في الحاجة إلى تخليص الوثيقة الدستورية من عبء القداسة ظل شخص الملك، عبر التاريخ المغربي، يحظى بالاحترام والتقدير نظرا للمكانة السامية التي كان يحتلها في وجدان ووعي "الرعايا" المغاربة، هذه المكانة السامية ستظهر البوادر الأولى لتأسيسها قانونيا ودستوريا مع بداية الإرهاصات الدستورية الأولى قبل الحماية، وبالفعل فالإرهاصات الأولى لتكريس قداسة شخص الملك بشكل قانوني ودستوري تعود إلى بداية القرن العشرين مع ظهور مشروع دستور1908، الذي نص في مادته 7 على أنه" يجب على كل أبناء السلطنة الطاعة للإمام الشريف والاحترام لذاته، لأنه وارث البركة الكريمة"، هذا التأكيد على ضرورة الطاعة والاحترام، لم يقف عند حدود شخص الملك بل تم توسيعه ليشمل كافة أعضاء الأسرة الملكية بالنظر إلى انتمائها الشريفي، إذ نصت المادة 9 من نفس المشروع على أنه " يجب الاحترام لكل واحد من آحاد الأسرة السلطانية..." وإذا كان الأستاذ علال الفاسي قد سجل تحفظه على بعض المفردات التي من خلالها سعى مشروع دستور 1908 إلى حفظ الموقع الاعتباري للسلطان، معتبرا أن مصطلح "وارث البركة الكريمة.." لا يتلاءم مع طبيعة الشخصية المغربية وهو تعبير بعيد عن الثقافة السياسية الوطنية ومستورد من المشرق، فإن أول نص دستوري لما بعد الاستقلال سيفرز مفهوما آخر، مستورد هذه المرة من "الغرب"، إذ ولأول مرة سينبثق مفهوم جديد لم تعهده الأعراف والتقاليد الدستورية لممارسة الحكم في المغرب، ولم تحفل به مختلف الوثائق والمشاريع الدستورية التي عرفها المغرب، إنه مفهوم"القداسة" الذي تم استنساخه من المنظومات الدستورية الغربية، وبالنظر إلى أن نص الدستور المغربي الأصلي كتب ابتداء باللغة الفرنسية فقد اعتمد عبارة "مقدس"، وهي ترجمة لكلمة sacre" "، دون التفاف إلى أن دلالات هذا المفهوم تتجاوز بني البشر في إطار المنظومة الحضارية الإسلامية، وأن القداسة بنص القرآن من الصفات المطلقة لله وحده، والرسل هم المعصومون من الخطأ، أما البشر العاديون فينسحب عليهم قانون الصواب والخطأ. هكذا انطلقت رحلة دسترة الإرهاصات الأولى لصفة القداسة داخل المتن الدستوري، ومعها ستنطلق رحلة اقتران أبدي لمختلف الوثائق الدستورية التي عرفها المغرب بموضوع القداسة، ففي أول دستور عرفه المغرب بعد الاستقلال سنة 1962 عملت السلطة التأسيسية على تكريس قداسة السلطان، وذلك ابتداء من خلال دسترة وضعية الملك بوصفه أميرا للمؤمنين بموجب الفصل 19، هذا النص سيجسد القداسة الروحية لشخص الملك، من خلال إعطائه امتيازات واسعة وحماية خاصة، الأمر الذي خول له موقعا مهيمنا داخل النسق السياسي المغربي، هذه القداسة الضمنية لشخص الملك سيتم تكريسها بشكل صريح من خلال الفصل 23 من الدستور الذي أكد على أن: "شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته". فالملك، باعتباره أميرا للمؤمنين يحظى شخصه بالاحترام والتبجيل ويحتل مكانة مقدسة في الممارسة الدستورية، هذه القداسة تمتد لتشمل كافة أعضاء الأسرة الملكية، ومن أجل حماية شخص الملك وعائلته ضد كل الانتهاكات المادية والمعنوية تم التنصيص على مقتضيات قانونية أخرى داعمة للفصل 23 من الدستور. وبالفعل فالقانون الجنائي المغربي حدد العديد من حالات انتهاك هذه القداسة والتي يعاقب عليها بشكل صارم. والواقع أن مفهوم القداسة الذي جاء به الفصل 23 من الدستور