سيمثل المؤتمر الثالث لحزب الأصالة والمعاصرة حدثا سياسيا استثنائيا في سياق انعقاده وتحدياته وتداعياته التي ستتجاوز دائرة الحزب لتؤثر في المشهد السياسي بكل مؤسساته، بل إنه مؤتمر سيحبس الأنفاس بالنسبة للدولة التي خرج من رحمها وبالنسبة لكل الأحزاب، خصوصا حزب العدالة والتنمية الذي سيقرأ في انتخاب الأمين العام المقبل عدة رسائل مشفرة، وعلى أساس هوية هذا الأمين العام، سيحدد "البيجيدي" علاقاته مع الدولة والأحزاب، خصوصا منها "البام" والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي والاستقلال. سياق المؤتمر الثالث لحزب "البام" ليس كسياق المؤتمر الأول (2009) ولا كسياق المؤتمر الاستثنائي الثاني (2012)، لأن سياق عقد المؤتمر الثالث وتحدياته السياسية والتنظيمية ما زالت غامضة ومعقدة، حتى إن أحد قياديه قال: "الحز ما زال عصي الفهم، معقد الضبط، يستوعب المنخرطين دون أن يستوعب هؤلاء طبيعته وخباياه، يعيش بين السرية في أذهان قيادييه (ربما لأنها من ثقافة اليسار)، وبين العلانية في الوجود السياسي (ربما من ثقافة القرب من النظام)"، وهذا فيه شيء من الحقيقة لأن حزب "البام" لم يوضح بعد أين تتجلى أصالته وأين تتجلى معاصرته. سياق المؤتمر يعقد المؤتمر الثالث ل"البام" في سياق وطني صعب ودقيق يتميز بعدة مؤشرات: أول مؤتمر حزبي ما بعد الانتخابات الجماعية والجهوية- مؤتمر يعقد بعد بضعة شهور على إجراء الانتخابات التشريعية- مؤتمر يعرف فيه الحزب تحديات سياسية وتنظيمية- مؤتمر يعقد بعد هيمنة قياديين على الحزب منتمين لجهة معينة- مؤتمر يجد فيه الحزب صعوبة الانتقال من حزب الشخص إلى حزب المؤسسة- مؤتمر ما زال الحزب يبحث عن شخصية كارزماتية حولها الإجماع بعد رحيل صديق الملك عن الحزب – مؤتمر يبحث إعطاء صورة ايجابية عن الحزب لدى الرأي العام– مؤتمر ينظم في ظل تنافس قوي بينه وبين حزب العدالة والتنمية- مؤتمر يتوخى منه الحزب قيادة الحكومة المقبلة- مؤتمر يعقد في ظل محاولة بعض القوى فرض حصار على الحزب – سياق متميز بتراشق إعلامي قوي بين أحد قادة الحزب... الخ. يتبين إذن أن السياق العام الذي ينظم فيه "البام" مؤتمره الثالث هو سياق صعب ودقيق وسيضع الحزب في محك حقيقي، إما أن يكون مؤتمرا ناجحا يجعل الحزب يتجه إلى الانتخابات التشريعية المقبلة 2016 قويا أكثر من أي وقت مضى، أو مؤتمرا يفتح مستقبل الحزب على كل الاحتمالات. مؤتمر كل التحديات التحدي الأول: الحسم في المرجعية الإيديولوجية والفكرية رغم مرور عدة سنوات على إنشاء الحزب، فإنه لم يتوفق في توضيح مرجعيته الإيديولوجية. فالقارئ لوثائق الحزب والمتتبع لخطابات قادته ومسؤوليه يلاحظ أنهم لا يتكلمون المعجم نفسه ولا يلتزمون بلغة سياسية موحدة ولا ينطلقون من المرجعية نفسها، وطبيعي أن يبرز هذا الخلاف المفاهيمي والفكري في سلوك وخطاب قادة الحزب. والأكيد أن الحزب سيحاول في مؤتمره الثالث تعميق النقاش حول مشروع الحزب السياسي والإيديولوجي ليحدد مرجعيات أصالته ومعاصرته. فالباحث يجد