شهد الحرم الجامعي في عدة مدن من قبيل مراكش وفاس والراشيدية مجموعة من الاصطدامات بين قوات الأمن والحرس الجامعي من جهة وفلول الطلبة من جهة أخرى. وقد أسفرت هذه الاصطدامات عن أحداث دامية تمثلت في وفاة بعض الطلبة وجرح العديد منهم وحدوث كسور للبعض الآخر. و إذا كانت هذه الاصطدامات أصبحت مرتبطة بالمشهد الجامعي منذ وقت طويل ؛ فإن هذا لا يمنع من أن يتساءل المرء باستنكار عن الأسباب التي حولت الحرم الجامعي المغربي من إطار للتفكير و التحصيل و من مجال للحوار والنقاش يتمتع فيه الأفراد ، من طلبة وأساتذة وأطر و باحثين ، بعدم التعرض لحرمات مسكنهم وحريتهم الفكرية وسلامتهم البدنية والجسدية ، إلى معترك سياسي وعسكري تمارس فيه كل أنواع التنكيل و التعنيف و إلى ساحة حرب تمارس فيها الأساليب التكتيكية والاستراتيجية العسكرية من دفاع وهجوم وتموقع وتخندق ... ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع يمكن أن نتمثل عاملين رئيسيين : -العامل الأول يتجسد في تسييس الحرم الجامعي. -العامل الثاني يتلخص في عسكرة الحرم الجامعي . 1 - تسييس الحرم الجامعي عكست الجامعة المغربية منذ نشأتها كل الصراعات التي كانت تعتمل بها الساحة السياسية بالبلاد وهكذا انتقلت العدوى السياسية إلى رحاب الجامعة وانتشرت في مختلف دواليبها الإدارية و العلمية والتأطيرية وذلك لافتقاد المؤسسة الجامعية لمختلف الحصانات التي تمكن من تدعيم استقلاليتها الفكرية والتنظيمية. -1-1 افتقاد الحصانة السياسية إن غياب أي توافق سياسي بين الفرقاء حول مسألة التعليم بالمغرب ، حول هذه المسألة من قضية وطنية بعيدة عن كل مزايدة سياسية إلى قضية سياسية تتقاذفها التيارات الإيديولوجية وتتجاذبها الصراعات السياسية . وقد تجسد هذا التسييس خاصة داخل الحرم الجامعي نتيجة لعدة معطيات من أهمها : - معطى سوسيولوجي يتمثل في كون الجامعة شكلت الإطار الأساسي لتفريخ النخب السياسية الوطنية وانفتاحها على مختلف الشرائح الإجتماعية خاصة أبناء الفئات الوسطى والشعبية في إطار مبدأ تعميم التعليم - معطى حزبي تجسد بالخصوص في استقطاب الأحزاب المغربية لأهم قواعدها وأطرها من القطاعات الطلابية . - معطى سياسي تجلى في كون المعارضة بالمغرب سواء كانت يسارية أو إصلاحية أو أصولية حولت الجامعة إلى أحد معاقلها الرئيسية في مواجهة الحكم في غياب مناخ ديمقراطي ملائم يسمح بممارسة سياسية طبيعية . - معطى ثقافي تمثل في التأثيرات الإيديولوجية الخارجية التي وجدت صداها في الجامعة المغربية ، فالكتابات الماركسية بتلويناتها الماوية والغيفارية والهوشيمنية و الكتابات الأصولية بتلويناتها القطبية و المودودية... كانت غالبا ما تجد التربة الخصبة في رحاب الجامعات المغربية وبين صفوف طلبتها و أطرها . -2-2 افتقاد الحصانة التنظيمية رغم كل التأكيدات الرسمية وغير الرسمية حول ضرورة استقلالية الجامعة . فقد بقي هذا المبدأ حلما طوباويا لم يتكرس لحد الآن على أرضية الواقع الجامعي . ولعل مرد ذلك يكمن بالأساس في وصاية الإدارة والاختراق الحزبي ، وانتشار ثقافة الريع والربح الرأسمالي. - وصاية الإدارة رضخت الجامعة المغربية منذ نشأتها ، لوصاية الإدارة لا من حيث تسييرها أو من حيث تمويلها. وهكذا فإن السلطة ما زالت تتحكم في عملية تعيين العمداء وقيدومي الجامعات رغم عمليات الترشيح التي أصبحت تتم لملء هذه المناصب ، حيث ما زال هناك غموض يشوب هذه العمليات وطبيعة الاعتبارات التي يتم على أساسها الحسم في تعيين هذه الشخصية أو تلك .