بحلول شهر مارس 2016 ، تكون قد انصرمت خمس سنوات على الحراك القضائي ببلادنا، والمدة جد معتبرة في حياة الأمم إذا اعتبرنا أن المخططات الاقتصادية الكبرى التي ترهن مستقبل الأمم لعقود عادة ما تُبرمج في خطط خماسية تمتد على مدار السنوات الخمس التي استغرقها الحراك القضائي. طيلة هذه المدة، تسارعت الأحداث وتداخلت وتشابكت بشكل يجعل مهمة تأريخ الحراك ودراسة محطاته وتقييم أحداثه من الصعوبة بمكان ، إذ على غنى الحراك القضائي بالأحداث الجسام ، ينبغي الاعتراف بأنه حظي بتفاعل كبير سواء من المجتمع عامة ومن الحقوقيين خاصة ومن القضاة أنفسهم. ولما كان من الصعب إعطاء حصيلة جامعة مانعة ترصد الأحداث بتسللها الكرونولوجي ، وتحلل وَقْعها وتداعياتها المهنية وأبعادها المجتمعية ، فقد أثرنا في هذه المحاولة المتواضعة أن نختزل أمد الحراك في عشر محطات رئيسة رأينا أنها تمثل أقوى المحطات والمواقف التي بصمت الحراك وخلقت قطائع مع ما سبقها أو أفضت إلى تحولات أثرت على حركية هذا الفعل صعودا وهبوطا وسكونا ، وبالطبع لن تقتصر القراءة على إضافات الجمعيات المهنية الأكثر تأثيرا وحدها، وإنما ستتبع فعل ومساهمات باقي الجمعيات المهنية الأخرى، وحتى المحطات المنتقاة لم نُبق منها إلا على تلك التي حملت مواقف مفصلية وإضافات حقوقية ومهنية. ولم يكن الزخم الإعلامي التي حظيت به بعض المحطات عاملا مؤثرا في الإبقاء عليها ؛ فمثلا لم نضع عريضة المطالبة باستقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية في اللائحة ، لأننا اعتبرنا استقلال النيابة العامة من أجندات الدولة والتقائها مع مطالب القضاة هو من باب وقوع الحافر على الحافر، كما لم نعتبر المواقف المتفاعلة بالسلب أو الإيجاب مع الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة لفشل هذا الأخير في احتواء جميع أطياف الفعل القضائي وبالتالي تحقيق المقاربة التشاركية الشاملة ، كما لم نعتبر عشرات المواقف التي شكلت إما مزايدات سياسوية وانتخابية وإما تجسيد روتيني للعمل الجمعوي كالبيانات والزيارات والوقفات التضامنية . 1- دخول القضاة مواقع التواصل الاجتماعي متأثرين بالحراك المجتمعي العام في يوم 15 مارس 2011 وشرارات الربيع العربي في أوج وميضها، قام قاض شاب يدعى ياسين مخلي بإنشاء أول صفحة للتواصل الاجتماعي موجهة للقضاة على موقع فايسبوك أسماها منتدى قضاة المغرب ، التحق به مجموعة من زملائه بالمحكمة الابتدائية بتاونات ثم قضاة آخرين من الجهة ثم كبرت بقعة الزيت لتشمل المغرب برمته ، عجزت وزارة العدل عن احتواء الموقف أمام توجيه عام بعدم التعرض للحركات المطلبية درء لما يمكن أن يقود لما حدث بدول الربيع العربي . كانت هذه الحركة في حقيقتها تجسيد قطاعي للمطالب الشبابية العامة التي انطلقت من مواقع التواصل الاجتماعي متأثرة بما جرى في دول الجوار، ورغم أن كثير من القضاة يرفضون هذا الربط ، إلا أنه يظل واقعا لا يرتفع ، لأن النواة الأولى للمرحلة الفايسبوكية من الحراك القضائي تشكلت - قبل أن ينضم إليها خليط من المنتفعين والانتهازيين وأصحاب المظاليم- من قضاة شباب أغلبهم يشتغل بالمناطق النائية ، وكان مجملهم يحمل بحق هم التأسيس لقضاء مواطن ومستقل بعيد عن تأثير مراكز القوى وسلطة المال ، ويشتغل في تدبير شؤونه بمعايير موضوعية منصفة . اتسمت هذه المرحلة بالعفوية والاندفاع الناتجين عن الافتقاد إلى التأطيرالمهني والحقوقي اللازمين ، لكن من حسناتها أنها أبرزت للجميع أن الجهاز القضائي كله لا يتحدث نفس اللغة ، وكانت الأدبيات التي طورتها هذه الحركة الشبابية داخل الجهاز القضائي على امتداد خمسة أشهر من نشاطها بالفايسبوك هي من وجهت اللجنة المكلفة بإعداد الدستورلدسترة التعددية الجمعوية داخل الجسم القضائي. 