سبق أن أثار تدخل إحدى البرلمانيات بمجلس المستشارين بتونس بشأن الإزعاج الذي يسببه آذان بعض المؤذنين على الساكنة المجاورة للمساجد ضجة إعلامية وسياسية، اضطرت وزير الشؤون الدينية إلى التدخل أمام البرلمان لوضع الأمور في نصابها والدفاع على موقف الدولة بهذا الشأن. وقد تزامنت هذه الحادثة ، بتصريح ابنة لوبين في الضفة الأخرى الذي تناول بالنقد صلاة العديد من المسلمين ببعض طرق فرنسا واصفة ذلك بنوع من الاحتلال النازي، الشيء الذي أثار عدة ردود أفعال من مختلف الجهات التي استنكرت مثل هذه التصريحات، ووصفتها بالعنصرية. لكن، وبعيدا عن هذا الصخب السياسي التي تتحكم في خلفيته حسابات حزبية وانتخابية ضيقة هناك اليوم، موضوعيا، ممارسات دينيية تسائل معظم المسلمين في مختلف العالم ، بما في ذلك المغرب . هذه الممارسات الدينية التي يتخذ ، بعضها ، في بعض الأحيان ، طابعا غير منظم وعشوائي . فالمناداة للصلاة في أوقات عادة ما يخلد فيها الناس للراحة والنوم من خلال أصوات مؤذنين بمكبرات صوت عادة ما يزعج الساكنة ، خاصة عندما تتزامن وتتداخل في وقت واحد ومن أمكنة للصلاة متقاربة، حيث يبدأ التهليل والتكبير لفترة طويلة تتخللها عبارات تقليدية من أن الصلاة خير من النوم .. كما أصبحت شوارعنا، وأزقتنا مجالا مفضلا لأداء الصلوات الجماعية مما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى عرقلة السير ويسبب إزعاجا للمارة وأصحاب السيارات. وبالتالي، فقد أصبح الأمر، وكأن مدننا وحواضرنا قد كتب عليها أن تعاني ليس فقط من البناء العشوائي بكل مظاهره العمرانية والهندسية، من دور صفيح، إلى أحياء بدون تجهيزات وبنيات تحتية عصرية، بل كتب عليها أن تعاني أيضا من إقامة صلوات عشوائية بعيدا عن المساجد وأماكن العبادة المنظمة والرسمية، عادة ما تساهم في المزيد من الصخب والضجيج أو ما نعته وزير الشؤون الدينية التونسية بالتلوث السمعي، ومفاقمة احتلال المجال العمومي الذي تعاني منه طرقاتنا وشوارعنا العمومية . – الصلاة الجماعية ومكبر الصوت زودت جل المساجد والجوامع بمكبرات الصوت تستخدم في الآذان والإعلان عن ميقات الصلوات. لكن نظرا لأن جل المؤذنين غالبا ما لا يخضعون لأي معايير للانتقاء تقوم على رخامة الصوت وحسن الأداء، بالإضافة إلى كون جل هؤلاء المؤذنين من ذوي أصول قروية وبدوية، فإنه عادة ما يستعملون مكبرات الصوت كوسائل للصياح دون أن يدركون أن وظيفة هذه الأداة هي تضخيم الصوت والتقليل من عناء الرفع منه، مما يؤدي في آخر المطاف إلى الكثير من الإزعاج خاصة عندما يقوم المؤذنون بالأذان، في بداية الصباح وفي وقت واحد، وعلى مسافات قريبة ،عندما يكون السكان ما زالوا نياما أو يتهيأون للخلود للراحة. فرغم أن الأذان كان دائما مرتبطا بالصلاة ، إذ عرف تاريخيا أن الصحابي بلال بن رباح كان هو أول من أذن للصلاة في بداية الدعوة الإسلامية، حتى لقب بمؤذن الرسول نظرا لجهورية صوته وقوة إيمانه وسبقه للإسلام، إلا أن هذا الأذان كان يتم بشكل بسيط من خلال رفع الصوت مع رفع الأيدي، ليتطور ذلك بعد انتشار الإسلام، وتوسع الامبراطورية الإسلامية إلى بناء مآذن عالية لمساجد كبرى تفنن الخلفاء والسلاطين المسلمين في زخرفتها وتوسيعها لتكريس شرعيتهم الدينية والسياسية. وقد سار الملوك والسلاطين المغاربة على نفس المنوال، حيث حرصوا على بناء