هل الأحداث المؤلمة الدائرة الآن بين الأساتذة المتدربين و من والاهم و بين السلطات الأمنية صراع سيحسب على أزمة التعليم في بلادنا أم هو صراع من أجل الحق في الوظيفة العمومية. من البديهي أن نجيب بكونه في نفس الآن صراعا من أجل الحق في التوظيف، لكن في مجال سيادي للدولة، ألا و هو التعليم العمومي. و من السهل أن نردد أن هذا القطاع تتجلى معاناته في خصاص الأساتذة و أنه يزحف عليه التعليم الخصوصي فيهدد توازنه. و هكذا، يبدو نضال المتدربين ذا مشروعية مزدوجة. و إذا سلمنا أن هذه الأزمة، و التي تنبأ لها البعض بأن تقدح الشرارة لنار احتجاج الشارع من جديد، يمتزج فيها التوظيف العمومي بأزمة التعليم، فما حقيقة العلاقة السببية بينهما؟ هل التوظيف المباشر للأساتذة سيساهم في التخفيف من أزمة التعليم، أم أن التعليم، في شقه العمومي هو الذي يعاني من سياسة التوظيف التي اتبعتها الدولة منذ عقود، بما اعتراها من مشاكل الانتقاء ثم التكوين ثم التخريج ثم التكوين المستمر. ولعل هذه الأزمة التي آلت إلى ما لا نحب أن نراه في مغرب 2016 من مواجهة عنيفة بين الشباب حاملي المطالب و بين الأمنيين حاملي الهراوات، تشكل فرصة غالية الثمن لوقفة تأملية حول منهجية المطالبة بالحقوق من جهة، مقابل تدبير السياسات العمومية من جهة أخرى. و لنبدأ بهذه الأخيرة، حيث أظهرت لنا تكرار مشهد سابق مع مشروع قرار تعيين الأطباء المتخرجين في المناطق النائية، و الذي فجر أزمة مستدامة اتفقت الأطراف حولها في النهاية، وكذا الرأي العام، بأن القرار لا عيب فيه ، , أن الطريقة التي اتخذ بها هي التي كانت تفتقر إلى التشاور المسبق و التحاور ليس إلا. و ها نحن مجددا أمام سيناريو تم فيه إصدار مرسومين في عز الصيف، لم يفطن لهما المعنيون بالأمر إلا بعد حين، مما ولد لديهم مرارة الأمر الواقع و زج بهم إلى الشارع في 12 نوفمبر المنصرم، بعدما اكتفت الحكومة بإعلان تمسكها بالقرارين. ولعل مبادرة قبلية إلى التشاور مع المعنيين مباشرة من طرف الوزارة، و التحاور معهم و إقناعهم بصواب القرار و إيجابيته في تجويد مسلسل التكوين و التوظيف كان من شأنها تمرير القرار بسلام. نعم، نقول هذا بعد حصول الحاصل، حيث أن الحكومة يصعب عليها تحسب عواقب كل واحد من القرارات مع مضاعفاتها المتوقعة و التعامل معها كلها بهذه المسطرة. و لكن الحق يبقى حقا، و تستوجب الظروف المضطربة لبعض القطاعات الحساسة مثل الشغل و التعليم تعبئة قصوى، لا سيما إذا اجتمعا في ملف واحد. إن هذه الأزمة لا تعدو أن تكون، كما يعبر عنها أصحابها، أزمة تشغيل. و منها العبارات المنادية إلى الحفاظ على حقهم في التوظيف، و الدفاع عنه حتى الموت. ألم نقرأ في اللافتات الاحتجاجية "إما الوزرة أو الكَفَن" ، ترافقها تصريحات مدوية لمتزعمي الحركة الاحتجاجية، على غرار " إنَّ مسيرة اليوم التي نخوضها في الرباط ليست سوى بداية معركة تاليّة ستكون ضاريّة" و كذلك "نحنُ لسنا سوى تلك الرصاصة التي توجدُ في فوّهة البندقية، وستليها رصاصات أخرى". إنني أتفهم المعانات التي تؤدي بالشباب