صعوبة في تصنيف الحزب، فلا هو حزب ليبرالي يميني ولا هو يساري ولا هو وسطي ، الأمر الذي يفرض على الحزب أن يوضح مرجعيته السياسية والإيديولوجية في أرضيته المذهبية المعروضة على المؤتمر، وما تعنيه المرجعية من شمولية في المقاربات والمواقف، ومن أسس وثوابت عامة توجه سلوك وعمل الحزب. وفي هذا الصدد، يرى أحد الباحثين أن اعتبار قادة "البام" توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وكذلك تقرير الخمسينية مرجعية، هو تأكيد يعكس غياب المرجعية لدى هذا الحزب: لكون تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة هي توصيات ومطالب وليست إطارا مرجعيا أو مرجعية إيديولوجية لأي حزب من الأحزاب المغربية. التحدي الثاني: صعوبة الانتقال من حزب الشخص إلى حزب المؤسسة أسس "البام" في بدايته على يد رجل دولة قوي مقرب من الملك وعارف بشؤون الدولة والشأن السياسي والحزبي، وهذا سر تحول الحزب- في زمن قياسي- إلى ظاهرة سياسية وحزبية مهيمنة، ولسنا بحاجة للبرهنة على الفراغ الذي تركه رحيل السيد فؤاد الهمة داخل "البام" وهياكله. ونشير إلى أن انتخاب الأمين العام للحزب في المؤتمرات السابقة، كان بالتوافق القبلي. أما في مؤتمره الثالث، فأكيد أن الحزب سيخرج عن هذه القاعدة وسيجتهد لينتقل "البام" من حزب الشخصنة إلى حزب المؤسسات. صحيح أن الحزب تمكن من الهيمنة على المشهد السياسي والحزبي بعد رحيل صديق الملك لكنه تعثر-نسبيا- في التدبير المؤسساتي، مما جعل الانتماء للحزب مبني على الولاء الشخصي أولا وعلى الولاء الانتخابوي ثانيا والولاء الجغرافي السياسي ثالثا. وقد أكدت النتائج الانتخابية الأخيرة هذه الوقائع. التحدي الثالث: الصراع على الأمانة العامة قبل انطلاق المؤتمر، برز تياران: تيار اليسار وتيار الأعيان، رغم نفي بعض قياداته أن الحزب لا يعرف صراع تيارات بل صراع أفكار. وتشير مصادر عدة إلى أن هناك حربا باردة بين عدة قياديين للترشح للأمانة العامة الحزب، خصوصا بعد الترويج بعدم بقاء مصطفى بكوري أمينا عاما ل"البام"، بحكم مهامه السياسية والإدارية المتعددة، مما جعل الأنظار تتجه نحو إلياس العماري، نائب الأمين العام والرجل النافذ داخل الحزب الذي ربط إمكانية ترشحه للمنصب بعدم ترشح فاطمة الزهراء المنصوري، العمدة السابقة لمدينة مراكش، أو عدم ترشح مصطفى بكوري لولاية ثانية، وأحمد اخشيشن القريب من المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، مؤسس الحزب، وإمكانية ترشح امرأة لذلك، فكل المؤشرات تدل على أن انتخاب الأمين العام المقبل للحزب سيبقى مفتوحا على كل الأبواب والسيناريوهات. التحدي الرابع: التقليص من "ريفنة" الحزب من القضايا التي ستثار عشية المؤتمر مسألة نوعية تشكيلة الحزب ومؤسساته، حيث لاحظ عدد من مناضلي الحزب، وأكده أحد قادته مؤخرا في خرجاته الإعلامية، سيطرة أبناء الريف على المراكز القيادية بالحزب، حيث يعتقد البعض أنه في حال انتخاب إلياس العماري أميناً عاماً فسيكون قد تمت "رَيفَنَة" "البام"، حيث