أبانت أحداث يوم الأحد 13 مارس بالدارالبيضاء، و ما واكبها من تبعات شدت إليها الأنظار للطريقة التي قمع بها الشباب المتظاهر، علاوة على الصحفيين و قيادات الحزب الاشتراكي الموحد و الطفلة رحاب التي كانت على موعد مع حفلة سلخ على الهواء الطلق ! حجم الهوة السحيقة الفاصلة بين الخطاب و الممارسة، ومعها مصداقية تحفظ المتحفظين من مدى نجاعة الخطب الموصوفة تاريخية في تغيير الواقع جغرافيا. فالحديث عن إصلاح عميق ! ولا تهم التسمية التي تتدثر بها، مجرد كلام على الورق، يفتقد إلى جسر الثقة و التواصل مع حركية 20 فبراير. و هو ما يجعلنا نصف ما حدث يوم 13 مارس بأنه مجرد ترجمة أمينة لواقع تدبير الاختلاف مع الشارع و الآخر المعارض عموما. الشيء الذي يتعارض مع مشروع الحريات و الحقوق والتغيرات الكبرى المرتقبة في مغرب الغد .و الذي يبدو أنه لا يريد أن ينفك بسهولة و يسر عن مغرب الأمس و ما أدراك ما مغرب الأمس ! لن نحاسب النوايا، و لكن أيضا لن نفكر خارج السياق. و السياق هبة شعبية عارمة لا تبقي و لا تذر، بدأت مع عالم الفايس بوك، تم ترجمت إلى حركة في 20 فبراير كاسحة للسهول و البقاع و القرى النائية،ناهيك عن المدن الكبرى. لتتحول إلى مبادرة ملكية غير "مسبوقة" بالحديث عن مراجعات دستورية، وإذا كانت المبادرة الملكية غير "مسبوقة" بالمقارنة من ناحية الموضوع و الوعود التي قطعها القصر على نفسه، فإنها في المقابل تحمل في طياتها أيضا صورة صريحة لحالة اهتراء النظام و مأزق تدبير المرحلة القادمة. أولا: و مهما يخلع على المبادرة من أوصاف بما فيها وصف بعض ناحتي المصطلحات و التعابير السياسية "بالثورة الدستورية" أو الانعطافة التاريخية، و ما أكثر ما انعطف المغاربة في مدة 15 سنة الأخيرة من انعطافات أنهكت خزان المصطلحات الوصفية العاجزة حقا عن وصف المرحلة الحالية،و هو ما يعد أزمة توصيف سياسي، فإنها تبقى ردة فعل و ليست فعلا منشئا ! و هذه حقيقة لا يمكن القفز عليها، إنها ردة فعل على مطالب الشارع المغربي الهادر الذي لم يتوقف عن الحركة و الخروج منذ20 فبراير، وردة فعل على تهاوي الأنظمة العربية تباعا، وأعتقد جازما أنها المرة الأولى التي يخرج فيها جزء من المغاربة على امتداد الوطن في هبة شعبية تمزج فيها المطالب الدستورية بالمطالب اليومية في معادلة ثورية بكل معاني الكلمة، و إن كان الشباب هو الواجهة البارزة للحركة الشعبية، إلا أن قوتها في شعبيتها الغامرة، علما بأن الشباب هو أبرز ملمح للأزمة. و هنا أود أن أقف على ملاحظة جوهرية حيث دائما ما يتم ربط الشباب بمطالب بعينها كالوظيفة والتشغيل، و الحال أن هذا جزء من المشكلة و ليس كل المشكلة، و إلا كيف يمكن تفسير خروج الشباب الحاصل على وظيفة معتبرة، كالمهندس و الطبيب و الإطار؟ لا شك أن الشغل ليس عامل إخراج لهؤلاء إسوة بالمهندس المصري وائل غنيم الذي لم تحركه هواجس مالية بقدر ما حركته هواجس سياسية،لأن التفسير الوحيد لخروج الشاب الإطار هو غياب الأفق العام و انسداده أمام تراكم جيلي، و استمرار الرتابة و الكآبة السياسية نفسها، و لنا أن نربط الأحداث بعضها بعضا ،فالمقدمة الصادمة كانت في 27 شتنبر 2007، و الرفض الشعبي العارم للحياة السياسية بكل تفاصيلها المملة، و طبعا الرسالة وصلت و لكنها لم تفهم بعد ! نتيجة أنه لا أحد كان في وسعه توقع اندلاع ثورة عربية شعبية عارمة، تسقط أعتى الأنظمة الشمولية المساندة غربيا، و أكثرها شراسة و قمعا للمعارضة، كالنظام التونسي الرهيب و نظيره المصري. طبعا كان من المستحيل أن يقنع حزب صديق الملك الشارع المغربي المستاء بجدوى المشاركة السياسية التأثيثية، فالقضية كانت أكبر من حزب! فما بالك إذا كان الحزب نفسه ولد ولادة قيصرية غير طبيعية، أو بتعبير عزيز علي أخصصه لوصف مثل هذه الولادات الحزبية القيصرية، بأنه ولد و له شنبات طويلة! أما المسألة الثانية، كون القصر قد غامر مغامرة غير مسبوقة بلعبه لورقة المراجعة الدستورية، ما يعني أنه رمى بكل أوراقه الثقيلة في الساحة و لم يستبق له شيئا، وهو ما يعني أنه لا يمكنه أن يقدم شيئا آخر بعد ذلك. والسؤال هل تم التفكير مثلا في لو أن الشارع الغاضب لم يقتنع بجدوى المراجعات الدستورية،مفضلا أشياء ملموسة محسوسة،كإسقاط حكومة أهل فاس،و حل برلمان ما تيسر و انتخب يوم 27 شتنبر 2007 أو برلمان 37%، و فتح ملفات الفساد المالي و متابعة ناهبي المال العام.... مع التأكيد على أن التحفظات الرافضة تزداد يوما بعد يوم،و أظن أنه لو تم إجراء مشاورات قبلية موسعة قبل الإعلان عن اللجنة، مع الأخذ بعين الاعتبار القوى الحية الحقيقة و على رأسها قوى ائتلاف 20 فبراير،لربما تم تسويق المسألة أفضل من التسويق الحالي الذي تولته الآلة الدعائية الرسمية المعزولة شعبيا، علاوة على الاعتماد على الواجهات الحزبية و السياسية الفاقدة للمصداقية الشعبية، بل المعادية أصلا لحركة 20 فبراير !حتى أن المتابع للإعلام الرسمي، يلحظ بأن التسويق الخارجي للمشروع و نيل عبارات الثناء من العواصمالغربية، أكثر أهمية من الاستماع إلى من يعنيهم الأمر بالداخل،و هذا لعمري حلقة واحدة من مسلسل مفارقات الزمن السياسي المغربي ! أكيد ان هذا السؤال تم تجازوه لسبب بسيط ،هو أنه تم التفكير بالآلية القديمة المعتمدة على أحزاب تقبيل الأيادي و الظهائر و كل ما يأتي من أعلى، الأحزاب التقليدية بوصفهم فاعلين أو مفعولين طيعين لن يجرأوا على مجرد المساءلة أو المناقشة،لأنهم ليسوا في مستوى اللحظة الفارقة الحالية،فلا يمكن لمنظومة أحزاب "نعم سيدي أعزك الله"ان تجاري منظومة الفعل السياسي الجديد الرافضة لكل مسلمات التقديس الماضية.و إلا فكيف ننتظر من المنظومة الحزبية التقليدية أن ترفض و تعارض القصر و لو لمرة و واحدة ! إنهم سوف يطيرون فرحا و طربا نتيجة المكتسبات السياسية التي سيحصلون عليها، والتي أكيد أنها تفوق طاقتهم الاستيعابية. و لن أبالغ بالقول أن ما قدمه الملك يفوق بكثير ما كان من الممكن أن تتقدم به هذه الأحزاب نفسها و لو حتى في منظومة أحلامها، باستثناء أحزاب اليسار الراديكالي و جماعة العدل و الإحسان. للأسف الشديد،لم يتم استيعاب الواقع بكل ثناياه و تضاريسه الجديدة، وأركز على الفاعلين الجدد و الواقع الجديد، حيث الفاعلون الحقيقيون يقبعون في الشارع و الساحات و يحتلون ساحة الفايس بوك احتلالا بينا.