المغربي والذي يضفي هالة من القدسية على شخص الملك ويجعله فوق المراقبة والمحاسبة يقترب في الحقيقة من مفهوم العصمة، ذلك أن فكرة القداسة التي يحظى بها متولي إمارة المؤمنين في الدستور المغربي تلتقي مع تصور الشيعة لفكرة العصمة التي تعتبر الإمام شخصا مقدسا وتنزهه عن الوقوع في الخطأ حتى ولو تعلق الأمر بالممارسة السياسية والاجتماعية المحكومة بمنطق النسبية، والتقديس للإمام عند الشيعة ينطلق من تصور فقهاء الشيعة على وجوب عصمة الإمام، والعصمة هي أهم الفضائل التي يوجبها الشيعة للإمام حتى أصبحت وصفا ملازما له فضلا عما تحتله من أهمية كبرى في العقيدة الشيعية. ومن ثم فإن فكرة القداسة التي يحظى بها شخص الملك سواء من خلال الفصل 23 من الدستور أو في فصول القانون الجنائي، وحصانة الظهائر الملكية، تلتقي مع تصور الشيعة لفكرة العصمة التي تعتبر الإمام شخصا مقدسا معصوما من الخطأ، وصفوة القول إن مفهوم القداسة الذي جاء به الفصل 23 من الدستور المغربي والذي يضفي هالة من القدسية على شخص الملك ويجعله فوق المراقبة والمحاسبة يقترب في الحقيقة من مفهوم العصمة ويحقق نفس الأغراض، والحال أن الطابع المقدس لشخص الملك يضفي عليه طابعا من الهالة والتعظيم، ويدعم موقعه بحماية قانونية تجعل من شخص الملك فاعلا سياسيا مهابا، مدعما بذلك سموه في الحقلين السياسي والديني. إن التجربة والممارسة السياسية والدستورية بالمغرب تؤكد- إذا كان الأمر يحتاج إلى تأكيد- أن مفهوم القداسة المنصوص عليه دستوريا يتجاوز مجرد التعبير العصري عن مفهوم "البركة الكريمة"، كما يذهب البعض إلى ذلك، من خلال التأكيد على أن نص الفصل 23 من الدستور حافظ على نفس المبدأ وصاغه في أسلوب عصري ليس إلا. والواقع أن الحمولة والدلالة المضفاه على مفهوم القداسة نصا وتأويلا في إطار الوثيقة الدستورية وعبر الممارسة السياسية المغربية تجعلنا أبعد ما نكون عن مجرد مفهوم يكرس الاحترام والتوقير لشخص الملك، بل نحن إزاء مفهوم يفوق في تجلياته وانعكاساته كل ما تشير إليه بعض التفسيرات والتأويلات التي لا تتجاوز سقف الجانب الرمزي والروحي. بدليل أن هذا التنصيص على مفهوم القداسة في الوثيقة الدستورية لم يكن عديم الأثر، بل ستترتب عنه أثار قانونية وسياسية على أكثر من مستوى، الأمر الذي انعكس على طبيعة الحياة السياسية في مختلف أبعادها، فالفصل 23 من الدستور الذي يجعل من شخص الملك شخصا مقدسا لاتنتهك حرمته قد شرعن جميع تصرفات الملك كيفما كانت طبيعتها وكيفما كانت النتائج المترتبة عن تلك التصرفات ما دام القائم بها "مقدسا"، وموضوع القداسة هنا لم يكن ليطرح بهذه الحدة لو لم نكن أمام ملكية تنفيذية حاكمة تتولى تسيير أمور الحكم بشكل مباشر مع ما يستوجب ذلك من محاسبة ومساءلة. وانطلاقا من هذا الطابع المقدس لشخص الملك، يمكن رصد العديد من الانعكاسات الناتجة عن هذا المقتضى الدستوري. قانونيا كان لإدماج صفة القداسة داخل المتن الدستوري انعكاسات على أكثر من مستوى : على مستوى القداسة الشخصية للملك، نتج عن هذا التنصيص تمتع الملك بحصانة قانونية مطلقة، فالملك يبقى في منأى عن كل مساس بشخصه المادي والمعنوي، وكل تجاوز لحصانته يعاقب عليه جنائيا. كما أن الحصانة القانونية للملك تحول دون محاكمته، ذلك أن الأحكام القضائية لا تسري على شخص الملك، بالإضافة إلى أن شخص الملك لا ينتقد وهو