مذكرات كاتب فاشل... الجامعة والثورة كنت طالبا بالجامعة آواخر الثمانينات، و كان الوضع بالنسبة لي مختلفا ومفاجئا، مظاهرات طول اليوم ، فصائل متعددة ، كل فصيل يلقي بسلعته أمام المارة كسوق عكاظ، رسوم كاريكتيرية للفنان الراحل" ناجي لعلي " وبيانات نارية معلقة على سبورة بمدخل الجامعة مشحونة بالتنديد والشجب بالسياسة الرجعية تبادل الإتهامات عادة متفشية، كل فصيل يتهم الآخر بمعجم من التهم والألفاظ النابية كالظلامية والعمالة، والتبوليس(من البوليس) و السخرة والقوادة للمخزن واستعمال العنف في كل لحظة يتوقف فيها النقاش والحوار، وقد يتجاوز الأمر الحدود المعقولة لأسباب سخيفة، فعلا عالم جد مثير شعرت معه بالغربة والتيهان، وسألت نفسي أهذه هي جلالة الجامعة التي كنا نحلم بوضع أقدامنا برحابها ؟ طلاب يتسكعون في أدراج الجامعة، فتيات بملابس مثيرة برفقة أصدقائهن من الشباب الذي يحضر من أجل التسلية والتجول عبر الحلقات التي كانت بمثابة الرحى الذي تدور فيه كل النقاشات والسجالات الساخنة حول سياسة الدولة ومشروعها البيروقراطي حسب بعض الفصائل التقدمية. على مدخل باب الجامعة تبتدئ عملية التعبئة للطلاب الجدد وغالبا مايتم استعمال الطالبات من بعض الفصائل باعتبارهن أكثر تأثيرا وجاذبية من الطلبة يحملون منشورات متنوعة حول الطبقية والنظام الفيودالي وبالقرب منهم تفاجأ بفتيات محجبات يحملن منشورات عن حياة السيد قطب والأب الروحي حسن البنا وفصائل أخرى لم أفهم تلك اللحظة مشروعهم الثوري للتغيير، حتى أن الوافد الجديد يختلط عليه الأمر ويصاب بصداع في رأسه من شدة النظريات والتصنيفات والأطروحات. ولا أخفي عنكم شدة اندهاشي بهذا الكم الهائل من الفصائل، وكنت بحكم براءتي وسداجتي أتساءل : لماذا يتناطحون كالخرفان وهم يبحثون جميعا عن هدف واحد هو التغيير؟ ولماذا لايلتئمون في فصيل واحد وأوحد لتجميع القوى وتشكيل فريق منظم لمواجهة مايسمونه بالمد الرجعي؟ سؤال كان يؤرقني باستمرار وأنا في بدايتي ويجعل العديد من الطلبة ينظرون للجامعة نظرة احتقاروتبخيس عندما يهجرون مدينتهم وهم يحلمون بالوصول إلى فضاء متميز يتعلمون أشياء مختلفة وجديدة ويكتسبون مهارات كبيرة ويعرفون شعبا تخرجهم من السلب إلى الإيجاب ومن القهر إلى الرفاهية ومن عوالم صغيرة جدا إلى آفاق واسعة من العلم والمعرفة. هذا هو المبتغى الظاهر من الالتحاق بهذا الفضاء العجيب لكن سرعان مايتحول الهدف ويصبح الطالب كائنا سياسيا بامتياز ويصبح بقدرة قادر محامي الشعب يدافع عنه لتحقيق مطالبه وحقوقه الكبيرة وسط أربع حيطان سميكة وبعيدة عن التجمع السكاني وهولا زال يتعلم الأبجديات الأولى في العلوم القانونية كما كان يحدث معي. كنا نحلم جميعا بعالم وردي، تندثر فيه الطبقية وتسود فيه المساواة ونحقق فيه الثورة التي كنا نحلم بها حيث يقود الشعب نفسه بنفسه وهذه المطالب هي التي كانت تدعو لها الماركسية وهنا كنت منجذبا دون أن أشعر مع بقية أصدقائي للزعيم الروحي كارل ماركس، حقيقة لم أقرأ كتابه " رأس المال" إلا عندما خرجت من الجامعة والكثير من الأشياء لم أفهمها إلى حدود اليوم. أخطر أنواع الاستيلاب هو التضليل وهو مايسقط فيه الكثيرون دون أن يشعروا بذلك في فترة زمنية من حياتهم الدراسية. انجرفت مع التيار، كان قويا جدا، وكان الأقرب إلى ميولاتي خصوصا أنني انتمي إلى وسط فقير وكنت أعاني من الطبقية الموحشة ووجدت نفسي وبقية أصدقائي نطرح السؤال الجريح: هل الجامعة مختبر للعلم والمعرفة للطلبة الوافدين عليها أم ساحة للنضال والوغى ؟ ومن المسؤول عن هذا التحول التاريخي في الأدوار بالنسبة للجامعة ؟ والحق يقال، فجل الطلبة الذين كانوا يلقبون " بالمناضلين" كانوا جد متمكنين من خطاباتهم ومن معلوماتهم المتنوعة ومعارفهم الواسعة رغم أن البعض منهم كان يقضي ست سنوات أو أكثر في الجامعة والغريب أن اغلبهم لا يمر على المقرر سوى مرور الكرام. وكانت لهم قدرة فائقة على البلاغة والمرافعة والإقناع مما يجعلهم يتحكمون في رقاب الطلبة كالنعاج واستمالتهم ودفعهم دفعا إلى الإيمان المطلق بالكراسات التي تحمل عقيدتهم السياسية وهوسهم المثير والتي كنت أجد صعوبة في فهمها والتمكن من خلفياتها. فعلا كانوا يشبهون السحرة في عملية الإغواء. كنت أصاب بالحيرة من جرأة هؤلاء " المناضلين" ومن حرصهم الشديد على مبادئهم وتنظيماتهم أكثر من دراستهم ومن أي شئ آخر، إنهم كائنات لاتشبه الكائنات الموجودة خارج أسوار الجامعة، وكنت أعجز عن فهم هذا الحب والجنون الذي يكنونه للزعيم الروحي . والمثير في الأمر أنه كلما سألت أحدهم عن استغلال الفرصة للتعلم والدراسة وعن إمكانية ضياع مستقبله يرد بقوة وبجرأة أن المستقبل هو سقوط النظام الفاسد. كنت أشعر بالخوف وأنا لازلت في الطريق لجرأة هذه التنظيمات ومدى قدرتها على تحمل تبعات هذه المواقف والتصريحات التي كان سقفها عاليا خصوصا أن الفترة كانت حرجة وكان النظام يحكم آنذاك بقبضة من حديد أو ماكان ينعته المهتمون بالحكم الفردي الديكتاتوري، لكنهم لم يكونوا يخضعون ولايستسلمون رغم قسوة الاعتقالات والتعذيب بأشكاله القذرة، حسب ما يتم تداوله بين الطلبة من حكايات مرعبة أثناء التجمعات الحلقية. لايملك المرء سوى تشبيههم بالمخلوقات العجيبة والتي لن تتكرر في زمان آخر. خرجت من الجامعة وأنا شخص مختلف ومحمل بالعديد من الأفكار والتجارب رغم أنني لم أشارك سوى بقسط صغير لايتعدى سوى الوقوف أو التفرج من بعيد لأن الملعب كان كبيرا جدا وملغما وخطيرا للغاية ويحتاج للزاد والعدة من الخدع السياسية والقذارة وطائفة من المريدين والموالين يهتفون باسمك في كل حصة من الحصص التدريبية بالحلقة، المكان المقدس والذي تتم فيه البيعة للقائد بالجامعة. وأصدقكم القول وجدت صعوبة كبيرة في التكيف مع العالم الخارجي، لاشئ يشبه مدرجات الجامعة وأسوارها وشرطتها وأساتذتها وقوانينها العتيقة وغرامياتها وطقوسها الغريبة، وجدت عالما شاسع الأطراف كل واحد منشغل لا يفكر سوى في نفسه، ومستقبل أبنائه، لامجال للحديث عن الكتب ، الحرية ، التغيير و الثورة على النظام، الكل يتحدث عن الخبز، الشغل وتحقيق المصالح الشخصية وأشياء أخرى لاداعي لذكرها...... *كاتب صحافي