المساجد التي كانت تلقى على منابرها خطب الجمعة بأسمائهم و الدعاء لهم. وقد اختلفت نوعية هذه المساجد من مسجد أعظم ، ومسجد كبير التي كانت تتميز بمآذنها العالية و التي كان ينادى من فوقها للصلاة. في حين أن المساجد الصغرى الخاصة بالأحياء والدروب ، فعادة ما كانت لا تتوفر على هذه المآذن. من هنا، فإن هذا الإزعاج الذي أصبح يحس به سكان المدن والحواضر بالمغرب، قد يرجع إلى سببين رئيسين : يكمن الأول في لجوء كل المساجد إلى استعمال مكبر الصوت للمناداة للصلاة لخمس مرات في اليوم، بما في ذلك مساجد الأحياء والدروب، بالإضافة إلى أماكن للصلاة المتواجدة في مقرات العمل العام والخاص. فالإدارات وباقي المرافق العمومية ، بالإضافة إلى محلات عمل أخرى أصبحت بدورها تعرف نفس الظاهرة ، حيث غالبا ما يتطوع بعض الموظفين للمناداة للصلاة أثناء العمل الإداري رافعين أصواتهم بشكل ملفت في مقرات مخصصة أساسا للعمل بدل العبادة ، حيث لا تتوفر فيها على مآذن مخصصة لذلك. فعدم وجود مآذن يعفي منطقيا من المناداة للصلاة ، والاعتماد فقط على آذان المساجد والجوامع التي تتوفر على هذه المآذن . أما السبب الثاني في هذا الإزعاج ، فهو تخلي جل المؤذنين عن الطريقة التقليدية من خلال رفع الصوت مع رفع الأيدي ولجوء أغلبهم إلى مكبرات الصوت عادة ما لا يحسنون التعامل بها ، إذ تجد هؤلاء المؤذنين يرفعون أصواتهم بمكبرات صوت ابتدعت في الأساس لإسماع العموم دون إجهاد في رفع الصوت ، مما يؤدي إلى ارتفاع في الأصوات وتداخل فيما بينها . بالإضافة إلى أن جل هؤلاء المؤذنين لايتم انتقاؤهم على أساس رخامة الصوت ، وإتقان فن الأداء والتجويد ، والتحكم في طبقات الصوت وحبالها، مما يحول أذانهم إلى صياح يستفز الآذان ويزعج النفوس في مدن تعاني أحياؤها ودروبها من شدة الضجيج بسبب هدير المحركات وأبواق السيارات، وصياح الباعة المتجولين والضوضاء الذي يحدثه الأطفال، وأعمال الحفر والبناء التي تعرفها الأورااش إلى غير ذلك من مسببات الضجيج والضوضاء. وهو ما يجعل جعل المدن الكبرى في المغرب لا تعرف فقط نسبا عالية من التلوث الهوائي بل تعرف أيضا نسبا مماثلة من التلوث السمعي، بحيث إذا كانت الأنوف تزكم من جراء مختلف الروائح المنبعثة من نفايات المصانع والمعامل، والمحركات، فالآذان تتصدع من مختلف الأصوات المنبعثة من الآلات، والمحركات من شاحنات ، وسيارات ، وأجهزة . وبالتالي ، فكثيرا ، ما يضطر الشخص وهو في منزله أو بالشارع العام إلى أن تتعرض أذنيه لمختلف الأصوات في وقت واحد ، حيث يختلط هدير المحركات ، بأصوات الناس ، بأذان المؤذنين في جلبة يومية تؤثر على الآذان ، وتوتر الأعصاب. - الصلاة الجماعية واحتلال المجال العمومي لقد أصبح من المعتاد أن يرى المرء شخصا أو مجموعة من الأشخاص وهم يؤدون صلواتهم في كل حيز شاغر بالشارع العام، فهذا يصلي قرب شاحنة، والآخر يصلي على ورق مقوى وراء باب من أبواب المحلات العمومية أو في إحدى الممرات. أما الصلوات الجماعية اليومية ، فعادة ما تؤدى في بعض الأقبية ، أو قرب بعض المحلات التجارية.... في حين أصبح من المألوف أن يؤدي قسم من المصلين صلاة الجمعة خارج المساجد الكبرى ، حيث تقفل الشوارع أسبوعيا، وتسد الممرات، لتسهيل أداء هذه الصلاة الجماعية. ولعل هذه الظاهرة ترجع بالأساس إلى عدة عوامل من أهمها: - ضعف القدرة