قال المفكر محمد نور الدين أفاية، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، إنّ الحرّيات تأتي بالتدرج، وليس دفعة واحدة، مشيرا إلى أنّ العلمانية لم يتم وضع القانون المنظم لها في فرنسا، منذ ثورة سنة 1789، إلا سنة 1905.."نحن نريد حرق المراحل في كل شيء"، يقول المتحدث. وأضاف أفاية، الذي كان يتحدث في محاضرة ألقاها بأكاديمية المملكة، أنّ مبدأ التدرّج ينطبق أيضا على حقوق المرأة، مستدلا بالنموذج الفرنسي، إذ لم يُتح للمرأة حق التصويت في الانتخابات إلا في الحرب العالمية الثانية، ولم يُسمح لها قانونيا بالترشح في الانتخابات إلى سنة 1968. واستطرد أفاية، الذي تناول في محاضرته موضوع "الاعتراف بالحداثة"، بأنّ مفهوم الحداثة "في حاجة دائمة إلى مراجعة وإعادة تحديث، حسب السياقات والتجارب، واجتهادٍ لإبعاد بعض الأبعاد الرومانسية والسحرية التي كانت تحضر بأشكال مختلفة عند استعمال الحداثة". واعتبر المتحدث أن بيئة الحداثة في المغرب يطغى عليها التقليد المتمثل في الذهنيات وفي التشكيلة الاجتماعية، ووجود مقاومة تلقي واستقبال الحداثة، مضيفا إلى ذلك "فوضى المدينة"، وزاد موضحا: "من الصعب إنجاح إصلاح واستنبات الحداثة إذا لم ينصلح الفضاء والمكان الذي يتحرك فيه الناس وأجسادهم". الفيلسوف المغربي قال إن المغرب يعاني من "فوضى حقيقية" في هذا المجال، في ظل غياب أي تعريف قانوني لمفهوم المدينة، وأضاف: "في الترسانة التشريعية لا نجد ما معنى المدينة، ولا نملك مفهوما لها، لأننا نعاني من فوضى حقيقية". الفائز بجائزة أفضل كتاب عربي العام الماضي، وذلك عن كتابه "في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية"، قال إن الدعوة إلى الحداثة أو المطالبة بها يجب أن تنطلق من دلالاتها الفاعلة والفعلية وليس من التحديث المغشوش أو الحداثة المشوهة، أو الحداثة الصماء التي لا أصداء لها، أو الحداثة التي لا يمكن البناء عن تراكماتها ومكتسباتها. وفي علاقة الديمقراطية بالحداثة، قال أفاية إنّ توطين ثقافة الديمقراطية تقتضي أن تتساوق مع يقظة فكرية وإعادة بناء بيئة ثقافية ومجال سياسي قادر على الاعتراف بالحداثة وإنتاج التوافق الضروري لإنجاح شروط استنباتها، انطلاقا من الانخراط الفعلي في إنتاج المعرفة العصرية النافعة. واعتبر أفاية أن الثقة في الفعل السياسي في الزمن الراهن تواجه التباسا كبيرا، ما بين الديمقراطية والليبرالية السياسية؛ "لذلك نجد ازدهارا للخطاب الليبرالي وتراجعا الديمقراطية، ليس في المجتمعات التي لم تتمكن من استنباتها، بل حتى المجتمعات الديمقراطية"، حسب تعبيره. وفي الوقت الذي تتلمس شعوب طريقها باحثة عن أفق ديمقراطي، يرى أفاية أنه لا يمكن فرض نموذج جاهز للديمقراطية، على اعتبار أن مصادر الثقافة الديمقراطية متنوعة ومتعددة، كما أن الدولة الديمقراطية تخلق مجموعة من الممكنات دون معرفة الممكن القابل للتحقيق من بينها، كما أن الفاعل السياسي يجد نفسه موزعا بين وعود اللحظة الانتخابية، وبين الحدود التي تفرض عليه في سياق اتخاذ القرار. وبالنسبة لحالة المغرب، قال أفاية إن ثمّة ضرورة إلى الذهاب أبعد من الاقتصار على الإجراءات الانتخابية، "ففي ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الموسوم بالأزمة، تجب إعادة النظر في أنظمة التنظيم والضبط التي تنهجها الدولة، واقتراح فهم جديد لما يشكل الروابط الاجتماعية المؤسسة للجماعات الوطنية"، حسب تعبيره. وأردف المتحدث بأن تراجع الثقة في المؤسسات تتوقف على توافر شروط مقترنة بالحكم الجيد، والاستقامة والنزاهة، منتقدا لجوء السياسيين إلى "اللغة السياسوية"، التي قال إنها مدمرة للثقة. "وحين ندمر الثقة ندمر معها القدرة على الفعل، ونفرغ المؤسسات من مضامينها"، يضيف أفاية. ويرى الفيلسوف المغربي أنّ النظام التمثيلي أبان عن حدوده، مهما كانت شرعيته ومستنداته القانونية، إذ يخلق فئات غير مشاركة، أو ما سمّاه "منسيّي التمثيل"، إما نتيجة العزوف عن السياسة أو الوجود خارج دائرة المشاركة وعدم الاهتمام بالعملية الانتخابية. وأردف أفاية بأن النظام التمثيلي قد يسعى إلى تحسين أدائه بتغيير نظام الاقتراع، أو سن قوانين تلزم المواطنين بالتصويت أو تخصيص "كوطا" للنساء، "ولكن هذه الإجراءات غير كافية، لذلك لا بد من ابتكار أشكال غير انتخابية للتمثيل. ولا بد من التفكير في مؤسسات ليست بالضرورة منتخبة، من قبيل مجالس الضبط والمراقبة"، حسب تعبيره. وختم بالقول: "الواقع يفرض عدم اختزال الممارسة الديمقراطية في صورة المواطن الناخب، بل يجب توسيع دائرة مفهوم المواطنة إلى مفهوم المواطن المحاسب المراقب"، مشيرا إلى أن المغرب دخل في هذا المنطق، "ولكن تطورات الأمور توجب مناقشات حقيقية حول ما تحقق وواقعه ومآلاته"، على حد تعبيره.