سأبين في هذه المقالة أن الإيقاع الشعري الأمازيغي يتميز بجمعه بين ثلاثة أنواع من الإيقاع، وهي الإيقاع المقطعي والإيقاع النبري والإيقاع الدلالي .. وذاك مظهر من مظاهر عبقريته. كيف تبني اللغات الطبيعية إيقاعاتها الشعرية؟ تختلف اللغات في طبيعة الأصل الذي تبني عليه إيقاعاتها الشعرية. فمنها من يعتمد على تريب النبر (النبر العالي والنبر المنخفض)، ومنها من يعتمد على ترتيب المقاطع (ضعيفها وقويها)، ومنها من يعتمد على ترتيب المعاني. من ذلك مثلا أن الإيقاع الشعري الهندي الكلاسيكي (الڤيدي) يعتمد في موسيقيته على نظام النقر، فتكون المقاطع إما بنقر خفيف (قد نمثّله بالصوت "دا"، وإما بنقر ثقيل (قد نمثله بالصوت "دوم"). فيكون كل إيقاع من الإيقاعات متوالية من النقرات الخفيفة والثقيلة مرتبة بعضها مع بعض بنحو معلوم. ومن أشهر الإيقاعات عند الهنود وأكثرها قدسية ما يُعرف بإيقاع الڭياتري الذي ميزانه: دُم دا دُم دُم/ دا دُم دا دا / دُم دا دُم دُم/ دا دُم دا دا / دُم دُم دُم دُم/ دا دُم دا دا. أما الشعر العبري القديم فقد فقد كانت تُبنى موسيقيته على إيقاع يجمع بين "التوازي الدلالي" وتوزيع النبرات القوية (يوليوس لي وإدوارد سيڤرس 1887). فالتوازي الدلالي يكون بالترادف ("وَلْيَجْرِ الحق كالمياه؛ والبِرّ كنهْرٍ دائمٍ" سفر عاموس 5:24) أو بالتضاد ( "الابن الحكيم يسر اباه .. و الابن الجاهل ثقل على أمّه" سفر الأمثال 10:1) أو بغير ذلك، لتوزَّع النبرات القوية على الأجزاء المتوازية بشكل متوازن. ويعتمد الإيقاع في الشعر العربي على ترتيب الصوائت والصوامت تجتمع بنحو معلوم في وحدات مقطعية أصلها فعولن ، مفاعيلن ، مُفاعَلَتُن ، فاعِ لاتن، فتبنى الموازين الشعرية (التي تسمى ب"البحور") من هذه الوحدات. فيكون وزن "البحر الخفيف"، مثلا، فَاْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِ لُنْ فَاْعِلاتُنْ ** فَاْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِ لُنْ فَاْعِلاتُنْ، ووزن "البحر السريع": مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُوْلاتُ * مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُوْلاتُ، وهكذا. وتعتمد موسيقية الشعر الإنجليزي (والجرماني عموما) على النبر، فتقيم وحداتها الإيقاعية (التي تسمى ب"الأقدام" feet) على أنماط يتراتب فيها النبر الضعيف والقوي بأنحاء معلومة. بحيث يستطيع كل متكلم أصلي للغة الإنجليزية أن يدرك سمعيا بأن البيت الشعري التالي المأخوذ من الصونيت 18 لشكسپير ينبني على ميزان شعري مكون من خمسة "أقدام" يحتوي كل منها على مقطع منبور بشكل ضعيف متبوع بنبر قوي: So long as men can breathe, or eyes can see, So long lives this, and this gives life to thee. أصول الإيقاع في الشعر الأمازيغي ينبغي أولا أن نذكر أن الشعر الأمازيغي أنواع، منه التأملي الذي يسمى ب"تامديازت" (مخلص 2004)، ومنه القصير الذي يستعمل في الأهازيج، وهو ما