طفا إلى السطح مؤخرا نقاش عمومي، خاصة داخل أوساط الباحثين والدكاترة غير الموظفين وكذلك الموظفين، نتيجة إصدار رئاسة الحكومة منشورا موجها للمسؤولين عن القطاعات الوزارية، يتعلق بموضوع الترخيص للدكاترة الموظفين من أجل اجتياز مباريات ولوج هيئة أساتذة التعليم العالي المساعدين. وفي هذا السياق لاحظنا وجود بعض الملابسات والمغالطات لدى مجموعة من المهتمين والمعنيين بالموضوع، ما استلزم تقديم عدة ملاحظات أساسية من أجل فهم سليم وشامل ومعمق للموضوع: الملاحظة الأولى : أصل الإشكال في هذا الموضوع ليس له علاقة مباشرة بمنشور رئاسة الحكومة الصادر مؤخرا (يوم 27 يناير 2016)، وإنما أساس المشكل يعود إلى لجوء الحكومة خلال القوانين المالية الأخيرة، ومنها قانون مالية سنة 2016، إلى تخصيص مناصب مالية لقطاع التعليم العالي، حصرا للدكاترة الموظفين. وهو إجراء فريد من نوعه يكاد يقتصر على مناصب التعليم العالي، فحتى بعض الوظائف العمومية الاستثنائية التي تتبع هذا النهج، إنما تخصص نسبة معينة للموظفين ولا تقصي أبدا المتبارين غير الموظفين. وتبعا لذلك فقانون مالية سنة 2016 خصص 530 من المناصب المالية المتعلقة بأساتذة التعليم العالي المساعدين، للدكاترة الموظفين دون غيرهم (الفقرة الخامسة من المادة 38 من قانون مالية سنة 2016)، وفي اعتقادنا المتواضع أن هذا الإجراء، هو خرق واضح لأحكام الدستور التي تؤكد على المساواة في الولوج للوظيفة العمومية على أساس الاستحقاق فقط، كما أن له أوجه سلبية عديدة. الملاحظة الثانية : منشور رئيس الحكومة لم يُضف أي جديد في هذا الشأن، حيث جاء في صلبه أن رئيس الحكومة "يطلب من الوزراء والمندوبين السامين والمندوب العام" أن يرخصوا للدكاترة الموظفين باجتياز المباراة ....، وقد سبق خلال السنوات الماضية أن صدر منشور في نفس الموضوع، والفرق هو أن المرسوم السابق كان عاما في حين أن الحالي يخص فقط مناصب سنة 2016. والواقع أن صيغة الطلب تحتمل القبول كما تحتمل الرفض، وبالتالي فالمنشور الحالي وكذا السابق، إنما يحث المسؤولين الحكوميين على التعامل بليونة مع طلبات الدكاترة الموظفين، والحاصل أنه حتى بعد صدور المنشور الحالي، سجلنا أن أغلب القطاعات الحكومية أو المديريات، لا تقبل الترخيص إلا استثناء، ما يفرز إشكالية حقيقية أخرى، تتمثل في عدم تحقق مساواة جميع الموظفين الدكاترة في اجتياز مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي المساعدين، فيظلون تبعا لذلك تحت رأفة رؤسائهم الإداريين، اللذين غالبا ما لا تكون قراراتهم عقلانية ومنصفة بالشكل الكافي في هذا الشأن. الملاحظة الثالثة : رفض القطاعات الحكومية الترخيص للدكاترة الموظفين لاجتياز المباراة المذكورة، يجد تفسيراته في عدة أسباب، أهمها أن القطاعات الوزارية، ابتداء من قانون مالية سنة 2014 (المادة 22)، لم يعد بإمكانها تعويض المناصب المالية الشاغرة، وهي الحالة القانونية التي ستنطبق على الدكاترة الموظفين الناجحين في مباريات توظيف أساتذة التعليم العالي المساعدين، بمعنى أن المسؤولين الحكوميين اللذين سيرخصون للموظفين باجتياز المباراة، في حالة نجاحهم، لن يكون بمقدرة القطاع الوزاري الذي سمح بتسريحهم تعويض هاته المناصب، وهو الإجراء الخطير الذي جاء به قانون مالية سنة 2014، وليس المنشور الحكومي. ويذكر أن هذا الإجراء خلق إشكالا كبيرا بخصوص انتقال الموظفين داخل القطعات الحكومية، حيث أن كل قطاع يتشبث بموظفيه. ومن الواضح أن هناك تناقضا كبيرا في التدابير الحكومية، إذ أن هذا الإجراء يتناقض بشكل كبير مع المرسوم المتعلق بإعادة انشار الموظفين، والحاصل أن القانون المالي هو الذي يتحكم في مرسوم إعادة الانتشار وليس العكس، مما يفرغ هذا المرسوم من محتواه الإيجابي. كما أن رفض الترخيصات يجد تبريره كذلك في عدم مبالاة المسؤولين عن القطاعات الحكومية بتوجيهات رئاسة الحكومة، فالأمر يبدو كأننا أمام بنيات وزارية مستقلة عن بعضها البعض، يتحكم فيها الوزراء تحت غطاء