجارب قليلة وأبرزها تجربة دافيد لين في لورانس العرب الذي استطاع أن يدخل التاريخ ضمن أفضل عشرة أفلام ناطقة بالانجليزية في التاريخ دون أن تظهر فيه امرأة كاسرا أسطورة استحالة صناعة فيلم دون بطلة حسناء . الدوران الرئيسان في الفيلم أسندا إلى أنيسة العناية (نفسية ) وفرح الفاسي ( فطومة ) التي كان دورها مركبا ومهيمنا في الأحداث ، فلم تكن مجرد سنيدة للبطلة كما في القصص التقليدية التي تجمع البطلة وصديقتها في الفيلم ، هذه الميزة جعلتها تفرض شخصيتها الأدائية ، وتنتزع جائزتين عن الدور في الدورة 17 للمهرجان الوطني للفيلم وفي الدورة الخامسة للمهرجان المغاربي للفيلم بوجدة ، وساهم نجاح الطريبق في الكاستينغ وفي إدارة الممثلين في تمكين ممثلة ثانية من انتزاع تنويه خاص من لجنة تحكيم المهرجان الوطني للفيلم ، يتعلق الأمر ب (فامة الفراح ) التي قيل إنها سيدة كانت تعمل بعيدا عن السينما ، و اكتشفناها جمعيا في دور (ماما عينو) السيدة التطوانية الميسورة التي تمسك زمام تسيير عائلتها وتحافظ على ترابطها في مغربة موفقة لهذا الدور الذي طالما عشقناه في الشاشتين المصريتين الفضية والصغيرة . على مستوى الديكور ، فرض السيناريو ديكورا داخليا مهيمنا تجسد في رياض عتيق بمدينة تطوان ، والمكان هنا يحقق رمزية الفضاء المغلق الذي يتوافق مع فكرة الفيلم في انغلاق عالم نساء الخمسينات ، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بالبنية المعمارية للرياض ذاته في الهندسة المغربية الأندلسية ، حيث تغيب الشرفات الخارجية المطلة على الشارع العام ليظل متنفس ساكنة الرياض هو فناء الدار بدليل أن هذا الفناء شهد في الفيلم مجموعة من طقوس العرس التطواني كإعداد الحلويات التقليدية والحناء و الحفل الموسيقي النسوي والكل في حميمية بعيدة عن تلصص أعين الجنس الآخر، أما المكان الوحيد في المنزل الذي كان يسمح بالاتصال البصري بين الجنسين في الفيلم - كما في الحياة- فقد كان هو سطح المنزل بحكم انفتاحه على الفضاءات المفتوحة للأسطح المجاورة . واختيار رياض تاريخي أضفى على الفيلم جمالية بصرية من خلال حضور فن الديكور التقليدي المغربي المؤثث بالجبص والزليج التقليدي والنقش والرسم على الخشب وغيرها من فنون الصناعة التقليدية المغربية ، ويجب الإقرار بأن النقد السينمائي في المغرب كان في فترة ما يرى في الاعتماد على مثل هذه الديكورات مجرد توظيف للفلكلور غايته استدرار إعجاب الغرب لحضور مهرجاناته أو الظفر بجوائزه والمرور على قنواته التلفزية ، لكن هذه النظرة آيلة للتغيير، لأن الديكورات التقليدية أضحت نموذج حياة عند كثير من الطبقات الاجتماعية بالمغرب ولم تعد واجهة سياحية تزين فضاء الفنادق والآثار التاريخية . فيما يتعلق بتوظيف الموسيقى ، اعتمدت السينما المغربية دوما على الموسيقى التصويرية المؤلفة خصيصا للأفلام لإضفاء الحيوية على السرد الروائي للقصة أولبعث الحياة في كثير من مشاهد الفيلم أو للتأثير على عواطف المشاهد وتوجيه أحساسيه في إطار عملية التلقي ، لكنها اعتمدت أيضا على الموسيقى الآلية البحتة تارة بشكل مدروس ، وأطوارا بدونه بحيث ظلت هذه الموسيقى مجرد خلفية مسموعة للصورة ، لكن الطريبق أراد أن يجدد في توظيف الموسيقى بإدماج وصلات للطرب الأندلسي في الفيلم كانت تؤديها المطربة زينب أفيلال رفقة المجموعة الموسيقية لمحمد أمين الأكرمي ، والحقيقة أنه أتيحت لي معاينة تفاعل الجمهور مباشرة في قاعة سينما كوليزي بمراكش مع التجربة ، ولاحظت أن الآراء انقسمت حولها بين من لم يستسغها ورأى بأنها مقحمة في الفيلم بشكل تحكمي وتكسر إيقاعه بين الفينة والأخرى ، وبين من عبر على استعداده لقبولها إذا كانت المطربة زينب أفيلال تلعب في الفيلم دور الراوية la narratrice ، إذ بدون التسليم بهذا الدور، فإن هذه الوصلات تظل منفصلة عن سياق الفيلم ويمكن قصها دون تؤثر في بنية الفيلم . وأكاد أجزم بأن اختيار الملابس كان من أكبر التحديات التي واجهت فريق العمل ، لتوقف حسن اختيارها على التوفق في نقل أجواء الخمسينات ، ونستطيع القول بأن تصاميم القفطان التقليدي المغربي بمختلف أشكاله لم تطرح مشكلا للراهنية المتجددة للأزياء التقليدية المغربية في سوق الموضة ، لكن لاحظنا اشتغالا يٌحسب للفيلم على تصاميم الجلباب النسوي واللثام من حيث اختيار نوع الأثواب وطبيعة الألوان وطابع الخياطة التي تحيل كلها على المرحلة الزمنية للقصة ، كما أن الفيلم وفق في اختيار اللباس الأوربي للبطلة نفيسة وللطفل المراهق حفيد صاحبة الرياض ، فيما لم يحالفه التوفيق في نظري في اختيار أسلوب خياطة بدلة خطيب نفيسة التي بدت أكثرحداثة مقارنة بموضة أواسط الخمسينات . من حيث زوايا التصوير، اعتمد المخرج في كل مشاهد الفيلم على الكاميرا الثابتة التي لاءمت طبيعة التصوير الداخلي في الرياض ، ونجحت في نقل التفاصيل الصغيرة في العمارة واللباس وغيرها ، فأضفت مسحة جمالية على الفيلم حرضت المتلقي على التأمل والتفاعل مع أجواء الفترة . في أول لقاء للفيلم مع جماهيره في تطوان بمناسبة عرضه الأول في الدورة 21 لسينما دول البحر الأبيض المتوسط ، تحدثت الصحافة عن استنكار من شاهدوا الفيلم لتعرضه لظاهرة السحاق فيما اعتبروه إساءة للمرأة التطوانية ، وللإنصاف فإن المشاهد المباشرة لم تتعد لقطة من ثواني بين البطلتين الرئيسيتين بجانب إشارة على لسان فطومة بتجدد الحب القديم بين ماما عينو وزينب أم نفسية ، وعدا هذا فإن السيناريو اعتمد أسلوب الإيحاء والترميز البعيدين عن الإثارة والابتذال ، لذا يجب على الجميع التحلي بالروح الرياضية والإقرار بأن الظاهرة معروفة وفشت بشكل كبير في الفترة الزمنية للقصة بسبب الكبت العاطفي والحصار المضروب على الاختلاط بين الجنسين . على أن ما يستدعي وقفة متأنية هو التقييم الجماهيري المستند إلى المعايير الأخلاقية والذي أصبح متحكما في الآونة الأخيرة مستفيدا من الفورة الرقمية ومن قوة التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي ، فالانسياق وراء أحكامه من شأنه أن يهدد حرية الإبداع السينمائي ببلادنا ، فالأفلام التي لا تستجيب لمقومات المشاهدة العائلية كانت موجودة دائما منذ دخول السينما إلى المغرب ، والفرق أن من لا يرى حرجا في مشاهدتها كان يذهب إليها ، ومن كان يرى خلاف ذلك كان يتجاهلها ، ومشكلتنا في المغرب أننا لا نعي بأن السينما في العالم كله لم يعد من كنهها أن تروج للمثل والقيم العليا وأن تتعاطى للوعظ والإرشاد ، وإنما أصبح من رسالتها أن تنقل الواقع مهما كان مؤلما وصادما، وحماية جرأتها في التعبير هي من مقومات تحصين مجمل الحريات العامة بالبلاد . ومما يسجل للفيلم ، التفاتتان مترابطتان همت الأولى الاحتفاء بالشغف السنيفيلي عند مغاربة الخمسينات ، فيما همت الثانية التفاتة خاصة للموسيقار فريد الأطرش ، ففي خروج عن رتابة أحداث الرياض ، نظم الطريبق (السيناريست ) خرجة للنسوة لمشاهدة فيلم بقاعة سينما أفينيدا التاريخية بتطوان ، ويقدم الفيلم نظرة ايجابية على درجة ارتياد المرأة لقاعات السينما في مغرب الخمسينات من حيث كثافة إقبالها وظروف حضورها ومشاهدتها ، والمفارقة أننا كجيل للسبعينيات عايشنا ضعفا واضحا لارتياد المرأة للسينما ، مما يجعلنا نقطع بأن الفيلم قدم هنا نظرة وردية تبقى محمودة في السينما التي تسعى دوما إلى تقديم ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن ، أما فريد الأطرش فقد احتفى به الفيلم من خلال مستويين ؛ أولهما ترديد بطلات الفيلم لأغنيته ياجميل ياجميل التي كانت من أنجح الأغاني الشعبية التي بصمت الموسم الغنائي 1955 في مصر والعالم العربي ، والمستوى الثاني أن الفيلم داخل الفيلم الذي حضرته بطلات الأفراح الصغيرة كان فيلمه الشهير قصة حبي إنتاج العام 1955 ، وخلال مشهد ولوج قاعة السينما برزت إحدى الهفوات القليلة التي سقط فيها الفيلم في سعيه لنقل أجواء الخمسينات ، فقد اعتمد الطريبق أفيشا لفيلم قصة حبي غلاف فيلم DVD الذي سوقته شركة السبكي في مصر حيث يبدو فريد متقدما في السن مقارنة بهيئته بتاريخ إنتاج الفيلم ، مع أن الأفيش الأصلي لفيلم قصة حبي مشهور لدى السنيفيليين عموما وجمهور فريد الأطرش خاصة وبقليل من البحث كان بالإمكان الوصول إليه . على أن المخرج / السيناريست وفق في ربطه بين قصة فيلم فريد الأطرش وقصة فيلمه واللذان عالجا معا فيما عالجاه قضية إرغام الفتاة الشرقية على الزواج بشخص لا تحبه ، وإذا كان فريد وأميرة ( الممثلة إيمان ) لم يتزوجا في فيلم قصة حبي نتيجة تفضيل أهلها لشخص صاحب نفوذ وسلطة ، فإن نفيسة تكتشف في نهاية فيلم أفراح صغيرة هوية الشاب الذي كان تبادله نظرات الإعجاب في الحارة والذي لم يكن سوى الطبيب الشاب الذي رتبت نساء الرياض ووالدته عيادته لها بداعي مرضها حتى يتعرف إليها وتتعرف إليه في زمن لم يكن بمقدور الخطيب النظر إلى خطيبته قبل البناء ، كانت نهاية سعيدة أعادتنا إلى النهايات السعيدة على الطريقة الأمريكية Le happy end والتي افتقدناها في السينما المغربية منذ مدة طويلة نتيجة نزوع السينمائيين المغاربة لموضة النهايات المفتوحة التي تستفز خيال المشاهد .