و مطالبهم و هذا شيء جد محوري، يزداد سقفها يوما بعد يوم، بل كلما تم قمعها كلما تم دعمها دعما ذاتيا و التفافا جماهيريا أكثر من الأول، فالمواطن المغربي لم يعد يطق لغة القمع و هراوة المخزن بتاريخها المجيد في قمع الرأي الآخر و التنكيل بكل من يقول لا أو حتى لكن! فصراحة يستحيل أن نجمع بين الشيء و نقيضه. فكيف يمكن إقناع المغاربة بأن المرحلة القادمة ستكون مرحلة حريات و حقوق و نهاية لأسطورة الخطاب السياسي المقدس، و في الوقت نفسه يتم قمع المتظاهرين سلميا في أزقة الدارالبيضاء و مطاردتهم مطاردة هستيرية رهيبة لدرجة أنها لم تستثن لا الصحافة و لا أطر الحزب الاشتراكي الموحد الذي روع في مقره ترويعا في صورة تعيدنا كرها إلى مغرب الأبيض و الأسود. إن إشكالية الخطاب الرسمي أنه يشتغل بآليات قديمة ولا يمكنه ان يقتنع بهذه السهولة بأن الرقعة السياسية قد تغيرت رأسا على عقب منذ 14 يناير 2011 عقب سقوط النظام التونسي القمعي، و تكرس ذلك بعد ثورة ميدان التحرير التي أثبت أن الثورة الشعبية حقيقة لا خيال ولا كلام فارغ كما وصف أحمد أبو الغيط وزير خارجية حسني مبارك عندما علق على استحالة تكرار النموذج التونسي بمصر.فالمطالب و الهبة قد تبدو في الوهلة الأولى تافهة حالمة فايسبوكية، ويزيد من اغترار السلطة صحافة التضليل الرسمية و الخاصة التي استهزأت من 20 فبراير و نعتتها بكل الأوصاف و النعوت حيث هيئ للمخزن أنه يسهل استيعابها أو حتى قمعها و تشريدها. لكن الحقيقة كانت غير ذلك، حيث كلما قمعت الحركة الاحتجاجية و معها الشارع كلما قويت، وكلما قمعت كلما ارتفع سقف المطالب.و التي لا حدود لها.لهذا لن نجازف إذا قلنا أن الثورة العربية ل 2011 هي ثورة أحلام تخترق الواقع العربي لتغدو حقيقة ماثلة للعيان. بل هي ثورة تطوي آلاف السنوات الضوئية من التاريخ السياسي العربي الراكد.و لربما نتيجة هذا التغيير الهائل الطارئ على الشعب العربي الذي كان قبل ثلاثة أشهر مجرد ملايين من "القطعان البشرية" أو "الجرذان " و "المهلوسين"، بتعبير السفاح القذافي الذي لم يهضم أن تثور عليه الثورة الشعبية و هو معمر الثائر! أبو الثورة و الثوار.صراحة شيء و لا حتى في الأحلام ! إن المشكلة في المغرب أن الخطاب السياسي الرسمي لم يعد مؤثرا و لا مقنعا، و حتى و إن كانت نواياه أصدق مما يظن أكثر المغاربة تشاؤما، لشيء بسيط أن الكلمات نفسها و العبارات نفسها قد تم توظيفها و استهلاكها من ذي قبل، بل إن المواطن المغربي لم يعد يؤمن بحاسة السمع من الأساس،باعتبارها بوابة للأماني الإنشائية و الوعود الوردية،فهو لا يعتقد إلا بما تلمسه يداه و تبصره عيناه، و ما نلمسه صراحة شيء لا يسر و لا يشرف على الإطلاق. و يكفي مهزلة يوم الأحد 13 مارس بالدارالبيضاء كعربون على صدق توجساتنا و موضوعية طرحها التي تستند إلى أفعال لا أقوال.و اسألوا الطفلة رحاب أو حتى محمد الساسي و فاطمة الزهراء الشافعي عن الذي لمسوه و عايشوه و ذاقوه يوم13 مارس2011، ليتأكد للجميع الفرق الواضح الفاضح بين مغرب السمع و مغرب البصر ! [email protected]