السلطة التقديرية للإدارة التي لا يحد منها أي شيء، في مقابل غياب أي تجانس وتكامل بين القطاعات على مستوى تدبير الموارد البشرية، حتى إن تعلق الأمر بالأطر المشتركة بين الإدارات. الملاحظة الرابعة : لجوء الحكومة الحالية إلى هذا الإجراء، الذي لا يعدو في واقع الأمر، عن كونه تحويل للمناصب المالية من القطاعات الوزارية المختلفة إلى إطار أستاذ التعليم العالي المساعد، يندرج ضمن سياسة براكماتية تقشفية تحايلية، انخرطت فيها الحكومة الحالية، تتمحور حول تقليص عدد المناصب المالية بشكل ذكي لا يلاحظه المواطن العادي، في أفق تقليص عدد الموظفين العمومين، بحيث أن 530 منصب المخصصة للدكاترة الموظفين بموجب قانون مالية سنة 2016، هي في الحقيقة ليست مناصب مالية جديد، وإنما هي مناصب موجودة سيتم تحويلها بكلفة أقل إلى قطاع وزاري آخر، مما سيعفي الحكومة من إحداث مناصب مالية جديدة ستكلفها أكثر، خاصة وأن المناصب التي ستحول لن يتم تعويضها طبقا لأحكام المادة 22 من قانون مالية سنة 2014 . الملاحظة الخامسة : يسجل كذلك أن هناك نوع من الموظفين الدكاترة المقصيون من هذا الإجراء، ويتعلق الأمر بالموظفين غير التابعين للميزانية العامة، ونقصد دكاترة المؤسسات العمومية والجماعات الترابية، فهؤلاء الموظفين، هم دكاترة موظفين بالإسم فقط، لم يذكرهم المنشور الحكومي، ولا يتم قبول ملفات ترشحهم من طرف الكليات، والسبب في ذلك أنهم لا يندرجون في الخطة البراكماتية للحكومة، حيث أنهم لا يتقاضون أجورهم من الميزانية العامة، ولا يخضعون لتحويل المناصب عن طريق مسطرة الإلحاق، فهم كذلك ضحايا لهذا الإجراء، واستثنائهم يؤكد على أن الرؤية المحاسباتية المالية الضيقة للحكومة هي المتحكمة في اتخاذ هذا الإجراء، وليس "تحسين مستوى التأطير الجامعي وسد حاجة المؤسسات الجامعية إلى الأساتذة الباحثين" كما جاء في المنشور، فلو كان هذا هو الهدف الحقيقي لتم فتح المباراة في وجه العموم، دون تمييز بين موظف عامل في هذا القطاع أو ذاك أو غير موظف، وهو الأمر الذي كان سيحقق الهدفين الاثنين بشكل شفاف ومنصف. مقترحات لتصحيح الوضع : في سبيل تجاوز هذه الاشكالات الناتجة عن هذا الإجراء، وإضفاء صورة شفافة ونزيهة ومنصفة للعمل الحكومي في هذا الشأن نقترح : 1- فتح مباريات توظيف أساتذة التعليم العالي المساعدين في وجه كافة المواطنين الحاصلين على شهادة الدكتوراه المستوفين للشروط المطلوبة، دون تمييز بين موظف وغير موظف، حيث يكون النجاح على أساس الاستحقاق فقط. 2- إلغاء مسطرة الترخيص الإداري لكافة الموظفين الدكاترة، (يمكن استثناء بعض القطاعات ذات الطبيعة الخاصة والحساسة، وذلك على وجه الحصر والتحديد)، أو إصدار قرار حكومي يلزم المسؤولين الحكوميين بضرورة قبول الترخيصات، تحت طائلة منح هذه الترخيصات من قبل رئاسة الحكومة في حالة رفض الرؤساء المباشرين أو التسلسليين، بوصف أن رئيس الحكومة يعد أعلى سلطة تسلسلية للموظف. 3- إلغاء المادة 22 من قانون مالية سنة 2014، والسماح للقطاعات الحكومية بتعويض مناصبها الشاغرة في حالة إثبات الخصاص، وتمنح لوزارة المالية سلطة تقديرية في الموافقة على منح التعويض أو عدم الموافقة، فتشبث المسؤولين الحكوميين بعدم التفريط في العاملين تحت إمرتهم، غالبا ما يشوبه الشطط والحيف والظلم، ولا يكون السبب فيه دائما هو الخصاص، ولا يساهم في انتشار الموارد البشرية، كما أنه لا يسهم في حصول الكفاءات الإدارية على المناصب المتخصصون فيها أو التي يستحقونها. 4- منح وزارة التعليم العالي اختصاص إجراء مباريات توظيف أساتذة التعليم العالي المساعدين، وتشكيل لجان من أعضاء يشهد لهم بالكفاءة والموضوعية والنزاهة لإجراء هذه المباريات، وذلك بذل تنظيمها من طرف الجامعات والكليات، حيث أن هناك شبه إجماع على أن النجاح في هذه المهنة وفقا للواقع الحالي، من دون تدخل أو وساطة من نوع ما، هو أمر أقرب للمستحيل أكثر منه قربا للواقع. *باحث في المالية العامة والقانون الضريبي، إطار بالإدارة العمومية