بالإضافة إلى افتقاد التجربة الإدارية والتسييرية للعديد من العمداء و قيدومي الجامعات في الوقت الذي يتمتعون فيه بصلاحيات واسعة في كل ما يتعلق بالتسيير الإداري والعلمي للجامعة و التصرف في ميزانيتها. كما أن مختلف الأجهزة المسيرة للمرافق الإدارية التابعة للمؤسسات الجامعية تبقى في آخر المطاف تحت إشراف الوزارة الوصية في حين تخضع المرافق الإيوائية الجامعية لإشراف وزارة الداخلية. أما مجالس الطلبة التي تم التأكيد على تكوينها فقد بقيت بدون وظيفة محددة ولا تساهم بأي دور فعال فيما يتخذ من قرارات تتعلق بشؤون الطلبة. - الاختراق الحزبي رغم التأسيس المبكر للإتحاد الوطني لطلبة المغرب كنقابة طلابية تسعى لتأطير الجماهير الطلابية والدفاع عن حقوقها الخاصة ؛ فقد افتقد هذا التنظيم الاستقلالية التي كان من الممكن ان تكرس فعاليته وتدعم نشاطه التنظيمي والمطلبي داخل الجامعات المغربية. و ترجع هذه الوضعية إلى عدة عوامل من أهمها: - تسييس التنظيم وتصارع التيارات والفصائل قصد التحكم فيه. - توظيف التنظيم لأغراض حزبية وسياسية ضيقة. -عدم التجذر التنظيمي والديمقراطي للإتحاد. - القمع الذي مورس على الإتحاد من طرف السلطة منذ الستينيات من القرن الماضي. - الانقسامات التنظيمية التي عرفها الإتحاد ؛ حيث أن كل حزب حاول خلق نقابته الطلابية . وقد أدت هذه العوامل و غيرها ، إلى إغراق نشاط الإتحاد الوطني لطلبة المعرب في مشاكل سياسية أكبر من حجمه جعلته لايلتفت إلى المشاكل الطلابية إلا لاستغلالها سياسيا وذلك وفق الظرفية السياسية السائدة وتبعا لطبيعة القيادة المهيمنة على التنظيم . و نتيجة لهذا الوضع فقد ابتعد الإتحاد عن هموم الطلبة ومشاكلهم وتنحى عن وظيفته الأساسية في الدفاع عن مطالب الطلبة ومراعاة خصوصيتها النقابية والمطلبية. وإذا كان الاختزال الحزبي قد قوض استقلالية ، فقد أدى أيضا إلى التأثير على معايير التأطير الجامعي و السير العلمي و الفكري داخل الكليات. وهكذا أصبحت الجامعة مجالا لتنافس الأحزاب في منح التزكيات للأساتذة الراغبين في ولوج هذه الكليات أو العمل على إقصائهم و بالتالي فقد تحولت العديد من الشعب إلى فروع حزبية تتصارع فيما بينها وفق منطق التحالفات و التموقعات وخلايا لنشر الأدبيات الإيديولوجية لكل حزب . كما استغلت المنابر الجامعية لتكريس السلفيات الماركسية أو السلفيات الأصولية و تلقينها للطلبة أو إجبارهم على استعراضها. - انتشار ثقافة الريع والربح الرأسمالي لقد شكلت الجامعة خاصة في سبعينيات القرن الماضي معقلا من معاقل المعارضة السياسية لنظام الملك الراحل الحسن الثاني . فقد شكلت كليات الحقوق والطب في الدارالبيضاءوالرباط بالإضافة إلى كلية الأداب والعلوم الإنسانية بالعاصمة مشتلا لبروز قيادات وقواعد متمردة ومناضلة شكلت فيما بعد حركتي 23 و إلى الأمام أو انضمت إلى تنظيمات أصولية وإسلامية . وبالتالي عمد النظام في عملية احتوائه لهذه المعارضة المتصاعدة ، على نشر ثقافة الارتزاق والكسب بين أوساط صفوف رجال ونساء التعليم في مختلف المستويات ( إعدادي ، ثانوي أو جامعي ) في اللهاث وراء الساعات الإضافية . في حين تم استقطاب العديد من الفعاليات الجامعية من طرف وزير الداخلية السابق إدريس البصري في مختلف دواليب الإدارة أو تعيينها على رأس بعض الوزارات ، أو في بعض المؤسسات العمومية . وبالتالي فقد شجع هذا الوضع على تحويل عدة جامعات إلى نوع من (الإقطاعيات الخاصة) كان فيها الحل و العقد للمسؤولين عن هذه الجامعات الذين بيدهم سلطة التعيين والرفض . كما أعطيت لرؤساء الشعب الفرصة لخلق (ماسترات ) لتحقيق ربحهم الشخصي ، أو الإشراف على أطروحات يتم الاتفاق على استكتاب أصحابها بمقابل مادي ، أو إخضاع الطلبة لابتزاز