2- الودادية الحسنية للقضاة تٌعارض ثم تعود لتعتذر عن معارضتها في غضون الإعداد لوضع دستور المملكة الجديد ، كانت الودادية الحسنية للقضاة الجمعية المهنية الوحيدة المؤطرة للقضاة ، وبهذه الصفة طالبت المثول أمام لجنة المنوني لتقديم مقترحاتها في الشق المتعلق بالسلطة القضائية في الدستور، وكان من أبرز ما أثار جدلا إعلاميا وحقوقيا في مذكرتها ما أعلنته من معارضتها " إقحام أي شخص غريب عن القضاة في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء درء لتسييس هذا المجلس"، موقف يظل محترما لدوافعه المهنية البحتة. لكن المفاجأة أن الجمعية بادرت بعيد وضع لجنة صياغة الدستور لمشروعها بالتراجع عن مطلبها بل وللاعتذار الضمني عنه من خلال إعلانها مباركة " مشروع الدستور الجديد بجميع كلياته وجزئياته " موقف أظهر للقضاة قبل غيرهم بنية الجمعية المهنية التاريخية المُغرقة في المحافظة ، فقد تلقت لجنة المنوني 185 مذكرة للإصلاحات الدستورية ضمت مئات المقترحات ، ولم تخرج أي جهة من الجهات المُقترحة سواء الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والحقوقية والجمعيات للإعلان عن تراجعها عن أي من مقترحاتها ، كما لم يفهم من تشبت جلها بمقترحاتها معاكسة للإرادة الملكية. وفوق هذا وذاك ، فإن مطلب الودادية لم يرق إلى درجة المقترحات الرديكالية التي تلقاها المنوني ولجنته ، بل إن ما عبرت عنه الودادية ما هو إلا ميزة معترف بها للقضاة في معظم الأنظمة القضائية في العالم ، ومن الفضيلة أن يعترف القضاة في المغرب أنهم أساءوا استعمال هذه الميزة عبر ممثليهم في المجلس الأعلى للقضاء ، فالتئم الإجماع على سحبها منهم . 3- دستور يصهر تطلعات القضاة وانتظارات المغاربة وإرادة الملك يعترف العدو قبل الصديق للمغاربة بأنهم وفقوا في تدبير حراكهم المجتمعي الذي توجوه بمصادقتهم على دستور 01 يوليوز 2011 . بوأت الوثيقة الدستورية القضاء مكانة متميزة ، فعلى المستوى الكمي خص الدستور الجديد القضاء ب 21 مادة مقابل ست مواد في الدساتير السابقة 62-70-72-96، بمعنى أن المقتضيات الدستورية المتعلقة بالقضاء تضاعفت بما يقارب أربع مرات . على المستوى الرمزي ارتقى دستور الملك محمد السادس بالقضاء كسلطة قائمة الذات تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية ، بينما لم تكن دساتير الملك الحسن الثاني الأربع تعتبره أكثر من جهاز دستوري رغم الانتقادات الموجهة لهذا النهج منذ 1962 . من المستجدات المرتبطة بالاستقلالية التنصيص في المادة 109 على منع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء ؛ ومنع تلقي القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات وإخضاعه لأي ضغط. وفي هذا السياق تقضي ذات المادة أنه يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ثم التنصيص في نفس المادة على معاقبة كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة. في المادة 110 تم النص على أنه لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون.ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون. على أن الإضافة الدستورية المهمة في هذا المجال تبقى السماح بتعددية التمثيل الجمعوي للقضاة من خلال إقرار حق القضاة في تأسيس الجمعيات المهنية وفي الانتماء إليها ، الشيء الذي شكل دفعة مؤسساتي للحراك القضائي الذي توازى مع الحراك المجتمعي العام . ويجدرالتنويه إلى أن المبادئ الدستورية لا تصنع وحدها القضاء المنشود القوي والمستقل ، ولا تعني الشيء الكثير ، لأن جميع دساتير دول العالم الديمقراطية منها والديكتاتورية تتضمن مبادىء براقة وعبارات منمقة حول استقلال القضاء ، فتبقى الممارسة وحدها هي التي تضع استقلال القضاء في أي بلد على المحك . 4- ولادة نادي قضاة المغرب في الشارع العام تحث قيض الشمس تفاعلا منهم مع دسترة التعددية الجمعوية في الجهاز القضائي ، بادر القضاة نُشطاء مواقع التواصل الاجتماعي بالإعداد للجمع العام التأسيسي لجمعيتهم المهنية التي استلهموا اسمها من الصفحة التي ضمتهم على الفايسبوك ، ضربوا موعدا يوم 20 غشت 2011 في ربط واضح للتأسيس مع ذكرى وطنية جسدت انتفاضة المغاربة ضد كل مظاهر الظلم والتحكم ، سارت ترتيبات الإعداد كما يجب ، لكن ظروف الانعقاد جاءت بما لايشتهي القضاة. ففي آخر لحظة تراجعت المدرسة الوطنية للطاقة والمعادن بالرباط عن وضع القاعة التي كان مزمعا أن تحتضن التأسيس رهن إشارة القضاة ، وبرر مدير المؤسسة المستضيفة التراجع بأنه تلقى أمرا من جهات رسمية بإلغاء احتضان الحدث . لم يكن المنع ليثني القضاة الذين أصروا على استكمال انتخاب أجهزة جمعيتهم المهنية بالشارع العام تحث شمس حارقة في هجيرة يوم رمضاني قائض . لقد كان الحدث بحق أول تفعيل مؤسساتي لدستور 2011 ، باعتباره أول انتخاب لمؤسسة أسس الدستور الجديد لوجودها القانوني من خلال مادته 111 التي فرضت مبدأ التعددية الجمعوية في الجهاز القضائي ، ومن تم تأتي النكسة الحقوقية لقرار المنع الذي تُجهل حتى تاريخه كواليسه ، ولا يُعلم ما إذا كان قرارا منفردا أم تم بتشاور موسع ، لكن الأكيد أن الذين اتخذوه قدموا بوعي أو بدونه دعاية سيئة عن تنزيل دستور 2011 . 5- القضاة ينفذون أكبر شكل احتجاجي في تاريخ القضاء المغربي تعد وقفة 06 أكتوبر 2012 يقينا أكبر شكل احتجاجي نفذه القضاة في تاريخ القضاء المغربي ، تمت الوقفة بالشارع العام بإيحاءات رمزية بالغة الدلالة ، فقد توشح القضاة ببدلهم المهنية حتى لا يُشكك أحد في حجم وقوفهم ، ثم اختاروا أن ينفذوا وقفتهم أمام أسوار محكمة النقض رأس هرم الجهاز القضائي لا أمام مقر الوزير السياسي بقصر المامونية بالرباط . لم يكن الإقبال منقطع النظيرللقضاة ناتجا عن مطالب مهنية ذات طابع حقوقي ، بقدرما كان احتجاجا على عجز الحكومات المتعاقبة عن الاستجابة للملف المطلبي الآني للقضاة . حضرالوقفة التي نفذت بمبادرة وتأطير من نادي قضاة المغرب جمع غفير من القضاة قدره المنظمون فيما يفوق 2000 قاض وقاضية وحددته جهات مستقلة في 800 قاض وقاضية جاءوا من مختلف ربوع المملكة. حظيت الوقفة بمتابعة إعلامية كبيرة في الداخل والخارج ، لكن الحراك القضائي لم يجن منها مع الآسف نتائج توازي حجمها وأبعادها المهنية العميقة ، فلم يُثمر الحوار القطاعي الذي دشنه نادي قضاة المغرب مع وزارة العدل نتائج معتبرة ، ولم تستثمر تداعيات الوقفة لخلق القطب الجمعوي المهيمن القادرعلى قيادة المفاوضات مع السلطة الحكومية دون طابوهات أو خطوط حمراء ؛ إذ سرعان ما دبت التناقضات الداخلية داخل الجمعية الواعدة ، ثم إن الوقفة ما كان ينبغي أن تتخذ غاية في ذاتها ؛ في هذا