في منأى عن كل تصوير أو تشبيه كاريكاتوري في الصحف أو المجلات. والحصانة التي يتمتع بها عضو البرلمان والتي تقتضى عدم مساءلته مدنيا وجنائيا بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت، تسقط إذا كان الرأي المعبر عنه "يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك". والحصانة التي يتمتع بها الملك تتعدى شخصه لتشمل كافة أعماله، من قرارات ومواقف وخطب وظهائر، فالخطب الملكية، تبقى في منأى عن أي نقد أو مجادلة وغير قابلة للنقاش بموجب الفصل 28 من الدستور الذي ينص على أن "للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش". كما أن القرارات الإدارية الأحادية للملك والتي تكتسي طابعا إداريا فهي غير قابلة للطعن أمام القضاء الإداري إذ اعتبرها المجلس الأعلى عبر أحكام عديدة غير قابلة للطعن، على أساس أن الملك ليس سلطة إدارية. أما بالنسبة للظهائر الملكية، فتتمتع بنفس العصمة التي تتمتع بها الجهة التي يصدر عنها، وتعتبر سارية المفعول وتجري عليها تبعا لذلك صفة القداسة، ولا يمكن الطعن فيها أمام أية محكمة مهما كانت درجتها، والحصانة القانونية التي يتمتع بها الظهير تحيل على خاصية رئيسية هي الحصانة المطلقة، والحاصل هو أن الظهير قرار مقدس له صلاحيات واسعة. وبالنتيجة فإن أمير المؤمنين أصبح يشكل المرجعية التي بموجبها تسن أو تلغى القوانين، وهكذا أصبحت المؤسسة الملكية بحكم القداسة في مرتبة فوق القوانين ولا تسري عليها الاعتبارات البشرية المحكومة بقانون الصواب والخطأ. هذه الاعتبارات وغيرها ستلقي بظلالها على جوهر السلطة السياسية وعلى طبيعة الحياة السياسية، ذلك أن لفظ "مقدس" لا يمكن استحضاره بعيدا عن كافة الدلالات التي يحيل عليها هذا المفهوم من رفعة وسمو وريادة من غير قيود أو شروط، فالمكانة السامية التي يتمتع بها الملك بوصفه أميرا المؤمنين تدل، بما لا يترك مجالا للشك، على الريادة السياسية للشخص الذي يحمل هذا اللقب، إذ تمكنه من احتكار سلطة غير مقيدة ويصعب التكهن بمداها الحقيقي، سلطة ليست لها بالضرورة علاقة بالمجالين الروحي والرمزي. وانطلاقا من طبيعة السلطة السياسية في المغرب بوصفها مجالا ملكيا حصريا، لا يمكن الحديث عن أية ممارسة سياسية حقيقية مفتوحة أمام كافة الفاعلين بشكل مباشر، ذلك أن "قدسية" السلطة في المغرب مجسدة في المؤسسة الملكية، لا تنحصر في المستوى الشكلي أو البعد الرمزي، بل يمتد تأثيرها إلى كافة المؤسسات، الأمر الذي ينعكس على طبيعة العملية السياسية وبالتالي على طبيعة المنافسة السياسية. وبالوقوف على جوهر السلطة السياسية في المغرب يبدو جليا أن المؤسسة الملكية جعلت نفسها فوق المنافسة السياسية مع كونها محور كل العمليات السياسية. فالملكية تؤكد طابعها القدسي باعتبارها مؤسسة المؤسسات وليست مؤسسة ضمن باقي المؤسسات. وبالتالي فهي أكبر من أن تخضع لقواعد العملية السياسية المتعارف عليها، الأمر الذي يجعل من الممارسة السياسية بالمغرب غير ذات محتوى، ناهيك عن الحديث عن ممارسة سياسية وفق قواعد وشروط التنافس السياسي الحقيقي، الذي لا يستقيم إلا بوجود تنافس سياسي مفتوح على سلطة مفتوحة ، والحال أننا بالمغرب لا نعدو فقط أمام مجرد حالة من التوازي بين نوع من الصراع السياسي المحكم وبين سلطة سياسية مغلقة تحتكرها مؤسسة ملكية مقدسة. ومن خلال الجمع بين الزعامة