يسمى ب"إيزلان" (مفرده "إزلي")، ومنه "تاماوايت" وهو الشعر العاطفي. وهناك من يستعمل لفظ "أمارڭ" ليشير إلى الشعر على وجه العموم بدون تخصيص النوع. والمعنى الحرفي ل"أمارڭ": الشوق كما في قول الشاعر: أمارڭ ئشدّان أيلّا يان ياڭّوڭن وينست ما أعظم آلام وأشواق من بعُد عن حبيبه لذلك وجب أن نشير إلى أننا نستعمل لفظة "الشعر" بأعم معانيها (أمارڭ) ولا نخصص جنسا بعينه. يتميز البناء الموسيقي للشعر الأمازيغي عما يقابله في اللغات الأخرى بجمع ثلاثة أصول إيقاعية وهي: الإيقاع المقطعي، والإيقاع النبري، والإيقاع الدلالي. أولا الإيقاع المقطعي: وهو ترتيب منظم للمقاطع الطويلة والقصيرة في إطار مقياس عروضي يسمى ب"تالالايت". وقد عدّ الحاج محماد ألبنسير 11 وزنا على هذه المقاييس يُسمى كل منها ب"أسيف"، كما وضع لكل منها مثالا، يُسمّى ب"أسقّول"، يذكّّر ب"تلالايت" في كل "أسيف" (عمر أمرير 1985). وقبل أن نمثل لهذه الأوزان (ئسافّن) تجدر الإشارة إلى أن الأصل في تالالايت ترتيب نوعين من المقاطع بأنحاء مختلفة، أحدها قصير، عادة ما يدل عليه المنشد ب "أَ"، وهي همز مفتوح، أو "لا" أو "دا" لا يفرق بينها سوى أن "أ" عادة ما تتصدر تالالايت، و"دا" تتبع مقطعا عالي النبر، و"لا" تكون في مواقع غير تلك. أما إذا كان المقطع طويلا، فإن المنشد يدل عليه بالمقطع "لاي" الذي قد يغلق بالحرف "ل" فيصبح المقطع الطويل "لايل"، أو بالحرف "د" فيصبح المقطع الطويل "لايد". انطلاقا من هذا يمكن أن نترجم كل تالالايت إلا متوالية رقمية نشير فيها للمقطع القصير بالرقم 1 وللطويل بالرقم 2، مما سيكشف لنا عن طبيعة الترتيب في كل ”أسيف“ من ”إسافن“. وفي ما يلي جرد لستة ئسافّْن من أصل إحدى عشر مع ال"أسقول" المناسب لكل منها، بحيث نضع لكل أسيف السلسلة الرقمية التي تمثّل تراتب المقاطع الطويلة (وهي المعبر عنها برقم 2) والقصيرة (وهي المعبر عنها برقم 1). أسيف أمزوارو: ألا لاي لالالا لايل ألايلالا دايل وأسقّوله: أوا بيسمي لّاه أبيسمي لّا راكون زوورغي سلسلته الرقمية: 112111212112 أسيف ويسّين: ألا لايل ألالال ألالا لايد ألايل وأسقّوله هو: "ئوا بيسمي لّاه أيوا أيمي نو بدو ساول" سلسلته الرقمية: 11211211212 أسيف ويسّكراض: ألايل ألادالايل ألالال أل ألا لايل لي أسقوله: أبيسمي لّاه أورّحمان تّينيت أيمينو سلسلته الرقمية: 112111211211121 أسيف ويسّ كّوز: ألالاي ألالا دايل ألالال ألالي أسقوله: ئوا بيسمي نبدا داغ س ربّي أر نساوال سلسلته الرقمية: 1121112112111 أسيف ويسّموس: ألالايلا لالالايل ألا د ألي أسقوله: ئوا بيسمي لّاه ئڭا كراس أدّوغي سلسلته الرقمية: 11211121211 ولو تأمل المرء في هذه الأوزان لوجد أن كل منها يحتوي على ترتيب تماثلي رياضي دقيق. ف"أسيف ويسّكراض" مثلا يبدأ بمقطعين ضعيفين متبوعين بواحد قوي، ثم ثلاثٍ ضعيفة متبوعة بواحد قوي، ثم مقطعين ضعيفين فواحدٍ قوي، لتُغلق تالالايت بمقطع واحد ضعيف. ونفس الشيء ينطبق على