إلى مثل هذه المواقف من جانبها الاجتماعي. الأزمة الاقتصادية مستمرة، و فرصة الشغل تتناقص، و قدرة النسيج الاقتصادي على توليد مزيد من المناصب تلجمها نسبة النمو الاقتصادي الضئيلة، من جراء الأزمة العالمية... أضف إلى ذلك الضعف النسبي للتكوين و التأهيل المهني للشباب، بسبب تدهور المنظومة التعليمية و التكوينية من حيث الجودة. فلعل ضعف الثقة لخريجي الجامعة في قدراتهم الذاتية، تواصليا و عاطفيا و مهاراتيا، و لعل ضبابية سوق الشغل الذي يوفره النسيج الاقتصادي الوطني هما اللذان يدفعان الشباب على ضفاف الوظيفة العمومية، راجينمنها أن ترحم عجزهم أمام أساليب الانتقاء الشرس للقطاع الخصوصي، و أن تحمي هشاشة وضعهم أمام القسوة المهنية لأرباب المقاولات تجاه الشغيلة. و إلا، كيف نفسر هذا التشبت المستميت بالوظيفة العمومية، على علاتها؟ لأن هذه الأخيرة، إذا كانت توفر الأمن في الشغل و الأجرة، فإني على اقتناع أن علاتها كثيرة و متعددة... في الغالب و ليس كقاعدة عامة. منها الرتابة في تطوير الموارد البشرية، و ضعف التكوين المستمر و قلة التكيٌف مع الوظيفة، و انسداد الأفق أمام التنمية الذاتية و تحقيق الذات، و عدم الانتشاء بتوليد القيمة المضافة على الصعيد الشخصي و المساهمة المواطِنة في التنمية على الصعيد الجماعي، و غير ذلك. و ما ذاك إلا أن الدولة، كما هو الحال في العديد من البلدان النامية، أخذت على عاتقها من الوظائف أكثر مما تتحمل، فأغرقت حظوظها لتدبير الشأن العام بشكل فعال في أوحال البيروقراطية و في عوائق تضخم المؤسسات. و من هذه المؤسسات التربية و التعليم بالذات، و كذلك الصحة. فهل يتصور المقبلون على التوظيف في سلك التعليم أن ظروف قطاع التعليم العمومي حاليا لا تسمح له بتوفير الجودة المطلوبة بالنظر إلى متطلبات المجتمع المعاصر و سوق الشغل، بسبب ضخامة حجمه و تراكم إخفاقاته؟ و هل يشعر هؤلاء المتدربون أنهم إذا انضموا إلى مئات الآلاف من زملائهم باتخاذ نفس المسلسل التوظيفي الجاري به العمل، و الذي لا يراعي الانتقائية و لا يكرس ثقافة الاستحقاق، أن دخولهم إلى منظومة التعليم قد يكون قيمة سالبة لا قيمة مضافة؟ و لو وفر لهم ذلك ضمان المنصب و استمرارية الأجرة و التقاعد المريح. نعم، إنه من الصعوبة بمكان لبعض الشباب أن يفتح أعينه على الواقع، و أن يحاسبوا أنفسهم و يضعوها على محك الأفضلية و الاستحقاق، و أن يشاهدوا بأم أعينهم الزميل المتفوق في مبارة التوظيف يفوز بالوظيفة، بينما يستسلم البعض الآخر لتلاطم الأمواج. لكن هل فكرتم في ما ينتظره منكم التلاميذ، و إن عجزوا على النطق به؟ و هل علِمتم ما يتطلع إليه الآباء الذين يستأمنونكم على أبنائهم؟ قد يتفهمون حرصكم على حقوقكم الاجتماعية في هذا الزمن العصيب، و لكن إذا كان حقا أمن الوظيفة حافزا لكم على البذل و العطاء و تفتق إبداعكم و مواكبتكم للمتطلبات المعرفية و المنهجية للعصر. لأن هذا بالذات ما ينتظرونه منكم، و لأنهم يستحقون لأبنائهم ألًا ينضم إلى وظيفة التعليم إلا أحسنكم، و لن تنفعكم الوزرة التي فزتم بارتدائها يومئذ. ما البأس في ذلك؟ أوليس هذا هو الإصلاح الذي جاء به المرسومان اللذان تحاربونهما، و اللذان لم تُفسر لكم حقاً مقتضياتهما و تأثيرهما على جودة المنظومة؟ كل ما في الأمر هو أن تًوَسع قاعدة الملتحقين بمراكز التكوين حتى يتسنى مضاعفة فرص الوقوع على العناصر الجيدة، و لو اقتضى الأمر أن نقسم بينهم نفس الميزانية الإجمالية للمنح المتوفرة. أوليس المتدربون المرشحون إلى الوظيفة في قطاعات أخرى لا يتقاضون فرنكا و لا إثنان، لمحاكاة العبارة الرائجة حاليا؟ شأنهم شأن الأساتذة المتدربية في أغلبية الدول. ثم نختار بعد التكوين المتميزين منهم عن طريق مباراة، يجب أن تشمل اختبار قدراتهم التواصلية و ذكاءهم العاطفي و تأدبهم و حسن خلقهم، بالإضافة إلى معارفهم و مهاراتهم التعليمية. فما البأس في ذلك؟ إن الأمر جِدٌ و ليس بالهزل. إنه مصير أبنائنا و وطننا. أو ليست القوى الوطنية كلها مجمِعة على إصلاح التعليم؟ ثم إني تساءلت عند الاطلاع على المبررات الإيديولوجية للحركة الاحتجاجية، لمذا هذه النظرة الازدرائية القاتمة لمآل المترشحين الذين لا يفوزون بالوظيفة العمومية؟ يتطلع خطاب الوزارة المصدرة لمرسوم الانتقاء أن يتوجه باقي المترشحين بعد المباراة إلى التعليم الخصوصي، فما العيب في ذلك؟ أليست مؤسسات التعليم الخصوصي المتميزة توفر مسارات مهنية محترمة و أجوراً لا بأس بها؟ أليست تُعلِم أبناء المغاربة و تربيهم؟ صحيح أنها لا تُقدم الوزرة إلا لمن يستحق، و أنها قد تنزعها مِمن لا يواضب و يثابر، فما البأس في ذلك؟ هل يستحق التعليم الخصوصي من أجل ذلك أن يُنعت "بالقطاع الذي ينهش أجسامنا" كما قال المتظاهرون، والذين يتهمون الحكومة بالإجهاز على قطاع التعليم العمومي، إمتثالا للإملاءات البنك الدولي. و هل تساءلنا لمذا لم يشتك هذا القطاع الخصوصى من أن مسلسل الانتقاء المدبر من طرف السلطات العمومية احتفظ للقطاع العمومي بأحسن العناصر و ترك له الباقين. لعل الجواب أن هذا القطاع قادر على تكوين هؤلاء العناصر و لو لم يكونوا من المتفوقين، تكوينا مستمرا يؤهلهم إلى الارتقاء و التمكين من الجودة المهنية. أيها السالكون درب التربية و التعليم، تعالوا إلى التفاهم حول مصالحكم الحقيقية و المصالح العليا لوطننا، و اتخاذ سلوك مواطن. خذوا أمركم بعزم و ثقوا في قدراتكم الذاتية و اعتمدوا على إرادتكم للولوج إلى عالم الشغل باستحقاق و همة. إن لم تنفذوا إلى الوظيفة العمومية، فالتعليم ساحله أوسع منها. فوزوا بفرصة للتكوين ثم اعتمدوا على طاقاتكم الشبابية. و من جهة أخرى، لا تتيحوا الفرصة إلى بعض التيارات السياسية و الانتهازية أن تركب على جراحكم في الشارع، و تستغلها سياسيا و نقابيا، كما استُعمل تاريخيا الدم على قميص عثمان من طرف الأمويين على المنابر للانتصار إلى قضيتهم السياسية و معركتهم من أجل الحكم. إذا كانت المعركة من أجل إصلاح التعليم شأنا مواطنا يسعى إليه الجميع، فلا تعكرنه مطالب اجتماعية و حقوقية مشروعة، لم يتم التعامل معها بالرفق و الحوار اللازمين. *استشاري في التربية و التكوين