جرت في 14 من يناير 2016 الاحتفالات بالذكرى الخامسة لثورة الياسمين التونسية، وهي احتفالات لم تكن في مستوى أهمية الحدث، في ظل اتساع دائرة التشكيك في طبيعة التحولات التي عرفتها تونس الشقيقة منذ خمسة أعوام، واللبس حول طبيعة التغيير الذي حصل، وما إذا كان ثورة أم انتفاضة أم هبّة عفوية، أم مجرد مؤامرة خارجية، خاصة إنه خلال السنوات الخمس الماضية، توالت على تونس ست حكومات متنوعة الاتجاهات السياسية، ولكن بسبب ضعفها وارتباكها، لم تحقق التغيير المنشود بعد الإطاحة بنظام بنعلي، حيث ظلت نسبة النمو الاقتصادي في تراجع مستمر إلى أن بلغت مع نهاية سنة 2015، 0.5 "%، مع ما تمخض عن ذلك من تفاقم مشكل البطالة، وانهيار القدرة الشرائية، وضعف الخدمات الاجتماعية. ورغم ما عرفه مسار الثورة من ارتجاجات شديدة وانتكاسات ظرفية ومتجددة في انتظار اكتمال بقية الشروط المفقودة لإتمام مسار الثورة، والاستفادة من التجربة والخطأ، فإن ما ميّز احتفالات هذه السنة يعطي الأمل في أن روح ثورة الياسمين لا تزال مستمرة، وأن الربيع التونسي لا يزال في صيرورة وتحولات انتقالية، وأن حلقاته لم تكتمل بعد. وهو ما نقوى على بيانه من خلال الدلالات الاحتفالية لهذه السنة، والتي يمكن اختزالها في ستة مشاهد تدل على استمرار روح الربيع العربي في الثورة التونسية، وبقاء الشارع والميادين الصوت المعبّر عن تطلعات الشعوب التي أنتجتها انتفاضات 2011، ويمكن رصدها في ما يلي: العودة إلى الشارع والميادين والساحات العمومية: لا شك أن انتفاضات الربيع العربي قلبت وظيفة احتفاليات الشارع رأسا على عقب، فبعد أن كانت الشوارع الرئيسية والساحات والميادين فضاءات تستثمرها الأنظمة العربية لإقامة مشاهد الولاء وتعظيم الحكام، واستجداء المنافقين والمتزلفين لهم، أصبحت فضاءات للاحتجاج والمطالبة بالحرية والكرامة، وهي الوظيفة التي لا يزال شارع الثورة (شارع الحبيب بورقيبة) يقوم بها. فقد غص هذا الشارع - بما يحمله من رمزية أطاحت برأس أكبر نظام بوليسي ديكتاتوري- بالجماهير التي تدفقت عليه في الذكرى الخامسة للثورة من كل صوب وحدب، لتعلن تشبثها بروح الثورة، وتحتج بأعلى ما في حنجرتها على الانحراف والاعوجاج الذي تنهجه كتائب النظام البائد وقوى الثورة المضادة، ومحترفو السياسة الذين التفوا على الثورة وسرقوها إلى الحد الذي أصبح البعض يدعو إلى ثورة ثانية ضد الأحزاب التي استأثرت بالسلطة، دون أن تفيّ بتعهداتها لأبناء تونس، وهو ما عكسته الشعارات والهتافات التي كانت تنتقد وتحتج على هذه التيارات التي خذلتها. حضور البعد "المواطني" في الشارع، وانحسار البعد الحزبي: اقتصر الحضور على بعض ممثلي حركة النهضة وأحزاب المعارضة، ممثلة في الجبهة الشعبية وحزب المسار وصوت الفلاحين وحركة الشعب وغيرها، علما أن ما ميّز ثورات الربيع العربي هو تجاوزها للأحزاب والإيديولوجيات المهترئة والزعامات الكاريزمية، واعتمادها على "المواطن" العادي البسيط. لقد تجسد البعد "المواطني" في احتفالات الذكرى الخامسة للثورة التونسية في الحشد الجماهيري الذي أعاد إلى الأذهان الأيام الأخيرة من دسمبر 2010 والأسبوعين الأولين من يناير 2011. كما تميز بالحضور الشبابي الذي يحيل على مرجعية البنية العمرية الشابة التي أبدعت ثورة 14 يناير 2011. وبهذا الحضور "المواطني" المكثف، لم يعد الشارع كما كان في العهد البائد فضاء للاحتفالات