عندما ارتفعت أصوات المغاربة مطالبين بدمقرطة النظام السياسي الذي يحكم البلاد بدا أن أعلاهم صوتا هو ذلك الذي يطالب بملكية برلمانية على غرار النظام السياسي البريطاني الذي يسود فيه الملك، أو الملكة، ولا يتمتع فيه التاج الملكي بأية سلطة سياسية. وقد نُشِر مؤخرا مقال لتوفيق بوعشرين يدافع فيه عن هذا الطرح، زاعما أنه لا مجال للخوف من الملكية البرلمانية. ولكي نتفق مع صاحب هذا المقال أو نختلف معه علينا أولا أن نفهم طبيعة النظام البرلماني، سواء كان جمهوريا أو ملكيا، وأن نحكم بعد ذلك على جدوائية النظام البرلماني في المناخ السياسي المغربي. معلوم أن رئاسة الحكومة في النظام البرلماني سواء كان جمهوريا أو ملكيا لا يتم انتخابها في اقتراع عام مباشر، ولكنها تنبثق عن الحزب الأول في الانتخابات التشريعية، أي أن الحزب الحائز على أكبر عدد من مقاعد الغرفة العليا في البرلمان هو الذي يشكل الحكومة بمفرده إذا كانت عنده الأغلبية اللازمة لذلك، أو على رأس ائتلاف حكومي مع أحزاب أخرى إذا لم يتمكن من حيازة الأغلبية اللازمة ليحكم البلاد بمفرده. ويستمر الحزب الحاكم على رأس السلطة التنفيذية ما دام الائتلاف قائما، أما إذا انفرط عقد الائتلاف، لأي سبب من الأسباب، تسقط الحكومة ويكون لزاما على الملك، في الملكيات البرلمانية، أو رئيس الجمهورية، في الجمهوريات البرلمانية، أن يعين وزيرا أولا من حزب أقدر على تشكيل ائتلاف جديد، أو يُصار إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها للخروج من الأزمة السياسية. جدير بالتذكير أن عددا من الديمقراطيات العريقة ذات النظام البرلماني هي أيضا ذات سِجِلٍّ عريق في الأزمات السياسية. فقد رأينا في التسعينيات كيف أن جمهورية تركيا دخلت أزمات من هذا القبيل عندما فشل أربكان في الحفاظ على ائتلافه مع تانسو تشيلر، ورأينا كيف أن السلطة التنفيذية افتقدت إلى الاستقرار في يد فريق حاكم لمدة معقولة في إيطاليا في عدد من فترات تاريخها السياسي، بل إننا نرى أن الائتلاف الحاكم حاليا في "إسرائيل" على كف عفريت بسبب تقلب مزاج ليبرمان، حليف نتنياهو في الائتلاف الحاكم حاليا. قد يقول قائل إن هذه الأمثلة من دول ذات نظام جمهوري ونحن عندنا نظام ملكي، فما علاقة هذا بذاك؟ أقول إن الفرق بين الأمثلة السابقة والملكيات البرلمانية من هذه الناحية التي أناقشها لا يكمن في أن الأولى جمهوريات والثانية ملكيات، بل يكمن في تمايز طبيعة المشاهد الحزبية التي ينبني عليها النظام السياسي في المجموعتين (أقصد الجمهوريات المذكورة من جهة وإسبانيا وبريطانيا مثلا من جهة أخرى). فالميكانيزمات التي يشتغل بها النظام الجمهوري البرلماني والنظام الملكي البرلماني هي نفسها: السلطة التنفيذية تنبثق عن القوة الأولى في المؤسسة التشريعية ولا دخل لرئيس الدولة في ذلك سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية. إن إسبانيا وبريطانيا تتمتعان باستقرار سياسي لأن المشهد الحزبي فيهما ثنائي الأقطاب. ففي