أسيف ويسّ كّوز سوى أن تالالايت فيه لا تُغلق بمقطع ضعيف. أما أسيف ويسّين فهو مقطعان ضعيفان متبوعان بقوي، ثم ضعيفان متبوعان بقوي، ثم ضعيفان متبوعان بقوي، لتُختتم تالالايت بضعيف متبوع بقوي. ثانيا: الإيقاع النبري: وهو أن المنشد عادة ما يقسم تالالايت إلى جزءين أو ثلاثة أجزاء، عادة ما يكون آخرها ربع الميزان الشعري. ويدل المنشد على نهاية الجزء الأول بوضع نبر عال على آخر مقطع فيه ويبدأ الجزء الموالي بحرف "د". فإذا حسبت عدد المقاطع في أسيف أمزوارو مثلا (ألا لاي لالالا لايل ألايلالا دايل) لوجدته مكونا من 12 مقطعا، ينبّر الحادي عشر منها وينخفض النبر في الثاني عشر الذي يبتدأ ب"د". وعندما يكرر هذا النظام في كل الأبيات يعطي الإحساس بنمط إيقاعي يعلو على مستوى تالالايت ويربط كل القصيد بإيقاع جميل. ثالثا الإيقاع الدلالي: وهو أن الشعر الأمازيغي ميال إلى إغلاق كل وحدة من وحداته الدلالية بشحنات دلالية قوية ذات مغزى خاص وذات كثافة تعبيرية يتفاعل معها المتلقي بشكل خاص. ونجد هذه الأساليب الإيقاعية الدلالية في الشطر الثاني من الشذرات الشعرية التي تسمى ب"تاحواشت" أو "تييّْت" (المكونة من شطرين) وفي آخر شطر من أشطر القصائد الأطول. ومن الأمثلة على تيحواشين (جمع "تاحواشت") التي تستعمل هذا النمط الإيقاعي ما يلي: 1- ئكابر ؤكشّوض، ئفكاس ربّي أشاقّور. ئكابر ؤڭلّيد، ئكساس ربّي لييّام. استكبر العود، فابتلاه الله بالفأس. واستكبر السلطان، فابتلاه الله بالعمر القصير. (بونفور وآخرون 2011) يغلق هذا البيت بالحديث عن "السلطان" وهو مما قد لا يتوقعه المتلقي عندما يتلقى كلام الشاعر الأول عن العود الذي يبتليه الله بالقطع. فجوهر الإيقاع الدلالي مفاجئة المتلقي بكلام يبتعد عن الكلام الأول في مضمونه الحرفي وتتحد به في مضمونه المجازي. 2- ئمطّاون أكْ ئلازمن ماش ؤرا تّلّات آوالّي يفلن آجدّيڭ ئكسا اولّي غ ؤساغور كان عليك أن تذرف، ولكنك لا تبكي يامن ترك الزهور ليرعى قطعانه في الهشيم! (عمر أمرير 1985) تُغلق تاحواشت في هذه الحالة بتحديد المخاطب ونعته بمعنى يفضح حقيقته بشكل مجازي. فهو الحبيب الذي هجر من أخلص في حبه وراح يبحث عن الحب في مكان قفر لا كلأ فيه ولا حياة، وهو ما يُدل عليه هنا ب"أساغور" (الهشيم). 3- ئرا ئلس ئنو توزّالت، أفوس ئرا أسيف أضار أيران د لڭيد، أشكو سُّدان ؤكان يستحق لساني ويدي القطع أما قدمي فتستحق البتر لأنها مستعدة للإنطلاق. (بونفور وآخرون 2011) يختم المعنى في تاحواشت هاته بذكر سبب اقتناع الشاعر بما ينبغي أن يحل من عقاب على لسانه ويده، وهو أن رجله قد قررت الرحيل بعيدا عن المحبوب، فهي أيضا تستحق البتر. نجد هذا النمط من الختم الإيقاعي للمعنى في القصائد الطويلة أيضا. وفي ما يلي أمثلة على ذلك: آسّْ ليغ ريغ أكّ أسيغ أوينو غ تاسّاست نشرك ديك نّيت دلموحيبّا تداوّايت ؤراغ ئحاضر أبلا ربّي نڭري ديدك ياسي ؤنوّاش نتّا أعكّاز نس ئزايد. أيلّيغ ئلكم ئمي نتڭْمّي نغّوالي دساوالغ. ئنّاس ؤنصحاب ئنو: ماد ئزدوقّورن؟ ئنّاسن ؤنوّاش: "ميدّن كاداغ يصرفن، أتيني تريت لمال أيڭ لامان ڭري ييدك." ئنّازد غّوالّي د نشرك ئمرزيڭ ديمّيم: "سير أيا نوّاش، نكّي ؤر نڭي تاطصا ن ميدّن." يوم أردت أن أنقذك ياحبيبي من النائبات شاطرتك الإخلاص والحب والحماس ولم يكن شاهدا علينا إلا الله أخذ الواشي عكازه وذهب إلى أن بلغ باب المنزل فقال له حبيبي: "من الطارق؟" فأجاب الواشي: "أنا مبعوث من بعضهم، فإن شئت المال فها هو عربوني لديك." فرد عليه الذي شاطرته الحلو والمر: "إذهب أيها الواشي، أنا لست أضحوكة الناس!" (عمر أمرير 1985) هذه القصيدة دراما يشكو فيها الحبيب رغبة الأشرار في الإستيلاء على محبوبه، فيخلق تشوقا عند المتلقي ليعرف ما سيكون رد فعل هذا المحبوب من محاولات الإستيلاء هاته، لتكون المفاجئة السعيدة في آخر شطر أن المحبوب لا يُغوى بكثير المال. نفس النمط نجده في هذا المقطع المنسوب إلى موحا حمو أوالطالب: أولّاه أمتاد هلّي يوفا يان ئميكّ ؤسيكي غ لبوران يونفن أغاراس، أڭّيس ئقّن أي تيوڭاّنس ئقنعو فلّاس أف لميتل ؤوحبيب أف ساوالغ ئمّا أكال أينّا مّو تڭيت أمازير تاسيم لغلّات (عمر أمرير 1985) والله لو وجد المرء بقعة صغيرة من أرض البور المنحرفة على الطريق، فيحرثها، ويقنع بها. هذا مثل أضربه عن الحبيب، أما الأرض فكل مكان تسمده ستحصد محصوله الجيد يباغت الشاعر المتلقي بصورة في آخر المقطع مقتضاها أن الأرض كيفما كانت تعطي حصادها إذا سُمّدت، ليستنتج المتلقي أن الشاعر لم يكن يعطي نصائح فلاحية في بدء قصيده كما كان سيُفهم في الأصل. وفي ذلك مباغتة للمتلقي بما لم يكن يتوقعه. ويقول شاعر آخر مقدما بعض النصح لمتلقيه: ؤر ئفّال تيفرغي غ ئخفاون ن ئسوتار دّونيت، كا سنرا أڭّيس نمشاراك لخير لْعيب أ يڭان أزور، أ ؤر ئس ئحارّو يان أكوصّاغ: هان زّرب ؤر نيت ؤكان ئليق. أكوصّاغ غ تفسّي: دا تّلاق أمر س وايّيس. أكوصّاغ: نورّي داغ نوصّا فلّاك: وانّاك ئنّان: "أڭّنّ س وانو"، تينيت أس: "أڭّوات ئس، ألّن ستلّام، أس لّيغ". أقسم المنشار وأقسم حامله أن لا يتركا اعوجاجا على جانبي عارضة الخشب فلا يمكن أن نتعاون على الإحسان إلا في الحياة الدنيا. أما الشر فهو كسطح البيت لا يسرع أحد بالصعود إليه. أوصيك أن التسرع لا يجوز أوصيك عن السرعة: إنها تجوز، فكّر في أمر المرسول. أوصيك وأوصيك مرة أخرى: إذا قال لك أحدهم: "أنظر إلى عمق البئر" أجبه وقل له: "فلتنظر أنت. العين التي لي هي لك أيضا!" (بونفور وآخرون 2011) يختم الشاعر قصيدته بحوار متخيّل بين الملقي وصاحبه لا شك أنه سيثير عند الملقي قليلا أوكثيرا من الضحك كما سيعمق فهمه لمقصود الشاعر في ما سبق من إنشاده. وهو إذ يفعل ذلك يغلق هذا المقطع الشعري ويعلن إكماله للمعنى. خلاصة يتميز الإيقاع الشعري الأمازيغي بجمعه جمعا جميلا بين الإيقاع المقطعي والإيقاع النبري والإيقاع الدلالي .. ووهذا الجمع مظهر من مظاهر عبقرية الشعر الأمازيغي.