يرأس مجلسه الوطني حكيم بنشماش، وفريقه بمجلس المستشارين عزيز بنعزوز، والناطقة الرسمية للحزب سهيلة الريكي، وجميعهم ينحدرون من منطقة واحدة هي الريف. والأكيد أن عددا من أعيان الحزب ومناضليه يراهنون في هذا المؤتمر على عودة التمثيلية الجهوية في تشكيلة أجهزة الحزب وتحمل المسؤولية فيه على أساس الكفاءة وتكافئ الفرص بين مناضلي الحزب. التحدي الخامس: كيفية ربط القوة الانتخابية بالشرعية الشعبية رغم تموقع الحزب عدديا في الخريطة الحزبية والسياسية، فما زال يعاني نوعا من العزلة الشعبية وما زال في حاجة لنوع من الشرعية السياسية لأن الوجود الحزبي "للبام" يكمن في الكائنات الانتخابية، مما أهله ليصبح حزبا انتخابويا أكدت كل المحطات الانتخابية بأنه يتميز بمشروعية انتخابية قوية مقابل شرعية شعبية ضعيفة. وعليه سيحاول في مؤتمره الثالث وضع خطة إستراتيجية لتسويق مشاريعه لتجاوز كل الصور والأفكار النمطية التي ألصقت به منذ نشأته، ليصبح حزبا تساوي قوته الانتخابية شرعيته الشعبية. وأعتقد أن الرجل القوي في الحزب إلياس العماري واع كل الوعي بهذه المسألة للتخلص من كل الصور السلبية التي ارتبطت به منذ تأسيسه. التحدي السادس: الخروج من مرحلة الولاءات إلى مرحلة الكفاءات يعرف الكل السياق الذي تم فيه تأسيس الحزب والغايات التي أسس من أجلها والطريقة التي كان يدبر بها، والمتتبع لأشغال تهيئ المؤتمر الثالث يلاحظ مدى رغبة مناضلي الحزب في الخروج من منهجية الولاءات في احتلال المواقع على حساب الكفاءات، فالحزب وأجهزته ومناضلوه قد وصلوا مرحلة المطالبة بالديمقراطية التشاركية في التدبير والتناوب على المواقع وفق الكفاءة والبروفايل ليس إلا. لذلك سيرفض المؤتمرون ثقافة الولاء والوصاية وسيطالبون باحترام ثقافة تكافئ الفرص، ومأسسة تدبير الحزب ومحاربة الشخصنة. التحدي السابع: موقع الحزب في الخريطة الحزبية يواجه الحزب تحديا كبيرا في كيفية التموقع داخل المشهد الحزبي، خصوصا بعد ما قررت بعض أحزاب المعارضة فك الارتباط والتنسيق مع "البام" والتقرب من خصمه حزب العدالة والتنمية، بعد نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة، مما جعل اللجنة التحضيرية تطرح سؤالين هامين في أوراقها المقدمة للحزب وهما: من نحن؟ وماذا نريد؟ تتفرع عنهما تساؤلات من قبيل: أي تحالف ممكن بعد الانتخابات التشريعية المقبلة التي يراهن فيها الحزب على قيادة الحكومة؟ وأي دور له في المشهد الحزبي؟ ومتى سيميز قادة الحزب في علاقاتهم مع الأحزاب بين التنافس السياسي والخصومة السياسية؟ وما هو الأمين العام الذي سينتخبه المؤتمر ليقوي تموقع الحزب في المشهد السياسي؟ التحدي الثامن: كيفية إنزال الحزب للجهوية اختار "البام" لمؤتمره الثالث شعارا له حمولات دالة: "مغرب الجهات، انخراط واع ومسؤول". شعار فيه رسائل متعددة؛ مفادها أن مستقبل الحزب والبلاد هو الرهان على مشروع الجهوية المتقدمة، والتي فاز فيها الحزب بخمس جهات كبرى وإستراتيجية. جميل أن يختار الحزب هذا الشعار لمؤتمره الثالث، لكن سنرى كيف سيدبر الحزب الجهات التي فاز بها؛ وهي جهات ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وتجارية وفلاحية هامة؟ وهل الأحزاب السياسية تتوفر على الموارد البشرية الكفيلة بأن تكون في مستوى الاختصاصات المخولة للجهات؟ كل هذه التحديات ستكون حاضرة في أشغال المؤتمر الثالث لحزب البام- ولو بدرجات مختلفة- لكنها ستطرح نقاشات حادة على مستوى اللجان والتوصيات. تداعيات المؤتمر تداعيات الحزب ستكون متعددة بالنسبة للحزب ذاته وبالنسبة للمشهد السياسي والحزبي والدولة. تداعيات المؤتمر الداخلية كل مناضلي الحزب ينتظرون لمحطة المؤتمر الثالث بكونها محطة الحسم في جوانب مهمة؛ منها تحديد الهوية والمرجعية والإيديولوجية، والرهان على مسألة التنظيم، ووضع حد للفاسدين والانتهازيين داخل الحزب، وجعل المؤتمر عرسا ديمقراطيا أساسه الشفافية والديمقراطية وتكافؤ الفرص واستقلالية القرار واحترام إرادة المؤتمرين في انتخاب أجهزة الحزب بكل حرية والتزام بقوانين الحزب، لتبرهن اللجنة التحضيرية لمناضلي الحزب أنه فعلا يمارس السياسية بشكل آخر. تداعيات المؤتمر بالنسبة للأحزاب ستتجه أنظار كل الأحزاب المغربية صوب مؤتمر "البام" وما سيفرزه من نتائج تتعلق بانتخابات هياكل الحزب مع طرح عدد من الأسئلة منها: هل ستفرز الانتخابات مكتبا سياسيا من اليساريين؟ من الأعيان؟ خليطا من اليساريين والأعيان؟ من سيكون الأمين العام المقبل؟ العماري؟ اخشيشن؟ المنصوري؟ بكوري؟ شخصية أخرى مفروضة من فوق؟ وهل سيمر في ظروف عادية أم إنه سيعرف ظروفا صعبة تعكس صعوبة شروط تنظيمه؟ والأكيد أن كل الأحزاب ستعقد لقاءات لأجهزتها العليا لتقييم مستقبل علاقاتها مع "البام" بعد نهاية أشغال المؤتمر، لأنها تعي بأن حزب "الجرار" أصبح رقما صعبا وأساسيا في كل معادلة سياسية بالمغرب، بل إنه مؤهل لأن يقود الحكومة المقبلة، خصوصا بعد فوزه الساحق في كل الانتخابات الأخيرة. خلاصة يعقد حزب الأصالة والمعاصرة مؤتمره الثالث في سياق حساس ودقيق، بعد شهور على إجراء الانتخابات الجماعية والجهوية، وقبل شهور من إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة، فهل سيشكل هذا المؤتمر منعطفا تاريخيا لتحويل شعارات الحزب الجذابة إلى ممارسات وأفعال؟ مؤتمر تحديد المرجعية والمذهبية وكذا الهياكل التنظيمية للحزب؟ مؤتمر تحول الحزب من حزب الأشخاص إلى حزب المؤسسات؟ وهل سيبقى وفيا لروح مشروع جيل جديد من الأحزاب؟ الأكيد أن انتخاب إلياس العماري أو أحمد اخشيشن أو أي امرأة أو شخصية يتوافق عليها، يمكن أن تكون من خارج قيادات الحزب البارزة أو إعادة انتخاب بكوري للأمانة العامة للحزب في هذا المؤتمر، ستتدخل فيه عدة عوامل داخلية وخارجية بهدف الحفاظ على أجندة الدولة والتوازن الحزبي في سياق سطع فيه نجم بنكيران وحزبه وتراجعت أدوار أحزاب الكتلة الوطنية، لذلك فإن مؤتمر "البام" سيحدد معالم المشهد السياسي المقبل. *أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية.أكدال.