انتظر المغاربة لأسابيع تغييرات السفراء التي أعلنت عنها وزارة الخارجية قبل أشهر، لكن القليل من كان يتوقع أهمية التعيينات الجديدة. فلأول مرة في تاريخ الدبلوماسية المغربية يعين الملك محمد السادس 78 سفيرا، منهم من عين لأول مرة كسفير، ومنهم من تم تنقيله من عاصمة إلى أخرى، كما هو حال للا جمالة العلوي، التي عُينت سفيرة للمغرب في واشنطن، بعد قضائها تسع سنوات على رأس السفارة المغربية في لندن، وأيضا رشيد بوهلال، الذي عين سفيرا للمغرب في طوكيو، بعد قضائه أربع سنوات سفيرا للمغرب في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبالإضافة إلى أهمية عدد التعيينات، فالأكثر أهمية هو المكان الذي ترأس فيه الملك محمد السادس مجلس الوزراء الذي تم خلاله المصادقة على هذه التعيينات. فبعقده مجلس الوزراء في مدينة العيون، يريد المغرب أن يبعث رسالة إلى المجتمع الدولي، مفادها أنه في الوقت الذي فشلت الجهود الدولية في إيجاد حل سياسي لنزاع الصحراء، فإنه عازم على تفعيل مقترح الحكم الذاتي، الذي تقدم به إلى مجلس الأمن سنة 2007. إن الاستقبال الشعبي الكبير الذي حظي به الملك محمد السادس من طرف الصحراويين في مدينتي العيون والداخلة ليعبر عن مدى تشبثهم بسيادة المغرب على الصحراء، وبالتالي فهو رد صريح على الادعاء الذي لا أساس له بأن البوليساريو هي الممثل الوحيد للصحراويين. من ناحية أخرى، تكتسي مكانة السفراء الذين تم تعيينهم في عدد من العواصم الرئيسية أهمية كبرى، خاصة أولئك الذين تم تعيينهم في واشنطنولندنوطوكيو وستوكهولم وكوبنهاغن وبروكسل. فكون المغرب عين عددا من النساء في مناصب دبلوماسية رئيسية يدل على أن الدولة عازمة على تنفيذ سياساتها في المساواة بين الجنسين، وضمان أن تلعب المرأة دورا محوريا في تشكيل توجهات السياسة الخارجية المغربية الجديدة. وبالنظر إلى تعيين الدبلوماسي المحنك ناصر بوريطة في منصب وزير منتدب لدى وزير الشؤون الخارجية، فإن هذه التعيينات تعبر عن رؤية جديدة للدبلوماسية المغربية، وذلك تماشيا مع الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس في مدينة العيون في نونبر الماضي. فخلال ذلك الخطاب، دعا الملك إلى "قطيعة جذرية" مع الطريقة التي كانت الحكومة المغربية تتعامل بها مع قضية الصحراء على الصعيدين المحلي والدولي. "اليوم، وبعد أربعين سنة، بإيجابياتها وسلبياتها، نريد إجراء قطيعة حقيقية مع الأساليب المعتمدة في التعامل مع شؤون الصحراء: قطيعة مع اقتصاد الريع والامتيازات، وضعف المبادرة الخاصة، وقطيعة مع عقلية التمركز الإداري." مركزية الصحراء في جدول أعمال السياسة الخارجية للمغرب إن تحليل خلفية المعينين في العواصم الرئيسية المذكورة أعلاه يبين أن المغرب يسعى إلى الدخول في حقبة جديدة في تعامله مع نزاع الصحراء، تطبعها روح المبادرة، بعيدا عن سياسة رد الفعل التي اتسمت بها الدبلوماسية المغربية في الماضي. وتظهر السير الذاتية للمعينين أن المغرب وصل إلى استنتاج مفاده أنه يجب عليه تعزيز مكانته في جميع الجبهات، وخاصة في البلدان التي اهتزت فيها صورة المغرب لدى الرأي العام، وبالخصوص في الدول الاسكندنافية. إن من بين أكبر عيوب الدبلوماسية المغربية في الماضي هو شبه غيابها من الدول المعروفة بمساندتها للبوليساريو. وكانت سياسة الكرسي الفارغ هذه تضر كثيرا بمصالح المغرب، إذ سمحت للبوليساريو والجزائر بحشد الدعم لموقفهما من الصراع. ولعل من أهم تجليات هذه السياسة الأزمة الدبلوماسية بين المغرب والسويد في الشهور الأخيرة، على خلفية نية الحكومة السويدية الاعتراف بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية المزعومة. وقد صًدم المغاربة أيما صدمة حينما اكتشفوا أن بلادهم لم يكن لها سفير في السويد، وهي أهم بلد