الدينية والزمنية، جعل الملك من الملكية قيمة "مقدسة" هذه القداسة يتم ترجمتها من خلال تهميش وشل كافة الفاعلين السياسيين والدينيين، ذلك أن السلطة السياسية من خلال الدفع بطابعها القدسي تنتج نوعا من الإذعان الصامت والطاعة اللامشروطة، فالمقدس بالطبيعة مخيف ويستدعي الحذر، وهكذ يصبح "القدسي" أداة للإخضاع والتهميش والإقصاء في مواجهة كافة الفاعلين السياسيين والدينيين على حد سواء، مما يفضي بنا إلى القول أن للنظام السياسي المغربي آليات وميكانيزمات خاصة تهيكل التعالي السياسي للسلطة السياسية، لأننا أمام سلطة سياسية مشرعنة من خلال قداستها. لذلك لا غرابة إن قلنا أن المقدس يخترق المجال السياسي المغربي في كافة أبعاده ومستوياته، سواء في طابعه الدستوري أو المؤسساتي أو عبر الممارسة اليومية، ولعل هذا ما يفسر ارتباط بل ربط كافة جزئيات الممارسة والسلوك السياسيين بالمغرب بهالة من القدسية تضفي نوعا من الهيبة بل نوعا من الرهاب على باقي الفاعلين السياسيين والدينين على حد سواء. الأمر الذي يفسر بدوره حالة الشلل والخضوع التي تطبع أداء هؤلاء الفاعلين، ولعل هذا ما يفسر بالنتيجة حرص المشرع المغربي على تكريس قداسة المؤسسة الملكية بموجب نصوص دستورية بعضها ضمني، وبعضها الأخر صريح، وإزاء هذا الوضع يبقى المرء عاجزا عن إدراك المدى الحقيقي لهذا التنصيص، ذلك أن الممارسة والتجربة أوضحت بجلاء أن مجال المقدس بالمغرب من دون حدود وقابل للتمدد، وبالتالي نحن أمام نص يتجاوز مجرد شخص الملك، إلى قداسة المؤسسة الملكية، لتطال هذه القداسة النظام السياسي المغربي أصلا في الكثير من جوانبه، بل إن القيم المقدسة للملكية أصبحت تتوسع لتطال الحجر فضلا عن البشر، أي أننا بالفعل أمام فيتو حقيقي باسم القداسة يتم اللجوء إليه في كل مناسبة وغير مناسبة. وبالتالي نحن أمام نص يتجاوز الغرض الذي من اجله تم تكريسه دستوريا، ألا وهو حفظ الموقع الاعتباري للملك وصون حرمته من الانتهاك، فشخص الملك ظل عبر التاريخ المغربي، يحظى بالمكانة السامية وبالاحترام والتقدير، لكنه لم يرقى أبدا إلى مستوى التقديس في نظر المغاربة، لأنهم كانوا يدركون تمام الإدراك أن احترام وتقدير شخص الملك شيء، ومسؤوليته شيء أخر، هذا التمايز كان دوما وأبدا حاضرا في الوعي الجمعي للمغاربة، لأنه وعي قائم على أساس أن إضفاء صفة القداسة أو العصمة على أحد من البشر فيه شبهة الشرك بالله، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للأشخاص، فإن تمدد هذه القداسة وإضفاؤها على شيء أو مكان بذاته هي الوثنية بعينها. إن مسألة قداسة الملكية وقداسة شخص الملك بالشكل الذي يراد له، ثقيلة من حيث النتائج والانعكاسات على الحياة السياسية بالمغرب، لأننا أمام سلطة سياسية مشرعنة من خلال قداستها، ووجود مثل هكذا سلطة سياسية يخلع كل مصداقية عن أية ممارسة سياسية حقيقية، ويخلع الكثير من المصداقية عن أي تعديل دستوري مرتقب، ومن هنا الحاجة الماسة إلى فك مغاليق مثل هكذا سلطة سياسية والتي لم يعد لها من وجود إلا في إطار نظريات الحق أو التفويض الإلهي. وفي كلمة إن فك الارتباط بين السلطة السياسية والقداسة في إطار النظام السياسي المغربي يقتضي ابتداء تخليص الوثيقة الدستورية من عبء القداسة. النص البديل المقترح للفصل 23 من الدستور: " شخص الملك مصون لا تنتهك حرمته" *أستاذ جامعي