"نعلم إلى أي مدى يحذف الموقف الديني الدوغمائي كل تساؤل فلسفي"، محمد أركون يعاني المغرب منذ أكثر من عقدين من الزمان أزمة حقيقية في إنتاج النخب السياسية ورجالات الدولة، هاته الأزمة تدفع إلى التساؤل عن الهشاشة التي باتت تعانيها الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني كمؤسسات للتنشئة السياسية وكحاضنات لإنتاج النخب وصناعة القيادات. وجوهر الأسئلة يطال دور الجامعة المغربية في تأهيل أجيال من الشباب، وتخريج "مشاريع" قيادات سياسية واجتماعية أو طاقات مؤهلة لتسيير الشأن العام، ما يدعو إلى الاستفهام حول ما إذا كانت الجامعات المغربية اليوم، على كثرتها وازدياد عدد خريجيها، تخرّج متعلمين لا مثقفين أو ناشطين في المساهمة في إصلاح مجتمعاتهم وتنميتها ونهضتها، وتوسيع هامش الحريات وكرامة العيش. أو لم يصدح السوسيولوجي محمد جسوس ذات يوم بالقول: "إنهم يريدون خلق أجيال جديدة من الضباع". هل كان علينا أن ننتظر كل هاته السنوات لنتأكد من تخوفات الراحل؟ والنتيجة أن هناك كثرة من المتعلمين وحاملي الشواهد العليا في جميع التخصصات، لكن، دون مبالغة، غير مؤهلين منهجيا لاستيعاب الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لتواجدهم كفئات شابة أولا، وكنخب، أو من المفروض أن تكون كذلك، ثانيا. معطى آخر يفرض نفسه بقوة، وهو جودة مشاريع النخبة أو المثقفين الذين لديهم التزام وطني (يميني أو يساري، محافظ أو تقدمي) أو وجهة نظر، واستعداد للإصلاح والانخراط في الشأن العام. فضلاً عن ذلك، لم تنتج الجامعة المغربية، عموماً، شكلاً أو نموذجاً ناضجاً من الانخراط في الشأن العام يتجاوز حدود الصراع والتقاطبات بين فصائل وتيارات سياسية معينة (يساريين، إسلاميين، أمازيغيين)، إلى المساهمة في إنضاج مبادرات أخرى للانخراط في خدمة المجتمع المدني والعمل التطوعي ومحاربة الأمية، والحفاظ على الثقافة الشعبية والتواصل مع البيئة المحيطة والتشجيع على الابتكار وتنمية القدرات الذاتية... خصوصا وأن الساحة الجامعية تجاوزت حدود الراديكالية السياسية المتأثرة بالدوغمات الإيديولوجية أو الدينية، لتتحول إلى ساحة حرب بين متطرفين مسكونين بإنتاج وإعادة إنتاج العنف الاجتماعي عبر حلقات مسلسل معلن ليست الجامعة آخر معاركه بالتأكيد. وعليه، لطالما كانت الجامعة "ميزان حرارة"، أو مقياسا لاستقراء المجتمع، فلا نبالغ بالقول إن المناهج الدراسية والمناخ العام في المدارس والجامعات اليوم، لا يجعلان على رأس أولوياتهما تعميق الوعي النقدي لدى الطلبة وتمكينهم من التفكير باستقلالية فردية وحرية وعمق علمي؟ ألا يجب مساءلة السياسات العمومية في مجال التعليم عن هذا الإخفاق البين؟ هل تكفي المقاربة الإصلاحية/الترقيعية ذات البعد الواحد- باستعارتنا لعبارة ماركيوز- المبنية على أساس منطق السوق الرأسمالي، وتوفير خزان من اليد العاملة وقطع الغيار، بعيدا عن أي "هندسة اجتماعية"؟ أسئلة وأخرى لا يتسع المجال لمحاولة الإجابة عنها. طلبة الجامعة المغربية، قبل عقد وعقدين، كانوا منخرطين في القضايا الوطنية والإقليمية والدولية (القضية الفلسطينية بكل أبعادها وتشعباتها الجيوستراتيجية)، ومعنيين بالأفكار والإيديولوجيات الكبرى، قبل تحصيلهم الدراسي والأكاديمي، والنتيجة أن أغلب النخب الحالية ورجالات الدولة التي شاخت أو قاربت سن الشيوخة تخرجت من مدرسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب المحظور. كثيرون من طلبة الجامعات اليوم لا يقرؤون الجريدة اليومية، ولا ينتمون إلى الأحزاب السياسية أو العمل المدني، بل يحتقرون كل عمل جاد ويعتبرونه مضيعة للوقت. وبعض الأكاديميين المميزين تخلوا عن مسؤوليتهم التأطيرية والتوجيهية للطلبة بسبب تدني ثقافة عموم الطلبة وضعف شغفهم بالمعرفة والعلم والبحث والجدل. كما تم إفراغ التدريس الجامعي من كل قيمه وأصبح مجالا للمصالح المادية بعيدا عن كل مساهمة معرفية، وهو ما بينته بشكل فاضح دراسة محمد الشرقاوي حول الجامعة المغربية. فمستوى هاته الأجيال الجديدة من خريجي جامعاتنا، التي قد تمتلك القدرة على التحكم في التكنولوجيا العصرية والتحرر في السلوك والخيارات الشخصية، إلا أنها، في عمومها، تنطوي - على المستوى الفكري والمعرفي - على محافظة وضعف وهشاشة في ثقافتها ووعيها النقديّ وقدرتها على التساؤل والتأمل والنظرة الشاملة ومحاولة تفكيك إحداثيات واقعها ومحيطها، وهي مهمة كانت طبيعية وعادية، إلى حدّ كبير، لدى شرائح واسعة من طلبة الجامعات قبل جيل وجيلين. قد تفسر الوضعية المادية لأغلب الطلبة في غياب المنحة الدراسية أو هزالتها، أو عائلاتهم الغارقة في البحث عن حلول لمشاكلها اليومية وتأمين متطلبات الحياة من الطعام والسكن والصحة والتعليم وسداد الفواتير والقروض المختلفة، ضعف الانخراط بقضايا الفكر والثقافة ومناقشة أنماط التدين ومسائل التطرف الديني، والديمقراطية والعلمانية وحرية المرأة والقضية الأمازيغية والحريات الفردية والجماعية... وهي قضايا بنظرهم أقرب إلى الترف الفكري، قضايا لا متسع لها في أجندة الكثيرين، أو على أقصى تقدير تعالج بسطحية، الأمر الذي لا يجعلها قضايا مجتمعية ملحة أو تشغل الرأي العام، وهذا بدوره يضعف ملكة التأمل والتفكير، ويجعلها حاجات أكثر نخبوية وعزلة ويحصرها في دائرة ضيقة وعلى هامش المجتمع وحركته. هذا التشخيص يعتبر مظهرا لضمور الطبقة الوسطى وانكماشها كمّا ونوعا، وانشغالها، بسبب السياسات الحكومية، بتأمين متطلباتها اليومية، وبالتالي إفقارها وجعلها تخسر أهم أدوارها: صمام الأمان للسلم الاجتماعي، وعامل استقرار سياسي، إنتاج الثقافة واستهلاكها، وقاطرة التحديث والتنوير، وواسطة تهميش التيارات المتشددة وتوسيع دائرة الاعتدال والانفتاح. وفي هذا الإطار، يجري الحديث عن الطبقات الاجتماعية وما يرتبط بها من توزيع للدخل من دون وجود معايير واضحة تمكن صانع السياسة العمومية من استهدافها والحفاظ على وضعها أو تحسين ذلك الوضع. وتركز معظم السياسات الاجتماعية المتداولة على الفقر ومحدودي