اسكندينافي، منذ عام 2012، مما ترك المجال خصبا للبوليساريو لنشر مزاعمها ضد المغرب في مجال حقوق الإنسان، والاستغلال المزعوم للموارد الطبيعية بالصحراء. معركة حقوق الإنسان في الدول الاسكندينافية والمملكة المتحدة يبدو أن المغرب قد تعلم من التجارب السابقة، وخاصة من الأزمة الدبلوماسية السويدية، وهو الآن عازم على تحييد مناورات البوليساريو في هذه البلدان. فمن خلال تعيين أمينة بوعياش، الأمينة العامة السابقة للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، والسكرتيرة العامة الحالية للاتحاد الدولي لحقوق الإنسان (FIDH) سفيرة جديدة في السويد، وأيضا خديجة الرويسي، وهي ناشطة مخضرمة في مجال حقوق الإنسان، سفيرة في الدنمارك، تبرهن الرباط أنها التقطت الرسالة أخيرا. في الواقع، إن أفضل طريقة للتعامل مع الدول الاسكندينافية هي من خلال وجود المحاورين الذين يتكلمون لغتهم في مجال حقوق الإنسان، ولهم القدرة والمصداقية لقلب الطاولة على الخطاب الذي روجت له البوليساريو. فمن خلال تجربتهن الطويلة في الدفاع عن حقوق الإنسان على المستويين المحلي والدولي ستعمل هاتان المدافعتان عن حقوق الإنسان على تعزيز العمل الذي قامت به سعاد العلوي، السفيرة المغربية في النرويج، والتي سعت في السنوات الأخيرة إلى الدفاع عن موقف المغرب بخصوص الصحراء في الدول الاسكندينافية. الأمر نفسه ينطبق على لندن، حيث عين المغرب عبد السلام أبو درار، صاحب الباع الطويل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة الفساد. أبو درار، الذي لازال حتى الآن رئيس الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة، سيعمل على إكمال البناء الذي بدأته سلفه للا جُمالة العلوي. ومن خلال تعيين أبو درار، يسعى المغرب إلى تقديم شخصية لها سجل في مجال حقوق الإنسان، ستكون لها المصداقية في التعامل مع السياسيين البريطانيين ووسائل الإعلام والمتدخلين من المجتمع المدني، ومجابهة الادعاءات التي تنشرها جبهة البوليساريو ومؤيدوها في المملكة المتحدة؛ وبالإضافة إلى ذلك، فإن مكانته كمؤسس مشارك لمنظمة الشفافية المغربية يجعله أفضل محاور قادر على ربط قنوات الحوار بين منظمات تعمل في مجال حقوق الإنسان، كمنظمة العفو الدولية، ومقرها لندن، من جهة، والحكومة المغربية من جهة ثانية. في السنوات الأخيرة وصفت الحكومة المغربية تقارير منظمة العفو الدولية حول المغرب بأنها "منحازة ولا تعكس الواقع على الأرض"، وخصوصا في الصحراء؛ ولهذا، فإن تعيين أبو درار قد يساعد على معالجة الوضع بين الطرفين وإقامة الثقة بينهما. الاتحاد الأوروبي ومعركة استغلال الموارد الطبيعية في الصحراء لا يقل أهمية عما سلف ذكره تعيين أحمد رضا الشامي سفيرا للمغرب لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل؛ فبالنظر إلى بلاغته ومهارته في التفاوض كما هو معروف عنه سيتحمل وزير الصناعة السابق مسؤولية إصلاح العلاقات المتوترة بين المغرب والاتحاد الأوروبي؛ إذ إن العلاقات بين الطرفين تمر من أحلك فتراتها على مدى العقدين الماضيين بعد أن أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكما في دجنبر الماضي، يقضي بإلغاء الاتفاقية الزراعية بين الاتحاد والمغرب التي وقعت في عام 2012. واستند قرار المحكمة على ادعاء أن الاتفاق يتضمن منتجات من الصحراء. وعلى الرغم من قرار الاتحاد الأوروبي باستئناف الحكم، ظلت العلاقات بين الطرفين في حالة جمود. وسوف يكون لزاما على السفير الجديد إيجاد إستراتيجية جريئة للدفاع عن موقف المغرب بشأن الصحراء، ودحض الادعاء بأن المغرب يقوم باستغلال الموارد الطبيعية للمنطقة. وتأتي المشروعات العملاقة الجديدة التي أطلقها الملك محمد السادس في نونبر الماضي، وخلال هذا الأسبوع، بمثابة شهادة