السياق اعترف كثير من كبار القادة في التاريخ العسكري أنهم اضطروا لخوض الحروب لا لشيء سوى فرض السلم بدون شروط مجحفة لهم ولشعوبهم . ولعل الوقائع اللاحقة تزكي صحة هذا الطرح ؛ ففي 8 فبراير 2014 دعا نادي قضاة المغرب مجددا لوقفة أمام مقر وزارة العدل والحريات في ظروف رأى فيها كثيرون اختيارا غير موفق لا من حيث الزمن والمكان و لا من جانب الملابسات العامة ، فإذا كانت وقفة محكمة النقض مجردة في رمزيتها ، فإن وقفة زنقة المامونية كانت موجهة بإيحاءاتها المكانية وتعني الوزير السياسي ، وجاءت في توقيتها بعيد صدور المراسيم المتعلقة بتحسين الأوضاع المادية لبعض فئات القضاة ، فافتقدت عمقها المطلبي ، كما أتت قبيل صياغة مضامين القوانين التنظيمية حول السلطة القضائية ، فافتقدت عمقها الحقوقي ، لذا لم يجد الوزير صعوبة بالغة في استصدار قرار بمنعها . 6- الجمعية المغربية للقضاة تعلن تخليها عن مؤازرة نائب وكيل الملك بميدلت فيما عرف بقضية مول السباط هو بيان مقتضب تداولته وسائل الاعلام حينها ، وكان من الممكن أن يمرعابرا لولا أنه تضمن موقفا من المواقف المتميزة التي بصمت الحراك القضائي ولم يُلتفت إليها ؛ فبعد مباشرتها لتحقيق بعين المكان ، خرجت الجمعية المهنية بموقف صريح يرفض طلب المؤازرة المقدم من طرف نائب وكيل الملك . وتثمين موقف الجمعية المغربية للقضاة ، لا يعني بالضرورة إدانة لقاضي ميدلت بقدرما هو إشادة بالمبدأ مجردا عن حالته الخاصة ، فطيلة الحراك القضائي تضامنت الجمعيات المهنية للقضاة مع عشرات من الحالات ، كان أغلبها عبارة عن وضعيات غير منضبطة بالتقويم المهني قبل الأخلاقي ، لكن الجمعيات تبنتها من باب أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ، أو بدافع التدافع على الاستقطابات التنظيمية والمزايدات الانتخابوية ، مع أن المفروض أن العمل النقابي والجمعوي داخل القضاء - خلافا للمهن الأخرى - ينبغي أن يكون عامل تخليق وتطهير وتحصين ، وكلها من مقومات الدفاع عن المهنة التي يبقى لها وضع اعتباري خاص وحساس . 7- المسؤولون القضائيون يُقبرون روح الفصل 111 من الدستور بمناسبة تجديد الهياكل المحلية للودادية الحسنية للقضاة كما كان متوقعا ، شكل تجديد هياكل الجمعية المهنية الودادية الحسنية للقضاة اختبارا حقيقيا للفصل 111 من الدستور الذي اعترف بحق القضاة في تعددية الجمعيات المهنية ، فالجمعية المهنية التاريخية لم تتخل طيلة الحراك القضائي عن عقيدتها " جميع قضاة المملكة أعضاء في الودادية بقوة القانون " وهكذا نزل أغلب المسؤولين بثقلهم في العملية الانتخابية ، وعقدوا انتخابات تجديد الهياكل بمكاتبهم مستخدمين الوسائل اللوجيستكية للجهاز دون أن تتوفر ذات المكنة للجمعيات الأخرى قاصدين إحراج مناضلي الجمعيات المهنية الأخرى والمتعاطفين معها ، بل إن منهم من نادى باجتماع بمكتب الرئيس دون أن يبين للقضاة محور الاجتماع ليجدوا أنفسهم في قلب عملية انتخابية لم يختاروا الانضمام إليها. كما إن تقليص نسبة تواجد الجمعيات المهنية المشاغبة بالمحاكم هي إحدى شواهد حسن السيرة والسلوك التي على المسؤول القضائي تقديمها للبقاء في منصبه ، ومن أغرب ما سمعت أن أصحاب الحل والعقد أصبحوا يقولون إن هذا الرئيس لا يصلح لأن عنده تمثيلية كبيرة للجمعية الفلانية في محكمته ، ولم يستطع أن يحكم محكمته قياسا على المثل الدارج القائل بأن رب الدار هو الذي يحكم داره ، وتتحمل السلطة الحكومية المكلفة بالعدل