الدخل وسبل مساعدتهم. في هذه الأثناء تتعرض الطبقة الوسطى للتناسي، وهي ليست بعيدة عن خط الفقر بالضرورة، لكن سلوكياتها الاجتماعية والسياسية ونمط استهلاكها الاقتصادي يجعلها في مصاف آخر. إن انكماش الطبقة الوسطى يعكس خللاً في معادلة السلطة وتوزيع الثروة، على حساب طبقة الأغنياء ورجال المال والأعمال البعيدة عن الثقافة البرجوازية، غير الحاملة لمشروع مجتمعي أو رؤية فكرية أو سياسية لتنمية المجتمع وتحديث الدولة، ويغيب عنها عموما حس المسؤولية الاجتماعية لصاحب الرأسمال الجبان، بل هي عموماً مصلحية ومتحالفة مع السلطة للاستفادة من امتيازات اقتصاد الريع. وفي هذه الأجواء، أصبحت الطبقة الوسطى (أو ما تبقى منها) هشة وأكثر عرضة لتقبل الأفكار الشعبوية، ومؤهلة لحمل قيم المحافظة، بل انحدرت نحو النكوصية والظلامية، وصارت تتبنى أكثر من السابق نموذجاً منغلقاً ومتعصبا للتدين، غير مكترث في عمومه بالثقافة والفنون والآداب والموسيقى والسينما والمسرح والإبداع وجماليات الحياة، بسبب ضعف دخلها الاقتصادي من جهة، ومن جهة أخرى، لجمود فكري وفهمٍ "دغمائي" للأنا والآخر، للفرد والمجتمع، للحياة والموت، للعالم والوجود. وهي البيئة التي تهيئ للخطباء والأدعياء والأنبياء المزيفين، الناطقين باسم الله، أن يكونوا موجهي الرأي العام، بل صانعيه، والنسخ الجديدة من النخب والقيادات. أجزم أن ثمة تراجعاً في دور جامعاتنا، على المستويين الأكاديمي والوطني، يستحق النقاش والمراجعة. يتصل هذا بتراجع مكانة المعرفة والثقافة في عملية "النمذجة" داخل المجتمع، وفقدان سلطة الرأسمال الرمزي، لصالح ثقافة شعبية مرئية- سمعية تنزع إلى الاستسهال والاستهلاك والتسلية ولا تضع المطارحات النقدية والمعرفية في مضامينها وسياقاتها، وثانيهما منطق التسليع والربح والخسارة واعتبارات السوق، التي يضع دعائمها الرأسمال، وهو لا يحمل في المغرب مشروعاً ثقافياً، بل يستخدم المثقف لمصلحة مشاريع ليست الحداثة محورها. بالإضافة إلى أن هناك توجها عاما نحو "تجفيف منابع السياسة" والعمل العمومي، والتحالف مع التيارات الدينية المحافظة، وإغلاق شعب الفلسفة ومعهد العلوم الاجتماعية، كان المقصود به الطبقة الوسطى، وقبله انتهاج "سياسة التقويم الهيكلي"، مما أعاق تطور طبقة وسطى وطنية معنية بشكل مباشر بالمساهمة في صياغة وتنفيذ السياسات العمومية كما بينت "شانا كوهن" في أطروحتها حول الطبقة الوسطى المغربية، ما يجعل هذه الطبقة لا تنظر إلى نفسها كفاعل مؤثر في الدولة الوطنية، بل تقوم بإدارة شؤونها بعيداً من النخبة السياسية والاقتصادية في بلادها. وبضعف الطبقة الوسطى أو غيابها في أي مجتمع تغيب الاجماعات الوطنية العريضة، والتوافقات القيمية المشتركة على شكل نظام اجتماعي. وفي ظل أجواء التحول السياسي في المنطقة، باتت الطبقة الوسطى عنواناً مهماً، فالأمل متعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الفئات للتوصل إلى توازنات جديدة. *باحث في علم الاجتماع السياسي