إسبانيا يوجد حزبان رئيسيان هما حزب العمال الاشتراكي الحاكم حاليا ذو المرجعية اليسارية والحزب الشعبي المعارض ذو المرجعية اليمينية، وتؤثث المشهد أحزاب صغرى ثانوية من الممكن أن تدخل في ائتلافات إذا دعت الضرورة. أما في بريطانيا فينبني المشهد الحزبي على حزبين رئيسيين أيضا هما حزب العمال اليساري وحزب المحافظين اليميني، وأيضا يؤثث المشهد الحزبي هناك أحزاب صغرى من الممكن أن تدخل في تحالفات لكنها أبدا لا تحلم بتقلُّدِ السلطة التنفيذية. أما في النظم البرلمانية التي تعاني من كثرة الزلازل السياسية فالمشهد الحزبي فسيفسائي مبلقن، من الممكن أن يفشل فيه الحزب الأول في تشكيل ائتلاف حكومي، ومن الممكن أن يقود فيه حزب آخر البلاد بحكومة ذات أغلبية هشة في البرلمان لا تستطيع تنفيذ برامجها إلا بعد مساومات مع المعارضة، بل من الممكن أن ينهار هذا الائتلاف كليا عند أول تحدٍّ، لتدخل البلاد أزمة سياسية ربما لا يتم الخروج منها إلا بانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وحتى هذه الانتخابات قد لا تكون هي الحل إلا إذا أسفرت عن أغلبية واضحة ذات معنى في الغرفة العليا للبرلمان. ما دامت هذه هي حيثيات اشتغال النظام البرلماني، فأين يمكن تصنيف النظام السياسي المغربي بين الفئتين، النظم البرلمانية المستقرة والنظم البرلمانية الكثيرة الاهتزازات؟ إذا كان النظام السياسي التركي أكثر استقرارا الآن بفضل ظهور حزب العدالة والتنمية القوي الذي يستطيع حاليا قيادة البلاد بسلطة تنفيذية خالصة له بمفرده، فهل عندنا في المغرب إمكانية ظهور حزب مماثل؟ هل هذا المشهد الحزبي قادر على إفراز برلمان ذي معنى، قبل أن نحلم أن يفرز لنا حكومات ذات معنى؟ حاليا عندنا 36 حزبا، وربما قد تأتي موجة انشقاقات تفتت المشهد أكثر، كيف يمكن التفكير في نظام برلماني بهذا الكم الهائل من الأحزاب؟ كيف سنُفصِّل مشهدا حزبيا على مقاسنا؟ وبأية أحزاب سنُضحي وبأية أحزاب سنحتفظ؟ أم أن أحزابنا السياسة الصغيرة، وما أكثرها، ستصبح بين عشية وضحاها وطنية ، وستقوم من تلقاء نفسها بحل نفسها أو إذابة نفسها في أحزاب كبرى، تقديما للمصلحة الوطنية على مصالح زعمائها الأبديين الذين طالت إقامتهم في مناصب الأمانة العامة والرئاسة لهذه الأحزاب؟ أليس من المبكر أن نطالب عرش المغرب أن يصبح أريكة فارغة؟ أم أنه لن يكون من الغضاضة أن نطالبه بعد غد بالعودة ليمسك بتلابيب السلطات بعد أن نكون قد فشلنا في تدبير شؤوننا؟ قيل لعنترة: "أنت أشجعُ العرب وأشدّها" قال: "لا". قيل: "فبماذا شاع لك هذا في الناس؟" قال: "كنت أُقْدِمُ إذا رأيت الإقدام عزْماً، وأُحجِم إذا رأيت الإحجام حزماً ولا أدخل موضعاً حتى أرى لي منه مخرجاً". بنفس المنطق، على الذين يطالبون بنظام برلماني أن يفكروا من الآن في المخرج من مطباته قبل ولوجه، وإلا فإن أمة بأكملها ستفقد ماء وجهها إذا تبين أنَّ مطالبَها لم تكن أكثر من أحلام أطفال. والله أعلم. *باحث في الدراسات المغربية الأمريكية