موسمي ، يقوم على ضرورة اقتناء إجباري أو شبه إجباري لكتب ومقررات كشرط لاجتياز الامتحانات الشفوية والحصول على نقط مؤهلة . كما فتح أمام الأساتذة الجامعيين ، في غياب معاهد للبحث العلمي أبواب الاتجار الأكاديمي من خلال إنشاء ما يسمى بمراكز بحث تفتقد للعديد من الشروط المادية والعلمية يتم توظيفها لعقد صفقات مع هيئات دولية أو إقليمية ، وإنجاز دراسات وتقارير بمقابل مادي ، في الوقت الذي انشغل بعضهم بالكسب المادي والاستثمار في المشاريع الاقتصادية والريعية. وقد كان هذا الاختراق الذي خضعت له الجامعة العمومية طيلة أكثر من ثلاثة عقود يدخل ضمن مخطط خوصصة التعليم العالي وفتحه أمام الاستثمار الخاص سواء المحلي أو الأجنبي. إذ أن تردي الأوضاع داخل الجامعة العمومية عادة ما تم استغلاله لاستقطاب بعض الفئات من الطبقة الوسطى والعليا لتحويل أبنائها نحو بعض المدارس العليا الخاصة ، أو نحو بعض الجامعات الخاصة التي أنشأت باستثمارات محلية وأجنبية . فبعد جامعة الأخوين بإفران التي دشنت في عهد الملك الراحل الحسن الثاني بهبة مالية سعودية ، أنشأت العديد في الجامعات الخاصة ، كجامعة علوم الصحة في كل من الرباط والدار البيضاء ، والجامعة الدولية للدار البيضاء برأسمال إماراتي، والجامعة الدولية بالرباط ، والجامعة الخاصة بمراكش ، والجامعة الدولية لأكادير، والمدينة الجامعية العلمية بطريق النواصر بالدار البيضاء ، في انتظار أن تفتح جامعات أخرى أبوابها في المستقبل القريب خاصة وأن حكومة بن كيران في شخص وزير التعليم العالي يعتبر من المشجعين المتحمسين لتفريخ مثل هذا الاستثمار الجامعي الخاص. 2 - عسكرة الجامعة إن تحول الجامعة المغربية من مجال للتلقين و التحصيل والتشقيف إلى مجال للتسييس والأدلجة والاصطدام جعل السلطة تتتبع عن قرب ما يجري داخل الحرم الجامعي و تتابع تطورات الساحة الطلابية فقد أدركت السلطة بأن أهم معاقل المعارضة السياسية عادة ما تجد ملاذها في رحاب الجامعات وقواعدها بين صفوف الطلبة وأطرها ضمن الطاقم الجامعي. كما شعرت بأن أهم التحركات السياسية غالبا ما تبدأ في الجامعات من خلال شن الإضرابات العامة والإضرابات اللامحدودة وممارسة الأنشطة السياسية داخل الأحياء الجامعية. من هنا عملت السلطة على احتواء الجامعة وتطويقها من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات الأمنية تمثلت خاصة في : المراقبة الأمنية ، تشكيل الحرس الجامعي و انتهاك حرمة الجامعة. -1-2 المراقبة الأمنية تمثلت هذه المراقبة خاصة في تخصيص مصالح داخل دوائر الأمن تهتم بشؤون الطلبة وقد انحصر عمل هذه المصالح في القيام : - بمتابعة التحركات الطلابية . - إعداد الملفات حول أنشط العناصر الطلابية . - جمع المعلومات حول ما يجري داخل الساحة الطلابية . - ختراق التنظيمات والأنشطة الجامعية. -2-2 الحرس الجامعي في مستهل ثمانينات القرن الماضي لجأت السلطة إلى تشكيل حرس خاص بالجامعات . ولعل الأسباب التي كمنت وراء اللجوء إلى هذا الإجراء تتمثل خاصة في: - تراجع روح المقاومة الطلابية نتيجة الحظر الذي تعرض له الإتحاد الوطني لطلبة المغرب والضعف التنظيمي الذي عرفه بعد ذلك. - تحول الساحة الجامعية إلى حلبة لتصادم الفصائل المتناحرة , - الرغبة في احتواء الحركات الأصولية التي بدأت تزدهر في الجامعات المغربية. - إخلاء أحزاب اليسار للساحة الطلابية. - محاكاة تجربة مصر التي كانت سباقة إلى تشكيل الحرس الجامعي. و رغم أن تشكيل الحرس الجامعي قد ووجه بردود فعل طلابية وفصائلية ؛ فقد تم فرضه داخل الواقع الجامعي بشكل تدريجي وذلك من خلال : - زرعه في بعض الكليات في