المزيفة والمكره عليها، بل بصم هذه السنة على أن المواطن التونسي بقدر ما يعتز بثورته ويسعد بتخليدها والاحتفاء بها، بقدر ما يجعل من الاحتفال في الشارع مناسبة للاحتجاج والنقد والتعبير عن الاستمرار في تحقيق أهداف الثورة، والتصدي للمتعاونين مع النظام السابق الذين تمّ تكريمهم بدل محاسبتهم. مقاطعة الأحزاب المعارضة حضور احتفالات قصر قرطاج ونزولها للاحتفال في الشارع: لعل أهم ما ميّز احتفالات هذه السنة يتمثل في مقاطعة بعض أحزاب المعارضة حضور احتفالات قصر قرطاج، واختيار شارع الثورة (الحبيب بورقيبة) فضاء رمزيا للاحتفال بالذكرى الخامسة للثورة التونسية. وهو ما يعكسه تصريح الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية الذي أعلن أنه قاطع دعوة الحضور لقصر قرطاج، لأن الذين يوجدون في القصر "لا علاقة لهم بثورة 14 يناير"، بحسب تعبيره، معتبرا أن واجبه الوطني يفرض عليه الاحتفال مع التونسيين في الشارع الذي لا يزال محتفظا بروح الثورة. وفي السياق نفسه، برّرت نائبة حزب التيار الديمقراطي مقاطعة حزبها للاحتفالات في قصر قرطاج بأنه نابع من رفض الاحتفال "مع من لا يؤمن بالثورة". الحضور المكثف لشهداء الثورة في الشارع والميادين: طغى ملف شهداء الثورة وجرحاها على تظاهرات شارع الحبيب بورقيبة، حيث رفعت عائلات الشهداء صوتها للتعبير عن احتجاجها على ما تعرضت له من قهر وعدم إنصاف، وصبّت جامّ غضبها على ما يحاك ضدها من تعتيم ومحاولات لإقبار ملفها، فكانت شعاراتها تحيل على مرجعية البوعزيزي المؤسسة للانتفاضة. كما أن هتافاتها القائلة "بأننا لن نستسلم، ثورتنا مستمرة"، تنهض دليلا على أن ثورة الياسمين لا يمكن طيّها، وأن جمرها لا يزال ملتهبا رغم ما قد يعلوها من رماد في بعض الفترات. خطب الشوارع والميادين: لمسة وفاء لروح الربيع العربي: يرجعنا المشهد الذي كان عليه شارع الثورة (شارع الحبيب بورقيبة) وبطحاء محمد علي في احتفالات الذكرى الخامسة لثورة 14 يناير إلى لحظات انتفاضات الربيع العربي، التي كانت الخطب والكلمات تملأ فضاءاتها في سنة 2011. فرغم مرور خمس سنوات على ثورة الياسمين، حافظ شارع بورقيبة، الذي يحمل رمزية كبرى في إسقاط النظام السابق، على ثقله وبريقه الحماسي، فكل الذين تحدثوا للجماهير، أكدوا على أن أهداف الثورة لم تكتمل، وأن الاحتجاجات ستتواصل من أجل تحقيق الشق الثاني من أهداف الثورة، وبلوغ سقف مطالبها، وهو الكرامة وتحسين الوضع الاقتصادي للبلد والمواطن، واقتلاع آخر أضراس النظام السابق التي تؤلم العهد الجديد. تدافع الأفكار في الشارع: شهد شارع الثورة في الذكرى الخامسة لثورة 14 يناير التونسية احتكاكات بين شعارات أنصار حزب التحرير وأنصار الجبهة الشعبية، وهي ظاهرة صحية تعكس حركية الشارع التونسي، ومدى استمراره في نسج خيوط التغيير. كما تدل على مدى الوعي بضرورة تدافع الأفكار وتعددها، وتوافر شروط الحرية التي يغبط عليها الشعب التونسي الشقيق، بعد أن كان النظام السابق يقمع أي صوت يعاكس اتجاهه. وفي كل الأحوال، فإن احتفالات الشعب التونسي بالذكرى الخامسة للثورة، أفرزت ظاهرة العودة للشارع كفضاء للمطالبة باستكمال حلقات الثورة، وبناء الأسئلة حول كيفية تخصيب المنجز الانتفاضي وتصعيده. كما أفرزت توليفة جديدة مركّبة نعبّر عنها بمقولة "الاحتفال والاحتجاج" إلى أن يرث الله الثورة ومن عليها. *أكاديمي ومؤرخ مغربي