"فرق كبير أن تعيش في السجن، وبين أن يعيش السجن فيك".. تذكرت هذا المقطع البليغ من إحدى روايات نجيب الكيلاني وأنا أتلقى خبر الإفراج عن 190 معتقلا يتوزعون على ملف خلية بليرج، وملف ما يُسمى بالسلفية الجهادية..وآخرون..لقد كانت لحظة استقبالهم بمقر المجلس الوطني لحقوق الإنسان عرسا بهيجا.. تعالت فيه الزغاريد وامتزجت فيه الدموع بالفرحة.. لحظة تاريخية بامتياز ستظل موشومة في ذاكرة المغرب الحديث.. وفي هذا الصدد، ما أحوجنا إلى أن نقرأ قريبا مذكرات للمفرج عنهم في القريب، سيما وأن أدب السجون، بغض النظر عن معاناة المكتوين بناره، يظل أدبا رائعا يخرج من الأعماق، ومن ذلك ما خطته قبل أسبوعين أنامل العبادلة ماء العينين، في رسالة إلى المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية مدبجة بلغة رشيقة، قرأتها زوجته، يقول في أحد مقاطعها "لقد بات واضحا أننا كنا، ولا زلنا، رهائن سياسيين وضحايا بلطجية أمنية وبلطجية سياسية بنت صرحها يوم 20 فبراير 2008، أسست بنيانها على شفى جرف هار، انهار بها يوم الفرقان المغربي يوم 20 فبراير 2011.. يا لمكر الله!.. نفس التاريخ.. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. وتلك الأيام نداولها بين الناس، وما يعقلها إلا العالمون!"، ف"لشباب الربيع المغربي بطاقة عرفان وتقدير، ولكل الشرفاء الذين رابطوا سندا لنا، الشكر الجزيل والثناء الجميل".. "إننا نعيش مرحلة فريدة وفترة ربيعية استثنائية، امتزج فيها أريج ربيع المولد النبوي بعبق الربيع الديمقراطي العربي، في تناغم بديع مع ربيع الطبيعة، فتبارك الله أحسن الخالقين!". يقول النقاد، إن أصدق أنواع الأدب وأعذبه (من العذوبة والعذاب معا) أدب السجون الذي يسطع وراء الشمس رغم العتمة الشديدة والظلام الدامس.. لأنه يولد من رحم معاناة أصحابه الذين عاشوا في عالم الظلام ردحا من الزمن، وكتبوا داخل جدرانه، وطبيعي أن يكون لتلك الروائع الأدبية طابع خاص.. ربما لأن القارئ العربي ولد من رحم المعاناة، فهو لا يجد ذاته إلا في مطالعة ما يولد منها، أو لأن بعضا من تلك الآداب (أو العذاب، كما يحب أن يسمي طلاب كليات الآداب كلياتهم)، يتجاوز أن يكون حديثا ذي شجون إلى كونه حديثا ذي سجون، ليس لكثرة المعتقلات والسجون العربية، ولكن لوجود معتقل كبير اسمه الوطن العربي، ومن يشرع في الكتابة داخله يجد نفسه مُقيدا بسلاسل ثقيلة، من طينة اجتماعية وفكرية واقتصادية وسياسية وفنية، حتى وهو في مكتبه".. في المغرب لو جمعنا ما كتبه معتقلون سابقون من مذكرات عديدة عن سنوات الرصاص، التي حولتها السينما الصفراء بالمغرب إلى سنوات مكتوبة بقلم الرصاص ك"تازمامارت" لمحمد الرايس، و"حديث العتمة" لفاطنة بنت بيه، و"الزنزانة رقم 10" لأحد المرزوقي، و"العريس" لصلاح الوديع، و"مجنون الأمل" لعبد اللطيف اللعبي)، لحصلنا على أرشيف ضخم ممزوج بالعذاب والأدب أيضا.. وبمناسبة حلول فصل الربيع وهبوب نسائم الحرية أسوق إليكم بعضا من حديث ذي شجون وسجون لرجل قضى أزيد من 20 سنة تحت الأرض، لم ير فيها غير جدران زنزانته العاشرة المظلمة، يقول أحمد المرزوقي، وهو يصف أول لقاءه بالطبيعة "وكانت أول مرة بعد 20 سنة تقع فيها عيناي على الطبيعة، هذا الشعور لا يزال يسكنني إلى اليوم، أحسست بملكوت الله سبحانه وتعالى، بالأرض الشاسعة بالخضرة بالجمال، أحسست وكأني أدخلت إلى الجنة، وكان أمامي وادي، قيل لي أتدري أين أنت؟ قلت لا، قالوا لي: أنت في بلدتك، هذا وادي أولاي، ولأول مرة كان بعض الأطفال يمرون بحقائبهم على ظهورهم وكانوا منشغلين وتسمرت عيناي على تلك الوجوه البريئة وهم يستطلعون وينظرون إليّ وأنا في منظر شاحب، وكانت أول مرة تقع عيني على أطفال".. أمثال هؤلاء الأطفال هم من عانق بحرارة آباءهم المفرج عنهم، صبيحة يوم الخميس الماضي، لكن ماذا عن باقي الأطفال الذين يترقبون بعيون بريئة دامعة الإفراج عن آبائهم؟ هؤلاء الآباء الذين سيردد كل واحد منهم، بعد الإفراج عنه عبارة ذات معنى وردت على لسان بطل رواية "ليالي السهاد" لأديب السجون والمعتقلات، نجيب الكيلاني رحمه الله، يقول فيها "آه.. لأول مرة منذ سنين أنام قرير العين دون سهاد... تُرى هل ذهبت ليالي السهاد إلى غير رجعة؟".. يُجيبنا العبادلة ماء العينين، قبل إعلان الإفراج عنه بحوالي 10 أيام، في رسالته المذكورة أعلاه "أجل، إننا نعيش لحظة سرور، لكن حذار من الغرور... إنها لحظة مفصلية تتأبى وأد حلمنا الجميل، فالتعديل مهم.. لكن التنزيل والتفعيل أهم.. نحن أمام ورش تاريخي وتحول جريء يرهن مستقبلنا ومستقبل القابل من الأجيال..". [email protected]