نسائم السكينة والسلام هبّت من جديد على تمبكتو، أو مدينة الصالحين ال 333"، كما يحلو للسكان المحليين تسميتها، أكبر مدن الشمال المالي، مع إعادة بناء 14 من الأضرحة التي هوت، في 2012، تحت وقع فؤوس "متشدّدين" قاموا، آنذاك، بهدمها لدى سيطرتهم على المدينة. 14 ضريحا من أصل 16 اختفت من المدينة التاريخية التي تعرف أيضا ب"لؤلؤة الصحراء"، حاملة معها الكثير من خصوصيتها وسحرها الذي لطالما استقطب السياح من كافة أنحاء المعمورة. صفحة حزينة تطويها اليوم المدينة، مع إستكمال أشغال إعادة بناء أضرحتها، ويتطلّع من خلالها سكانها وزعماء الدين فيها وحتى سلطات البلاد، إلى الحفاظ على معالمهم التراثية، من خلال التصدّي مستقبلا لجميع أشكال التعصّب الديني. ففي عام 2012، دمرت عناصر تابعة لتنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي"، 14 ضريحا من أصل 16، مدرجة جميعها، منذ 1988، على لائحة ال "يونسكو" (منظمة الأممالمتحدة للعلم والثقافة) للتراث الإنساني، مدّعية بذلك محاربة الوثنية. مأساة حقيقية بالنسبة لسكان الشمال المالي، فتدمير أضرحة يعود تاريخ البعض منها إلى القرن 13 ميلادي، شكّل صدمة كبيرة لهم، وحرم المدينة إحدى أبرز خصوصياتها التاريخية والحضارية. غير أنّ قرار السلطات إعادة ترميم الأضرحة ضمن برنامج ممول من اليونسكو، شكّل نبأ سعيدا بالنسبة لهؤلاء السكان، ممن تابعوا بترقّب مشوب بسعادة عارمة الأشغال في مختلف مراحلها. جهود الترميم استغرقت نحو عامين من أجل أن تعود المزارات إلى سالف عهدها، لتنتهي الأشغال رسميا، في الرابع من فبراير/ شباط الماضي، بفضل دعم الشركاء الدوليين، وخاصة منظمة اليونسكو. لاسانا سيسي، مدير التراث الثقافي في مالي، أعرب للأناضول عن سعادته بإعادة ترميم الأضرحة، قائلا: "سنبذل ما بوسعنا لحمايتها من التدمير، ونأمل أن تتمكن الحكومة، التي تحظى بدعم الشعب المالي، من فرض الأمن تدريجيا في كامل أرجاء المدينة"، والتي لا تزال حتى الآن مستهدفة من قبل المجموعات المسلحة. وبحسب مسؤولين أمميين، فإنّه بوسع تمبكتو الإعتماد على بعثة الأممالمتحدة المنتشرة في مالي (مينوسما)، تفاديا لأي سيناريو شبيه بذاك الذي شهدته في 2012، في إشارة إلى حادثة تدمير الأضرحة من قبل متشدّدين. من جانبها، أوضحت صوفي رافييه، رئيسة وحدة البيئة والثقافة التابعة للبعثة الأممية في مالي، للأناضول أنّ "حماية المواقع الثقافية التاريخية تعود مسؤوليتها للسلطات المالية، ولكن ربما بتنسيق مع اليونسكو والمينوسما"، مضيفة أنّ "زملاءنا في الميدان على اتصال دائم بالسلطات المالية، ويستطيعون القيام بدوريات حول الأضرحة والمواقع الثقافية الهامة الأخرى (وخصوصا المساجد)". إعادة بناء جعلت المدينة تستعيد معالم الحياة فيها من جديد، بحسب السكان المحليين. سيدي يحيى، أحد سكان تمبكتو قال إن "لؤلؤة الصحراء" (تمبكتو) استردت ثروتها، معربا عن إنبهاره بأشغال الترميم والبناء التي احترمت الخصائص المعمارية الأصلية" للأضرحة. وتتمتع أضرحة تمبكتو برمزية كبرى، حيث يقصدها السكان 3 أيام في الأسبوع: الاثنين والخميس والجمعة، للتجمّع في مقابر الأولياء الصالحين واستعراض سيرهم الطيبة، بحسب أحد سكان المدينة (لم يذكر اسمه)، والذي أوضح أن "الترميم أعاد الروح إلى تمبكتو، ويمكننا منذ اليوم، أن نعيش الأجواء الروحانية ذاتها"، مشددا على ضرورة "عدم السماح مجدّدا لأي شخص بالمساس بالرموز الثقافية". وفي 4 فبراير الجاري، تاريخ الإنتهاء من أشغال الترميم التي انطلقت في 2014، سلّمت اليونسكو مفاتيح الأضرحة إلى الأسر المتكفلة بها، وذلك خلال مراسم احتفالية جرت مؤخرا. وأشاد لازار إلوندو، ممثل اليونسكو في مالي، ب "المهارات التقليدية التي يمتلكها عمال البناء، والتي مكنتهم من إعادة تشييد الأضرحة، باستخدام ما تبقى من الجدران الأصلية (المهدمة)"، مطالبا، في الآن نفسه، بضرورة الحفاظ على المزارات المرممة. واستند عمّال البناء ممن تكفّلوا بمهمّة إعادة بناء الأضرحة على مهاراتهم، إضافة إلى التقاليد المحلية القديمة، وشهادات السكان المحليين، وعلى عدد من الصور، من أجل الحصول على صور طبق الأصل من المزارات المهدومة. وخلال مراسم الاحتفال، ذبح 14 ثورا تم توزيعهم على السكان، بحضور عدد من رجال الدين، والذين تلوا آيات من القرآن الكريم، وصلوا جماعة من أجل أن يحفظ الله مدينتهم التاريخية. وتأسست مدينة تمبكتو بين القرنين 11 و16 ميلاديا، على أيدي قبائل الطوارق، وسرعان ما أصبحت منارة علم وثقافة إسلامية في الصحراء الكبرى، وملتقى القوافل التجارية، حيث شكلت على مدار قرون متعددة مركز إشعاع ثقافي وعلمي، كما كانت مركزا سياسيا للعديد من الملكيات التي نشأت بالمنطقة كمملكة الصونغاي ودولة الشاوات ودولة الفولان. وازدهرت المدينة في القرن السادس عشر الميلادي كمنارة إسلامية للعلم وموطن لعلماء الدين من أصقاع الدنيا كافّة.. وأدرجت المدينة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، بفضل أضرحتها ومساجدها ومكتباتها التي تشهد على عصر "لؤلؤة الصحراء" الذهبي، عندما كانت أحد أهم المراكز الروحية والثقافية للإسلام في إفريقيا. * وكالة أنباء الأناضول