الاستيعابية للمساجد المبنية. إذ على الرغم من الجهود المبذولة من طرف وزارة الأوقاف في تشييد وترميم المساجد المعدة للصلوات الجماعية بما فيها صلاة الجمعة وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها الخواص للمساهمة في تمويل هذه المساجد ، فإنا هذه المساجد لا تستطيع استيعاب كل المصلين الذين يتوافدون كل أسبوع لأداء صلاة الجمعة. - عد توفر المساجد الصغرى على مآذن لا تقام فيها صلاة الجمعة ، مما يضطر جموع المصلين الذين تعودوا على أداء الصلوات اليومية في مساجد الدروب والأزقة، وبعض المقرات الأخرى إلى التوجه نحو هذه المساجد مما يزيد من اكتظاظ هذه المساجد، ويضطر بعض المصلين للاستماع لخطبة الجمعة وأداء هذه الصلاة في الباحات والممرات المحيطة بهذه المساجد رغم قلة نظافتها، وكثرة الحركة فيها. - تعود جل المصلين أن يأتوا متأخرين لأداء هذه الصلاة الجماعية، إما بسبب أعمالهم، أو لأنهم يفضلون الصلاة خارج المساجد، حتى يسهل عليهم بعد الانتهاء من الصلاة تفادي الازدحام أو الانتظار للخروج من هذه المساجد. لكن بالإضافة، إلى هذه العوامل، فإن العقلية الدينية السائدة، والتي تقوم على أن أداء الصلاة لا يتطلب في آخر المطاف سوى التوجه نحو القبلة، دون الاهتمام بمكان أداء هذه الصلاة ولا بنظافته، والتمظهر الديني الذي أصبحت موضة سائدة في المجتمع المغربي بغرض إظهار الورع والتقوى، كما أن التعامل مع الصلاة كفرض وعبء ينبغي أداؤه في وقته حتى لا يتراكم، جعل العديد من المصلين يفضلون أداء صلواتهم في أي مكان يسمح بأداء الصلاة دون اعتبار لشروط النظافة، أو غياب الظروف التي تساعد على التركيز التعبدي، والتواصل الروحي. ولعل مختلف هذه العوامل، جعلت من صلاة العديد من الساكنة صلاة سريعة وعشوائية تمارس في أي حيز من حيزات المجال العمومي، وتفتقر إلى مختلف ظروف التعبد والمناجاة الروحية، التي توفرها المساجد الكبرى التي صممت وبنيت لهذا الغرض. من هنا، فقد حان الآوان لأن تنكب السلطات، في إطار حفاظها على الأمن الروحي على ضمان الظروف الملائمة لأداء مختلف المواطنين لصلواتهم الجماعية من خلال توفير أكبر عدد من المساجد التي تستجيب لكل الشروط الهندسية والعمرانية ، وإعادة تأهيل القيمين الدينيين، خاصة فئات المؤذنين، الذين ينبغي أن تتوفر فيهم بعض المؤهلات من طلاقة اللسان وحسن الصوت وورخامته. فالعصرنة، تقتضي أن يمارس المغربي المسلم شعائره الدينية بشكل متمدن، سواء داخل البلاد أو خارجه. ممارسة الشعائر الدينية، ليست هدفا في حد ذاتها، بل إن مقاصدها تكمن في خلق مسلم معاصر متشبع بمخزون إيماني وروحي عميق لكن في نفس الوقت ، إنسان عصري في سلوكه ، ومتمدن في ممارساته سواء كانت دينية أو دنيوية .وبالتالي ، فإطلاق اللحي، أو لباس السروال الأفغاني، إسدال البرقع، أو إطلاق الآذان المزعج، أو الصلاة العشوائية في الطرقات العمومية، أو نحر الأضاحي بشكل غير منتظم لا يتوافق مع الصورة التي حرص الإسلام على نشرها، والتي تكرس مقولة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان . فالتطور يقتضي أن تمارس الشعائر الدينية في روحها مع تطوير وعصرنة شكلها. إذ أن التساؤل المطروح، هو هل يجب لكي يكون الشخص مسلما أن يقلد السلف الصالح في لباسه، وشكله، وطريقة وضوئه ... أم يقتدي بأخلاقه، وعمق إيمانه، وقوة انفتاحه!