على أن المغرب عازم على تحويل المنطقة إلى محور للتنمية الاقتصادية، وصلة ربط بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء. وسيسعى السفير الجديد أيضا إلى إقناع الاتحاد الأوروبي بأن الوقت حان لمراجعة سياسته في ما يتعلق بالبوليساريو، خاصة في ضوء تقريره الذي كشف تورط البوليساريو والجزائر المباشر في اختلاس المساعدات الإنسانية الموجهة إلى الصحراويين في مخيمات تندوف، في جنوب غرب الجزائر. إعطاء وجه جديد للوجود المغربي في الولاياتالمتحدة لعل من أهم التعيينات على الإطلاق تعيين للا جُمالة العلوي سفيرة جديدة للمغرب في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد استبشرت الجالية المغربية في الولاياتالمتحدة خيرا بتعيين للا جمالة، ليس لأن رصيد سلفها كان ضعيفا، ولكن بسبب إرثها الكبير الذي تركته بعد مغادرتها المملكة المتحدة. فأثناء توليها منصب سفيرة للمغرب في لندن، نجحت للا جمالة في تحييد نفوذ جبهة البوليساريو، ومنع الحركة الانفصالية من اتخاذ خطوات كبيرة في حشد دعم الحكومة البريطانية. ومن خلال هذا التعيين الجديد في الولاياتالمتحدةالأمريكية يسعى العاهل المغربي إلى إعطاء دفعة جديدة للعلاقات بين الرباطوواشنطن، وتعزيز قنوات الحوار بين البلدين في ما يتعلق بمسألة الصحراء. وفي إطار التحضير للرئيس الأميركي الجديد الذي سيتم انتخابه في نونبر المقبل، يسعى العاهل المغربي إلى بث حياة جديدة في العلاقات الإستراتيجية بين البلدين، في ضوء التطورات على الأرض في السنوات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والدور المحوري الذي أصبح يلعبه المغرب في تحقيق الاستقرار في المنطقة ومكافحة الإرهاب. فكون الملك قد عين شخصا من عيار وتجربة للا جمالة يظهر أنه أخذ مسؤولية قضية الصحراء على عاتقه شخصيا، وأنه عازم على تجنب تكرار سيناريو عام 2013 عندما تقدمت السفيرة الأمريكية لدى الأممالمتحدة إلى مجلس الأمن بمشروع قرار يدعو إلى إنشاء آلية لمراقبة حقوق الإنسان في الصحراء ومخيمات تندوف. ويظهر أن الملك محمد السادس يدرك تماما أن أي حل للصراع يجب أن يأتي انطلاقاً من مبادرة من الولاياتالمتحدة، التي على عاتقها صياغة مشاريع القرارات حول الصحراء في مجلس الأمن. ولذلك، فإنه من الأهمية بما كان اعتماد إستراتيجية جديدة من شأنها أن تقنع الإدارة الأمريكيةالجديدة التي ستتولى السلطة في العام القادم بأن الوقت قد حان لتجاوز الحياد الإيجابي حول هذا الموضوع، وتقديم دعم واضح لخطة الحكم الذاتي المغربية كحل وحيد قابل للتطبيق، والذي من شأنه أن يضع حدا لنزاع الصحراء. في الوقت الذي نعتبر أن موجة التعيينات الجديدة خطوة على الطريق الصحيح، لازال من المبكر التنبؤ بالتأثير الذي سيكون لها على أداء الدبلوماسية المغربية، وإلى أي مدى سوف تساعد الحكومة المغربية على درء كل المحاولات التي ستتخذها الجزائر وحلفاؤها لإخراج العملية السياسية للأمم المتحدة عن مسارها والحفاظ على الوضع الراهن. ولعل الأشهر المقبلة، والطريقة التي سيتعامل بها الدبلوماسيون المغاربة مع التطورات الجديدة للقضية، والأزمة التي قد تنشأ، ستساعدنا على قياس كفاءة العمل الذي سيتم القيام به من قبل الدبلوماسيين المغاربة. ومع ذلك، هناك شيء واحد مؤكد؛ بالنظر إلى المكانة التي يتمتع بها المغرب كدولة محورية في الحرب ضد الإرهاب، وكلاعب رئيسي في أفريقيا في مجال التنمية المستدامة والتعاون في ما بين بلدان الجنوب، هو أن المغرب أصبح أكثر ثقة من ذي قبل ويتأهب لإحداث قطيعة تامة مع ممارساته السابقة واعتماد دبلوماسية نشطة وفعالة، من شأنها أن تساعد في نهاية المطاف على تمهيد الطريق نحو وضع حد للنزاع حول الصحراء. *خبير في قضية الصحراء ومستشار سياسي | رئيس تحرير موقع Morocco World News