مسؤوليتها كاملة في إقبار روح الفصل 111 من دستور المملكة ؛ بالسماح لرؤساء المكاتب الجهوية للودادية بمراسلة المسؤولين القضائيين بالطريقة الإدارية رغم انفصال الشأن المهني عن الشأن القضائي منذ 2011 ، وكذا بتسلم هؤلاء المسؤولين لهذه المراسلات وتنفيذها ضدا على ما يوجبه الفصل 111 ، كما تتحمل الجمعيات المهنية الأخرى شقها من المسؤولية لأنها لم تبد رد الفعل المناسب عما طالها في هذه العملية ، وكان عليها أن تتحرك في نطاق حقوقي وتطلب إن اقتضى الأمر ذلك تحكيم ملكي أو فتوى من المجلس الدستوري بمدى صحة إشراف المسؤولين القضائيين على انتخابات جمعية مهنية دون بقية الجمعيات المهنية الأخرى لاتصال الأمر بمسألة دستورانية تهم مادة في صلب الدستور . 8- نور الدين الرياحي يفجر الودادية الحسنية للقضاة من الداخل احتجاجا على التصويت الموجه ضده وضد لائحته هو من أعلام النيابة العامة بالمغرب ، رماه قدره في عقد التسعينيات في قلب محاكمات كبيرة حُكمت بمنطق مصلحة الدولة La raison d'Etat ، تميز خلال الحراك القضائي بتصريحاته الصدامية تجاه القضاة الشباب الذين ينشطون في نادي قضاة المغرب ، آمن بالتداول على التسيير داخل الودادية الحسنية للقضاة ، وقدم نفسه رجلا للمرحلة التي تحتاج في نظره لشخصية كاريزماتية تتوفر فيها مقومات القيادة ، قاد حملة انتخابية على الطريقة الأمريكية في محكمة النقض وفي الدوائر الاستئنافية. إلا أن التصويت الموجه ضده وضد لائحته في انتخابات المكتب المركزي للودادية ، جعلته ينتفض متهما خصومه بتسخير المليشيات لقطع الطريق على شباب الودادية ، ثم خرج ليقود أكبر انشقاق داخل الجمعية المهنية التاريخية ، والبديل جمعية مهنية سادسة سعى أن يبعث فيها الاسم التاريخي لأول جمعية مهنية للقضاة ؛ رابطة القضاة. من سخرية القدر أن الرياحي الذي كان يردد بأن أعضاء نادي قضاة المغرب من شباب الودادية الذين لم يجدوا مكانا تحث شمسها ، اكتشف أن الأمر انطلى أيضا على بعض الشيب ، وأن الطاعون في البنيات وليس في الأجيال . قضم الرياحي جزء لابأس به من قاعدة الجمعيتين المهنيتين الرئيسيتين الودادية ونادي القضاة ، لكن خصومه يرون بأن القدرة الكبيرة التي أظهرها على الاستقطاب ، ما كان أن تتأتى له لولا قربه من أحد مراكز القوى داخل الجهاز القضائي ، والقراءة الرمزية لهذا الرأي أن القضاة بعدما بدأوا يؤمنون بالعمل المؤسساتي مع نادي قضاة المغرب ، عادوا ليحتموا كدأبهم بالأشخاص . يرى العارفون ببواطن الأمور في تجربة الرياحي ، إعادة لظاهرة اعتقد كثيرون أن الزمن الآني تجاوزها ، وهي تجربة الزعيم الكاريزماتي الملهم الذي تتوقف ردود أفعال أتباعه على مبادراته وهي الظاهرة التي جسدها القائد الفرنسي هنري دولاروشجاكلان في مقولته الشهيرة " Si j'avance, suivez-moi ;si je recule, tuez-moi ; si je meurs, vengez-moi " من هنا رأى البعض في الرياحي قوة الرابطة وضعفها في ذات الآن ، إذ من عيوب المؤسسات التي تعتمد كلية على شخصية الزعيم ضعفها أو اضمحلالها بغياب الزعيم ، فهل يستطيع أعضاء الرابطة أن يكسروا هذه القاعدة ويستمروا بجمعيتهم عند غياب رمزهم لأي سبب كان ؟ 