البداية ثم تعميميه في النهاية على مختلف الجامعات. - تمييزه بلباس خاص حتى لا يتم الخلط بينه وبين باقي الأجهزة الوطنية الأخرى. - وضعه رهن إشارة عمداء الكليات. - تكليفه بضبط الأمن داخل الجامعات. غيرأن المذكرة الوزارية التي صدرت بعد الأحداث التي شهدتها بعض الكليات المغربية خلال الموسم الجامعي 97-96 زادت من المهام الموكولة للحرس الجامعي وكرست وجوده بشكل نهائي. -3-2 انتهاك حرمة الجامعة من المعروف أن فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي قد تميزت باضطرابات طلابية مهمة انعكست من خلال الإضرابات والاعتصامات الطلابية . ورغم بعض التدخلات الأمنية التي كانت تنتهك من وقت لآخر الحرم الجامعي ، فقد كان عدم التدخل هو السلوك الأمني السائد في هذه الفترة . لكن مع بداية فترة الثمانينات والتسعينات من القرن 20 تكاثرت تدخلات قوى الأمن وسجلت اصطدامات بين قوات التدخل السريع والمتظاهرين من الطلبة داخل الحرم الجامعي. ولعل تكاثر هذه الظاهرة يرجع بالأساس إلى عدة معطيات من أهمها: - غلبة الشرائح الشعبية داخل الجامعات المغربية بعدما هجرتها الشرائح البرجوازية. - الاصطدامات العنيفة والدامية التي عرفتها بعض الكليات ( خاصة كلية الحقوق بفاس ووجدة). - تقوي التيارات الأصولية داخل الجامعات و العمل على ردعها. - أزمة التشغيل التي أصبح يعاني منها القطاع الطلابي. - ضعف استقلالية الطاقم المسير للجامعات. وقد أدى تكاثر هذه الظاهرة واستمرارها إلى انعدام المناخ الفكري الملائم داخل الجامعات وتقطع النشاط الجامعي نتيجة الإضرابات ومقاطعة الطلبة للدراسة لانعدام الشعور بالأمان لدى الطالب والتخوف من أن يكون ضحية أي انتهاك لحرمة الجامعة. وعموما فإن الوضعية المتأزمة التي تعيشها الجامعة المغربية حاليا ماهي إلا جزءا من الأزمة البنيوية التي يتخبط فيها التعليم بالمغرب بصفة عامة. غير أن هذه الأزمة لاتعني مع ذلك أن تفقد الجامعة حرمتها وتصبح مجالا للصراعات السياسية والإيديولوجية و الأمنية . ولكي تستعيد الجامعة حرمتها لابد من إعادة الاعتبار لكل ما يتعلق بالإطار الجامعي و تسييره وذلك من خلال : - رفض كلي لتسييس الجامعة ، فمن حق كل طالب أو أستاذ ممارسة العمل السياسي سواء كان حزبيا أو نقابيا، لكن بعيدا عن الحرم الجامعي. - رفض أية عسكرة للجامعة كيفما كان شكلها أو نوعها. - تكريس استقلالية الجامعة وذلك من خلال رفع الوصاية الإدارية عنها و فتح المجال للقطاعات المدنية للمشاركة في تسييرها والاسهام في نشاطها. - فسح المجال للطلبة للمشاركة في كل ما يتعلق بشؤون الجامعة وذلك من خلال الانتخابات الحرة و المستقلة لمجالسهم وتعاضدياتهم و الاسهام في نشاط الكلية العلمي من خلال إصدار جرائد خاصة بالكلية وإقامة مهرجانات ثقافية غير مسيسة أو متحزبة. - العمل على خلق طقوس تساعد على احترام الطلبة لقداسة الحرم الجامعي كوضع قسم للكلية والالتزام بسلوك خاص يقوم على الاحترام المتبادل و احترام ثقافة الاختلاف. - تقوية الروابط الشخصية والفكرية بين الطلبة والأساتذة وذلك من خلال القيام برحلات ثقافية أو خرجات جماعية. - تفعيل المجالس التأديبية الجامعية لاتخاذ كل ما تراه مناسبا في حق كل من ينتهك اخلاقيات الجامعة أو قوانيها الداخلية او الإخلال بأمنها الداخلي. - ضرورة الحفاظ على حرمة الحرم الجامعي و ألا يتم انتهاكها تحت أي مبرر من المبررات حيث يعتبر حرما لا يجب انتهاكه من طرف أية قوى سياسية كانت أم أمنية. - ضرورة تكريس الحرم الجامعي كفضاء لحرية النقاش الفكري والثقافي والفني والرياضي دون أية وصاية سياسية أو حزبية أو مراقبة أمنية واستخباراتية.