9- القوانين التنظيمية للسلطة القضائية توحد الجمعيات المهنية للقضاة شكلت مناقشة القوانين التنظيمية حول السلطة القضائية، إحدى لحظات الصفاء القليلة التي وحدت القضاة على قلب رجل واحد، وكانت السبب في بعث ائتلاف بين مجموعة من الجمعيات المهنية المتباينة الحجم والأهمية. طيلة الحراك القضائي لم تتفق الجمعيات المهنية على مواقف محددة حول الشأن المهني ، حتى من باب وحدة المصير المهني المشترك ، بل ظل الصراع سيد الموقف ، وغذته حرب الاستقطابات والمواقع ؛ وضعية صحية متوقعة ونتيجة طبيعية لتعددية التمثيل الجمعوي داخل الجهاز القضائي . برزهذا الصراع بشكل خاص في علاقة القطبين الكبيرين ؛ الجمعية المهنية التاريخية والجمعية الشبابية الواعدة ، فقد تميزت علاقاتهما في أغلب فترات الحراك القضائي بصراع مرير عكس نظرتين مختلفتين للأحداث الكبرى للحراك القضائي ، إذ مقابل نظرة تقليدية محافظة ، برزت نظرة جديدة متحررة . صُرفت النظرتان في مواقف كل طرف من الآخر، فمقابل خطاب تسفيه نادي قضاة المغرب من طرف الودادية ، نهج نادي قضاة المغرب خطابا مضادا ارتكز على شيطنة الودادية الحسنية . ولا شك أن الصراع طيلة أمد الحراك ، أضعف الجمعيات المهنية التي وصلت إلى معركة القوانين التنظيمية منهكة وممزقة بالصراعات الداخلية والبينية . ولا نستطيع الآن القطع فيما إذا كان طرح القوانين التنظيمية على البرلمان في هذا التوقيت بالذات مجرد مصادفة أم أنه أمر مدروس عكس حسا تكتيكيا عاليا من لدن السلطة الحكومية . 10- عزل الهيني وإقصاء حماني إنهاء رمزي للحراك القضائي أتاح الحراك القضائي للقضاة هامشا غير مسبوق من حرية التعبير والرأي ، من حيث مساحة الحرية استفاد القضاة من الانفتاح الذي أعقب الحراك المجتمعي العام ، ومن حيث الوسائل لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورا محوريا في وثيرة التواصل بين القضاة فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين محيطهم الخارجي من جهة أخرى . ويجدر الإقرار بأن هذا الهامش التعبيري المعتبر وإن وقع استثماره من تعبئة القضاة وفي التعريف بمطالبهم المهنية وفي تسجيل انفتاحهم على محيطهم العام ، فإنه كثيرا ما أسيء استعماله إما لتصفية الحسابات الداخلية بين القضاة أو لتصريف الصراع مع الإدارة القضائية بكل أطيافها المختلفة ، وكثيرا ما حملت بعض المواقف التي عبر عنها القضاة ، حمولات إيديولوجية وسياسية بينة . في بداية الحراك القضائي ، تعاملت السلطة الحكومية المكلفة بالعدل بتسامح ملحوظ مع الفورة التعبيرية ، إلا أنها أظهرت في أعتاب ختامه شراسة في التعامل ظهرت في قصيتي محمد الهيني وآمال حماني ، كانت العقوبتان المتخذتان قاسيتان ، وانصرفتا إلى تأثيم التعبير عن الرأي دون مواربة ، بينما كان تأديب القضاة المزعجين قبل ذلك يتم تحث غطاء أخطاء مهنية بحتة كإفشاء السر المهني في حالة جعفر حسون والامتناع عن الالتحاق بالعمل في حالة محمد عنبر والقذف في المتابعة الأولى للهيني ، نهج رأي فيه كثير من المتتبعين رغبة من جانب الدولة لفرض الانضباط الذي افتقد داخل الجهاز القضائي طيلة أمد الحراك القضائي. ورأي فيه آخرون إنهاء رمزيا للحراك القضائي بدليل أن إعلان عقوبتي الهيني وحماني تصادف مع مصادقة مجلس المستشارين على القانونين التنظيميين حول النظام الأساسي للقضاة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، إذ بغض النظر على أن القانونيين المذكورين سيرهنان مستقبل المهنة لعقود قادمة ، لم تعد للجمعيات المهنية بعدهما وبعد تحسين الأوضاع المادية للقضاة قضايا كبرى يمكن أن تجدب اهتمام الرأي العام القضائي ، وستدخل الجمعيات المهنية شاءت أم أبت مرحلة تدبير الشؤون المهنية الجارية مكرسة بذلك انتهاء الحراك القضائي. *قاضٍ مغربي